الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لأحاديث الأمر (1)، وهذا قول أكثر أهل العلم، وإليه ذهب أبو عمر بن عبد البر (2) والنووي (3) وابن قدامة (4) وغيرهم (5)، ولو قال بقول الخطابي أحد من الصحابة لكان هو أولى الأقوال بالاختيار، فهو أقرب الأقوال للقواعد، لكن لم يقل به أحد، فصار الترجيح بين قولين: بين تقديم الأمر بالوضوء، وبين حمله على النسخ بترك النبي صلى الله عليه وسلم له، وأكثر أهل العلم على نسخ ذلك الأمر، والأدلة كلها ترجع إلى ترك النبي صلى الله عليه وسلم لفعل موجب ذلك الأمر.
مثال تعارض الترك مع النهي: حكم استقبال القبلة واستدبارها أثناء قضاء الحاجة:
القول إذا كان نهيًا فإن صورة تعارضه مع الترك تكون بأن ينهى عن الشيء ثم يفعله، فهو بذلك ترك موجب ما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم.
(1) ساق البيهقي في السنن الكبرى (1/ 157): بسنده إلى عثمان بن سعيد الدارمي أنه قال: "فهذه الأحاديث قد اختلف فيها واختلف في الأول والآخر منها فلم نقف على الناسخ والمنسوخ منها ببيان بين نحكم به دون ما سواه فنظرنا إلى ما اجتمع عليه الخلفاء الراشدون والأعلام من أصحاب رسول الله فأخذوا بإجماعهم في الرخصة فيه بالحديث الذي يروى فيه الرخصة عن النبي صلى الله عليه وسلم".
(2)
التمهيد (2/ 115).
(3)
المجموع (2/ 67)، وشرح صحيح مسلم (4/ 265).
(4)
المغني (1/ 255).
(5)
انظر [فتح الباري (1/ 371)، شرح صحيح مسلم للنووي (4/ 265)، التمهيد لابن عبد البر (2/ 115)، المجموع للنووي (2/ 65)، تحفة الأحوذي (1/ 256)، نيل الأوطار (1/ 322)، المغني (1/ 254)].
هذا وجه تعارض النهي مع الترك ولا يكون إلا من هذا الباب.
ومن الأمثلة التي تتضح فيها تلك الصورة: نهيه صلى الله عليه وسلم عن استقبال القبلة أو استدبارها أثناء قضاء الحاجة ثم فعله صلى الله عليه وسلم لذلك.
وفي المسألة التالية بيان الحديثين المتعارضين، والمسالك التي سلكها العلماء للجمع بينهما.
ورد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جلس أحدكم على حاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها"(1).
ففي هذا الحديث نهي بالقول عن استقبال القبلة أو استدبارها.
وروى الشيخان من حديث ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: "رقيت على بيت أختي حفصة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدًا لحاجته مستقبلَ الشام مستدبرَ القبلة"(2).
ففي هذا الحديث ترك النبي صلى الله عليه وسلم الفعل بموجب ما قاله، فمن العلماء من ذهب إلى أن الحديثين متعارضان من كل وجه، فطلب الترجيح.
ومنهم من رأى أن الجمع ممكن.
أما الذين ذهبوا إلى الترجيح فلهم في الترجيح مسلكان:
(1) رواه مسلم (1/ 224 / 265) كتاب الطهارة، باب الاستطابة.
(2)
رواه البخاري (1/ 297 / 145) كتاب الوضوء، باب من تبرز على لبنتين، ومسلم (1/ 225 / 266) كتاب الطهارة، باب الاستطابة.
الأول:
أن القول مقدم على الفعل، إذ يحتمل أن يكون ذلك الفعل لضرورة، أو خاصًّا بهذه الحالة فقط، أو خاصًّا به، وهذه كلها احتمالات فلا تعارض القول الثابت عليه، فيحرم استقبال القبلة أو استدبارها للنهي أما الفعل فلا عموم له عندهم.
