الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: ترك ما همَّ به
ذكر الزركشي ما همَّ به النبي صلى الله عليه وسلم قسمًا من أقسام الأفعال (1) وذكر الصنعاني أن الزركشي قد تُعقّب في عده ما همَّ به في أقسام السنة بأن الهمَّ أمرٌ خفي لابد أن يقترن بقول أو فعل فيعود إليهما (2).
وأما الشوكاني فبعد أن نقل ما ذكره الزركشي في البحر المحيط قال: "والحق: أنه ليس من أقسام السنة، لأنه مجرد خطور شيء على البال من دون تمييز له، وليس ذلك مما آتانا الرسول صلى الله عليه وسلم ولا مما أمر الله سبحانه بالتأسي به فيه، وقد يكون إخباره صلى الله عليه وآله وسلم بما همَّ به للزجر، كما صح عنه أنه قال: "لقد هممت أن أخالف إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم" (3).
وقد ذكر الزركشي أن مثال ما همَّ به النبي صلى الله عليه وسلم هو أنه صلى الله عليه وسلم استسقى وعليه خميصة سوداء فأراد أن يأخذ أسفلها فيجعله أعلاها، فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه، قال الشافعي:"فيستحب الإتيان بما همَّ به الرسول صلى الله عليه وسلم".
أما الشوكاني فلم يذكر هذا المثال، بل ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم همَّ بمصالحة
(1) البحر المحيط (4/ 211).
(2)
إجابة السائل شرح بغية الآمل (ص 83).
(3)
إرشاد الفحول (10/ 223 - 224)، وقد مثّل الشوكاني بمثال آخر غير الذي مَثَّل به الزركشي ثم نقل التأصيل الذي استفاده الزركشي من مثاله إلى المثال الآخر.
الأحزاب على ثلث ثمار المدينة ثم قال: فقال الشافعي ومن تابعه: إنه يستحب الإتيان بما همَّ به النبي صلى الله عليه وسلم.
فرفْض الشوكاني لاعتبار أن ما همَّ به النبي صلى الله عليه وسلم من أقسام السنة ما هو إلا نتيجة فهمٍ خاطئ لما ذكره الزركشي، والذي يظهر في ذلك أن ما نقله الزركشي عن الشافعي إنما هو خاص بالمثال الذي ذكره، ووصفه الأصولي أن ما همَّ النبي صلى الله عليه وسلم بفعله ثم منعه منه مانع، وزال هذا المانع في حقنا فيستحب لنا فعل ذلك الفعل، وهذا ينطبق على المثال الذي ذكره الشافعي، ولأجل ذلك ذهب إلى أن للخطيب في الاستسقاء مع تحويل الرداء تنكيسه بجعل أعلاه أسفله بالحديث السابق.
أما المثال الذي مَثَّل به الشوكاني: فلم أجد أحدًا ذكره، والذي ورد من ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يصالح غطفان على ثلث ثمار المدينة، ولم يصح (1)، وعلى
(1) هذا الحديث ذكره ابن إسحاق في السيرة قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة ومن لا أتهم، عن محمد بن مسلم بن عبيد الله الزهري قال:"لما اشتد على الناس البلاء بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر وإلى الحارث بن عوف بن أبي حارثة المري - وهما قائدا غطفان - فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فجرى بينه وبينهما الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح إلا المراوضة في ذلك، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رضي الله عنهما فذكر ذلك لهما واستشارهما فيه، فقالا له: يا رسول الله، أمرًا تحبه فنصنعه أم شيئًا أنزل الله لابد لنا من العمل، أم شيئًا تصنعه لنا؟ قال: "بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا أنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحد وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما"، فقال له سعد بن معاذ رضي الله عنه: يا رسول الله، قد كنا نحن =
فرض صحته فلا يقول قائل أنه يستحب مصالحة العدو به، بل الحق في ذلك أن يقال: أن النبي صلى الله عليه وسلم همَّ بأمر ولم يفعله لمانع ورد التصريح به، فيدل ذلك على أن ما همَّ به النبي جائز - إذ لا يهمُّ النبي صلى الله عليه وسلم بمحرم -، ثم منع مانع من فعله لما همَّ به فيعتبر مثل هذا المانع في حقنا.
وسيأتي الكلام على حديث تحريق بيوت المتخلفين عن صلاة الجماعة.
ولذا فإن ما يظهر للباحث هنا هو:
أن ما همَّ به النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان أمرًا يخفى ولا سبيل إلى معرفته إلا بالقول - فلا شك أن له دلالة إذا نقل، وهو بذلك من أقسام الترك الكفي؛ لأنه ترك ما هم به، علمناه من إخباره صلى الله عليه وسلم، وهذا النوع من الترك ينقسم إلى قسمين:
الأول: ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم مما همَّ به، وبين سبب ذلك فهذا يدخل في أنواع الترك المسبب.
الثاني: ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم مما همَّ به ولم يبين لنا سبب ذلك.
= وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منا ثمرة إلا قرى أو بيعًا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه؛ نعطيهم أموالنا، ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فأنت وذاك"، فتناول سعد رضي الله عنه الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب ثم قال: ليجهدوا علينا، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وعدوهم يحاصروهم" [البدر المنير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير (9/ 222 - 224)]، وكل من ذكر الحديث إنما هو من هذا الطريق وهو مرسل، ولم أعثر على أحد صححه، فهو - والحال كما ذكرت - ضعيف.