الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكل إنما هو رفع الحرج عن الفعل دون الترك، والفعل دليل قاطع عليه (1).
حكم المتابعة في الترك على هذا الاتجاه، ومعناها:
إذا كان التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم معناه: "أن تفعل مثل فعل النبي صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي فعل لأجل فعله"، فإن التأسي به صلى الله عليه وسلم في الترك على صفة الخصوص هو:"أن تترك مثل ما ترك صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي ترك لأجل أنه ترك".
ويكون التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في الترك واجبًا أيضًا، وفيما سبق ذكره من قول الرازي تصريح بدخول الترك في المتابعة الواجبة، وقد صرح بوجوب التأسي في الترك ابن السمعاني (2)، قال:"إذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا وجب علينا متابعته فيه"(3).
الاتجاه الثاني في تعريف التأسي:
عرف أبو شامة التأسي بأنه:
"عبارة عن فعل يوافق فعل الغير مفعول لأجل فعله، متصف بصفاته
(1) باختصار وتصرف من الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/ 233).
(2)
هو: منصور بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد التميمي السمعاني المروزي الحنفي ثم الشافعي، إمام في فنون عديدة منها: الفقه وأصوله والحديث والتفسير، ولد سنة 426 هـ وتوفي سنة 489 هـ.
[سير أعلام النبلاء (14/ 177)، وفيات الأعيان (3/ 211)، شذرات الذهب (5/ 394)].
(3)
قواطع الأدلة (1/ 311) لأبي المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني (ت/ 489 هـ)، تحقيق: محمد حسن إسماعيل الشافعي، ط. الأولى (1997 م)، دار الكتب العلمية.
الظاهرة، دون الموافقة له في النية" (1).
فهو يرى أن التأسي لا يشترط فيه الموافقة في نية الفعل وقصده، أي أن الموافقة في الصورة الظاهرة كافية لتحقق التأسي، وقد علل ذلك بأن التأسي في اللغة لا يقتضي هذا الشرط الذي ذكره الآمدي وغيره، بل أهل اللغة يفسرون الإتساء بالاقتداء والاتباع، هكذا مطلقًا، بل قال:"ولم أر أحدًا ممن وقفت على مصنفه في اللغة ذكر في معنى الاتساء والاتباع ما ذكروا، ولا يشترط ما اشترطوا"، ثم نقل عن أهل اللغة تفسير الأسوة والاتباع بالقدوة.
وعلى هذا القول فإن الاتباع خاص بالأفعال فقط، والطاعة خاصة بالأقوال.
ونقل عن أبي الطيب الطبري ما يدل على أن التأسي لا يشترط فيه موافقة الغرض من الفعل أو نيته، وأبو الطيب الطبري أحد القائلين بالوجوب وهم الذين اشترطوا في التأسي الموافقة في الغرض والنية.
ويرى أبو شامة: أن اشتراط معرفة حكم الفعل في حق النبي صلى الله عليه وسلم حتى يحصل التأسي قول بالوقف ويلزم منه إبطال استدلال من استدل على شرعية الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أفعاله التي لم يظهر فيها وجه القربة سواء في ذلك من قال بالوجوب أو الندب.
وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الاتجاه على ثلاثة أقسام:
(1) المحقق من علم الأصول فيما يتعلق بأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم (ص 104).
الأول: ما أمر باتباعه فيه: فاتباعه واجب، والوجوب هنا حاصل من قوله لا من فعله.
الثاني: ما نهى عن اتباعه فيه: فاتباعه غير مشروع وهل يحرم أم يكره؟ على الخلاف.
الثالث: ما لم يأمر ولم ينه: فاتباعه مندوب.
وعلى هذا فالاتباع في الفعل لا يكون إلا مندوبًا، لأن هذا هو معنى دلالة الفعل على الاستحباب في حقنا، وهي لا تدل على الوجوب، وقد ذكر أبو شامة أنه لم يجد فقيهًا واحدًا استدل على وجوب أمر واحد، بفعل مجرد للنبي صلى الله عليه وسلم دون أن يقترن به ما يدل على الوجوب، فالأصل أن الاتباع في الفعل على الاستحباب إلا أن يرد الدليل بخلاف ذلك (1).
الأدلة على عدم اعتبار الموافقة في حكم الفعل، وأن الاتباع لا يكون واجبًا:
(1)
قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب: 37].
قال أبو شامة: "أي جعلنا فعله ذلك دليلًا على إباحته لكم ونفي الحرج عنكم.
(1) هذا وإن كان صحيحًا أنه لم يستدل فقيه واحد بفعل النبي صلى الله عليه وسلم على الوجوب (وهذا من أقوى الأدلة على أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم المجرد يدل على الاستحباب) إلا أن هذا خارج عن محل النزاع، ولا يرد على القائلين بوجوب التأسي إذ أنهم لم يخالفوا في ذلك.
