الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وابن الحاجب (1)، وابن قدامة (2)، ونسبه الشوكاني للجمهور (3).
*
القول الثالث:
التفصيل.
فاختار ابن برهان - ونسبه للشافعي أيضًا - أنه إذا كانت المصلحة ملائمة لأصل كلي من أصول الشرع أو لأصل جزئي، جاز بناء الأحكام عليها وإلا فلا (4).
وذهب الغزالي إلى جواز اعتبار المصالح المرسلة، بشرط أن تكون تلك المصلحة ضرورية قطعية كلية (5).
وكذلك الشاطبي اشترط أن تكون معقولة في ذاتها، ملائمة لمقصود الشارع، حقيقية لا وهمية، حاصل أمرها راجع إلى رفع الحرج عن المكلفين (6).
حقيقة الخلاف:
مع أن كثيرًا من الأصوليين نقل الخلاف هكذا في كتب الأصول إلا أن كثيرًا من الأئمة صرح بأن اعتبار المصالح المرسلة لا يخص مالكًا وحده، بل
(1) تحفة المسؤل (4/ 241).
(2)
روضة الناظر (1/ 509).
(3)
إرشاد الفحول (2/ 990).
(4)
أصول ابن برهان (2/ 290).
(5)
المستصفى (2/ 489).
(6)
الاعتصام (2/ 377).
هو معتبر عند جميع الأئمة، فمن ذلك قول ابن دقيق العيد (1):"الذي لا شك فيه أن لمالك ترجيحًا على غيره من الفقهاء في هذا النوع، ويليه أحمد بن حنبل، ولا يكاد يخلو غيرهما عن اعتباره في الجملة، ولكن لهذين ترجيح في الاستعمال على غيرهما"(2)، وكذلك القرافي أيضًا: فقد قال: "يحكى أن المصلحة المرسلة من خصائص مذهب مالك، وليس كذلك، بل المذاهب كلها مشتركة فيها، فإنهم يعلقون ويفرقون في صور النقوض وغيرها، ولا يطالبون أنفسهم بأصل يشهد لهذا الفارق بالاعتبار، بل يعتمدون على مجرد المناسبة، وهذا هو عين المصلحة المرسلة"(3).
ثم يقول عن الجويني أنه ضمَّن كتابه الغياثي أمورًا من المصالح المرسلة التي لم نجد لها أصلًا يشهد بخصوصها بل بجنسها، وهذا هو المصلحة المرسلة، فمن ذلك: أنه قال - أي الجويني -: "إذا ضاق بيت المال يجوز أن يجعل على الزرع والثمار مال دار مستقر، يجبى على الدوام، يستعين به الإمام على حماية الإسلام من غير أن يتوسع فيه". قال القرافي: "وهذا ليس له أصل في الشرع، بل النصوص دالة على نفيه، كقوله عليه السلام: "لا يحل مال
(1) هو: محمد بن علي بن وهب بن مطيع بن أبي الطاعة القشيري، أبو الفتح تقي الدين، الفقيه، الأصولي، المحدث، له تصانيف عديدة نافعة منها:"الإمام شرح الإلمام"، و "شرح عمدة الأحكام"، توفي سنة 702 هـ.
[طبقات الشافعية للسبكي (9/ 207)، شذرات الذهب (8/ 11)، الدرر الكامنة (4/ 91 / 256)].
(2)
نقله الزركشي في البحر المحيط (6/ 77).
(3)
نفائس الأصول (9/ 4279).
امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه" (1)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولاضرار" (2)، وغير ذلك، وقال: "ليس في المال حق سوى الزكاة" (3)، وقد ترك هذه الأصول كلها لأجل هذه المناسبة التي لم يتقدم في الإسلام اعتبارها"(4).
وكذلك الزركشي ينقل أيضًا عن البغدادي (5) قوله: "لا تظهر مخالفة مالك للشافعي في المصالح"(6)، ونقل الدكتور مصطفى زيد في رسالته عن ابن تيمية وابن القيم من النقولات ما يدل على أن المصلحة عند الحنابلة أصل تشريعيّ، لكن بشروط تقارب ما يشترطه المالكيون من ضرورة ملاءمتها لمقصد الشارع، وأن تكون جارية على المناسبات المعقولة التي تتلقاها العقول بالقبول،
(1) رواه أحمد [(34/ 299 / 20695) الأرنؤوط (5/ 72) الهندية]، وصححه الألباني في الإرواء (5/ 279 / 1459).
(2)
رواه ابن ماجه (2/ 784 / 2340) كتاب الأحكام، باب من بنى في حقه ما يضر جاره، وصححه الألباني في الإرواء (3/ 408 / 896).
(3)
هذا الحديث رواه ابن ماجه (1/ 570 / 1789) كتاب الزكاة، باب ما أدي زكاته فليس بكنز، ورواه الترمذي (3/ 48 / 659) كتاب الزكاة، باب ما جاء في أن في المال حقًا سوى الزكاة، بلفظ:"إن في المال لحقًّا سوى الزكاة"، وذهب الألباني إلى أن كلا اللفظين ضعيف، وقد ضعف الترمذي اللفظ الثاني.