وممن ذهب إلى ذلك:
من الشافعية: أبو ثور (1)، ومن المالكية: ابن العربي المالكي، وهو المشهور عن أبي حنيفة وأحمد، وقال به من الصحابة: أبو أيوب رضي الله عنه، وهو مذهب: مجاهد والنخعي والثوري (2).
الثاني:
أن الفعل مقدم على القول؛ لأنه ناسخ له؛ لأنه بعده، ويرجحه أن الدليلين إذا تعارضا سقطا ورجعنا إلى الأصل، وهو الإباحة وهو ما يدل عليه الفعل.
(1) هو: إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي البغدادي الفقيه، مفتي العراق، وهو إمام حافظ حجة مجتهد، صحب الإمام الشافعي قديمًا ثم أصبح له مذهب مستقل، قال فيه الإمام أحمد:"أعرفه بالسنة منذ خمسين سنة"، ولد في حدود سنة (170 هـ)، وتوفي سنة (240 هـ). وله كتب في (الطهارة) و (الصلاة) وغيرها.
[سير أعلام النبلاء (10/ 76)، وفيات الأعيان (1/ 26 / 2)، تاريخ بغداد (6/ 576)].
(2)
التمهيد من مجموعة شروح الموطأ (6/ 480)[موسوعة شروح الموطأ، تحقيق: عبد الله عبد المحسن التركي بالتعاون مع مركز هجر للبحوث، ط. الأولى (1426 هـ - 2005 م)]، شرح صحيح مسلم للنووي (3/ 145)، المغني (1/ 220).
وعليه فيجوز استقبال القبلة أو استدبارها أثناء قضاء الحاجة.
وهذا قول عائشة وعروة رضي الله عنهما وربيعة (1) وداود الظاهري.
ويؤيده ما ورد من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة ببول، فرأيته قبل أن يُقبض بعام يستقبلها"(2).
أما الذين صاروا إلى الجمع بين الدليلين:
فلهم في ذلك ثلاثة مسالك:
الأول:
أن القول لا يعارض الفعل، فالقول خاص بنا، والفعل خاص به صلى الله عليه وسلم. فيحمل الفعل على الخصوصية، وهذا ما ذهب إليه الشوكاني، وقد حكاه ابن حجر في الفتح دون نسبةٍ لأحد، وردَّه (3).
(1) هو: أبو عثمان - ويقال أبو عبد الرحمن - ربيعة بن أبي عبد الرحمن فروخ، القرشي، التيمي مولاهم، التابعي، المشهور بربيعة الرأي، مفتي المدينة وعالم الوقت، روى عن أنس بن مالك رضي الله عنه وسعيد بن المسيب رضي الله عنه وغيرهما، وحدَّث عنه الإمام مالك وتفقه عليه، توفي سنة 136 هـ.
[سير أعلام النبلاء (6/ 319)، وفيات الأعيان (2/ 288 / 232)].
(2)
رواه الترمذي (1/ 15 / 9) أبواب الطهارة، باب ما جاء في الرخصة من ذلك، وأبو داود (1/ 3 - 4/ 13) كتاب الطهارة، باب الرخصة في ذلك (أي في استقبال القبلة عند قضاء الحاجة)، وابن ماجه (1/ 117 / 325) كتاب الطهارة وسننها، باب الرخصة في ذلك في الكنيف، وإباحته دون الصحاري، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 36 / 10): إسناده حسن.
(3)
نيل الأوطار (1/ 132)، فتح الباري (1/ 296).
وعليه فيكون حكم استقبال القبلة أو استدبارها أثناء قضاء الحاجة هو التحريم.
وحديث جابر رضي الله عنه لا يشكل على هذا القول إذ يخصص الفعل بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وممن سبق الشوكاني إلى القول بالخصوصية: الكرخي حكاه عنه الرازي في (المحصول)(1).