(2)
ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى"(1)؛ والطاعة والعصيان إنما هما بالنسبة إلى القول دون الفعل، فدل على أن الوجوب مستفادٌ من القول دون الفعل.
ويؤيده ما ورد عن المطلب بن حنطب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما تركت شيئًا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به، ولا تركت شيئًا مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه"(2). وهذا ظاهرٌ في القول دون الفعل.
(3)
ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذروني ما تركتكم، فإنما هلك الذين من قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم، ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم"(3).
(1) رواه البخاري (13/ 263 / 7280) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"بعثت بجوامع الكلم".
(2)
رواه البيهقي في السنن الكبرى (7/ 76) كتاب النكاح، باب الدليل على أنه صلى الله عليه وسلم لا يقتدى به فيما خص به، ويقتدى به فيما سواه [السنن الكبرى للحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين بن على البيهقي، مكتبة ابن تيمية (مصورة من النسخة الهندية) فهرسة الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي]، والشافعي في المسند (2/ 413 / 675)[شفاء العي بتخريج وتحقيق مسند الشافعي، بترتيب العلامة السندي، تأليف: أبي عمير مجدي بن محمد بن عرفات المصري الأثري، تقديم الشيخ مقبل بن هادي الوادعي، نشر مكتبة ابن تيمية القاهرة، توزيع مكتبة العلم بجدة، ط. الأولى (1416 هـ - 1996 م)]، وقال الألباني في الصحيحة: إسناده مرسل حسن (4/ 417).
(3)
رواه البخاري (13/ 264 / 7288) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"بعثت بجوامع الكلم"، ومسلم (2/ 975 / 1337) كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر.
قال ابن حزم: "فهذا خبرٌ منقول نقل التواتر عن أبي هريرة رضي الله عنه، فلم يوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أحدٍ إلا ما استطاع مما أُمر به، واجتناب ما نُهي عنه فقط. ولا يجوز البتة في اللغة العربية أن يقال: أمرتكم بما فعلت وأسقط عليه السلام ما عدا ذلك في أمره، بتركه ما تركهم، حاشى ما أمر به أو نهى عنه فقط. فوضح يقينًا أن الأفعال كلها منه عليه السلام لا تلزم أحدًا، وإنما حَضَّنا الله تعالى في أفعاله على الاتِّساء به بقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، وما كان لنا فهو إباحة لأن لفظ الإيجاب إنما هو علينا لا لنا. تقول: عليك أن تصوم رمضان وتصلي الخمس، ولك أن تصوم عاشوراء أو تتصدق، ولا يجوز عكسه"(1).
قال أبو شامة:
"ما ذكره هو ظاهر اللفظ فلا يُعدَل عنه إلا بدليل، كيف وإن فعله لم يكن يظهر في الغالب إلا للقليل من أصحابه، وظاهر حديث أبي هريرة أنه لا واجب عليكم إلا من جهة الأمر والنهي، وأنه ما لم آمركم وأنهكم فأنتم خارجون من عهدة الوجوب والحظر "فذروني ما تركتكم" (2) ".
(4)
ما ورد من حديث الأعرابي الذي حلف أن لا يزيد شيئًا على ما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه واجب عليه، فقال صلى الله عليه وسلم:"أفلح إن صدق"(3).
(1) المحقق من علم الأصول فيما يتعلق بأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم (ص 97).
(2)
المصدر السابق.
(3)
رواه البخاري (1/ 130 - 131/ 46) كتاب الإيمان، باب الزكاة من الإسلام، ومسلم (1/ 40 - 41/ 11) كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام.
قال أبو شامة:
"موضع الدليل أنه لما حلف أن لا يزيد عليهن شيئًا، لم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد له بالفلاح"(1).
(5)
ما ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت: "إنْ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدَعُ العمل وهو يحب أن يعمل به، خشية أن يعمل به الناس فيُفرض عليهم"(2).
ففي هذا دليل على أمرين:
أحدهما: أن الفرض عليهم لم يكن بنفس فعله، بل بفرضٍ من الله تعالى إذا اقتدَوا به فيه، فبطل قول الوجوب.
والثاني: أن الناس كانوا يفعلونه اتباعًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم واقتداءً به، مع أنهم لم يفهموا الصفة التي أوقعه رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، لأنه خرج منها هذا الكلام مخرج العموم والإطلاق المشعر بكثرة الوقائع؛ أي كان يدعُ أعمالًا كثيرةً من أعمال البر (3).
(6)
ما ورد عن علقمة قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إبراهيم: فلا أدري أزاد أم نقص - فلما سلم قيل له: يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء؟ قال: "وما ذاك؟ "، قالوا: صليت
(1) المحقق من علم الأصول فيما يتعلق بأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم (ص 98).
(2)
رواه البخاري (3/ 13 - 14/ 1128) كتاب التهجد، باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم قيام الليل والنوافل من غير إيجاب، ومسلم (1/ 497 / 718) كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة الضحى.
(3)
المحقق من علم الأصول فيما يتعلق بأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم (ص 101).