[السلسلة الضعيفة (9/ 370 / 4383)].
(4)
نفائس الأصول (9/ 4279) وما بعدها.
(5)
هو: إسماعيل بن علي بن الحسين البغدادي الحنبلي، اشتهر بغلام ابن المنى، فقيه أصولي نظار متكلم، من كتبه: جنة الناظر وجنة المناظر، توفي سنة 610 هـ[ذيل طبقات الحنابلة (2/ 66)، شذرات الذهب (5/ 41)].
(6)
البحر المحيط (6/ 77).
وأن يكون في الأخذ بها رفع حرج كان ممكنًا أن يقع فيه الناس لولاها (1).
فإذا كان الأمر كذلك فلا شك أن الذي هو محل اتفاق بين المذاهب ليس هو محل الخلاف بينهم وإلا كان في ذلك نسبة كثير من العلماء إلى الغفلة!
فإذا كانت المصلحة المرسلة ليست في العبادات، وإنما في أبواب المعاملات، ومعلوم أن الأصل في العادات والمعاملات الإباحة، وهذا محل اتفاق بين الجميع، فلا يكون هذا المعنى موردًا للخلاف بحال.
وإذا كان المانعون يرون أن في القول بالمصلحة المرسلة إثبات دليل مستقل صالح لبناء الأحكام عليه، وجعله حجة شرعية، وفي ذلك إثبات لأحكام لا دليل عليها، إذ ليس في الكتاب والسنة ما يجوِّز بناء الأحكام الشرعية بمجرد المصلحة، بل ذلك هو اتباع الهوى المذموم في الكتاب والسنة، فإن هذا أيضًا لا يصح أن يكون مورد الخلاف، إذ الكل متفق على هذا المعنى، كما ذكرنا من قبل من اتفاق الجميع على أنه لا يثبت حكم إلا بدليل.
وإذا كان الأمر هكذا فما هو وجه المنع منها عند المانعين؟ وهم الأكثر! وما هو وجه اشتراط تلك الشروط التي قيد بها الغزالي والشاطبي دلالة المصلحة المرسلة على الجواز؟
لابد - إذن - أن يكون في القول بالمصلحة المرسلة ما هو زائد عن مجرد ما يدل عليه الأصل، ولابد - أيضًا - أن يكون هذا المعنى هو الذي لأجله قوبلت بالقبول أو الرد، أو وضعت الشروط - من قِبل واضعيها - لضبطه،
(1) المصلحة في التشريع الإسلامي (ص 70).
وسواء صرح الأصوليون بهذا المعنى أو لم يصرحوا: فلابد من توضيحه، إذ إنه بهذا الوصف هو مورد الخلاف.
وإذا كان الأصوليون لم يصرحوا بهذا المعنى فلا مناص إذن من تتبع الأمثلة التي يذكرونها حتى يتضح ذلك المعنى، وبالنظر في الأمثلة التي ذكرها الجويني والغزالي والشاطبي وابن القيم يظهر لي أنهم اشترطوا تلك الشروط في المصلحة - والتي الأصل فيها الإباحة - لكي يجوز اعتبارها إذا كان ذلك الاعتبار سيؤدي إلى التعدي على أصل ثابت أو حق مقرر، وهذا يكون في الغالب في الإلزام العام (1).
فالذين لاحظوا معنى المصلحة هنا قضوا بأن ذلك جائز، والذين لاحظوا ما سيؤدي إليه اعتبار تلك المصلحة على هذا النحو ذهبوا إلى المنع، وكلا
(1) وقد ذكر ابن القيم في الطرق الحكمية في السياسة الشرعية (ص 27 - 32) عددًا من أفعال الصحابة لا وجه لها إلا هذا القول، وهي ترجح هذا المعنى الذي ذهبت إليه، فمن ذلك: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حرّق حانوت الخمار بما فيه، وحرّق قرية يباع فيها الخمر، وحلق رأس نصر بن حجاج، ونفاه من المدينة لتشبيب النساء به، وضرب صبيغ بن عسل التميمي على رأسه لما سأل عما لا يعنيه، وألزم الصحابة رضي الله عنهم أن يُقِلُّوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اشتغلوا به عن القرآن، ونقل عن ابن تيمية أنه يرى أن من ذلك إلزام المطلق ثلاثًا بكلمة واحدة بالطلاق ثلاثًا، ومنه منع عمر رضي الله عنه بيع أمهات الأولاد رغم أنهن كن يبعن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه الأمثلة كلها لا يستقيم تأصيل لما فعله عمر رضي الله عنه إلا بالقول بأن المصلحة المرسلة لا تكون إلا في الإلزام العام، وهو لا يكون إلا في السياسة الشرعية [انظر الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم، تحقيق: حازم القاضي، نشر مكتبة نزار مصطفى الباز، ط. الثانية (1428 هـ - 2007 م)].