الثاني:
أن القول هنا نهي، فهو دليل على التحريم، لكن صُرِف هذا التحريم إلى الكراهة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وهذه إحدى الروايتين عن أبي حنيفة (2) وأحمد، ومروي عن أبي أيوب الأنصاري، وأبي ثور (3).
وحديث جابر - السابق ذكره - لا يشكل على هذا القول أيضًا، فقد يحمل على جواز ذلك مع الكراهة.
الثالث:
أن يحمل القول على حالة الصحراء والفعل على حالة البنيان، فيكون متعلق القول غير متعلق الفعل.
(1) المحصول (3/ 261).
(2)
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (5/ 126) لعلاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني الحنفي، نشر دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط. الثانية (1406 هـ - 1986 م).
(3)
التمهيد (6/ 480)(من مجموعة شروح الموطأ)، شرح صحيح مسلم للنووي (3/ 145)، المغني (1/ 220).
ومما يؤيد ذلك القول أن الصحابي الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته فهم ذلك الفهم، وذلك فيما رواه مروان الأصغر قال:"رأيت ابن عمر رضي الله عنهما أناخ راحلته مستقبل القبلة، ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن أليس قد نُهي عن هذا؟ قال: بلى إنما نُهي عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس"(1).
وإلى هذا القول ذهب مالك (2) والشافعي (3) وهو قول الجمهور، وقال ابن حجر:"وهذا أعدل الأقوال لإعمال جميع الأدلة"(4).
وبناء على هذا العرض السابق فإن استقبال القبلة واستدبارها أثناء قضاء الحاجة مختلف فيه على أربعة أقوال:
1 -
الحرمة مطلقًا.
2 -
الكراهة مطلقًا.
3 -
الحرمة في الصحراء دون البنيان.
4 -
الإباحة مطلقًا.
الرأي المختار:
من خلال العرض السابق يمكن أن يجمل القول فيما يلي:
(1) رواه أبو داود (1/ 3 / 11) كتاب الطهارة، باب كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة، وحسنه الألباني في الإرواء (1/ 100).
(2)
التمهيد لابن عبد البر (5/ 350)(نسخة دار الفاروق).
(3)
شرح صحيح مسلم (3/ 145).
(4)
فتح الباري (1/ 296).
1 -
أبعد الأقوال عن الاختيار هو القول بالإباحة مطلقًا، أو المنع مطلقًا، وذلك لأنه فيه ترجيح بين الأدلة، ومعلوم أن الجمع أولى من الترجيح، ولا يصار إليه إلا عند التعارض وعدم إمكان الجمع، والجمع ممكن كما سيأتي.
2 -
مما يرد القول بالخصوصية أن الأصل في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم التشريع، وهنا نقلان من صحابيين في موضعين مختلفين ينقلان فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يحمل هذان النقلان على الخصوصية، ولو قيل: إن رؤية ابن عمر رضي الله عنهما للنبي صلى الله عليه وسلم كانت اتفاقًا لم يقصدها النبي صلى الله عليه وسلم حتى تحمل على التشريع، أليس سكوته عن رؤياه له وعلمه بأنه سيفعل مثلما فعل؛ إقرارًا منه صلى الله عليه وسلم له على أن ذلك الفعل ليس فيه خصوصية؟!
3 -
يبقى إذن أحد أمرين:
إما القول بالكراهة أو بالتفصيل بين الصحاري والبنيان.
ولكل من القولين حظ من النظر.
والذي أظنه أقرب للقواعد هو القول بالكراهة دون التفصيل، وذلك لأمور:
أولًا: النهي ظاهرٌ في التحريم، ولكنه يحمل على الكراهة بالقرينة فليس حمله على الكراهة عدم إعمال له.
ففي القول بهذا الرأي إعمال للدليلين معًا من كل وجه، أما في القول بالتفصيل بين الصحاري والبنيان ففيه إعمال لكل دليل في محل غير الدليل الآخر.
ثانيًا: أن حديث جابر رضي الله عنه يعكر على القول بالتفصيل، وذلك لأنه