الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم التأسي على الاتجاه الأول:
والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم على هذه الطريقة واجب، والتأسي هو الاتباع في الفعل بعينه، والأدلة على ذلك كثيرة منها:
أولًا: من كتاب الله تعالى:
(1)
قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، قال الفخر الرازي:"دلت الآية على أن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم من لوازم محبة الله تعالى، ثم إن محبة الله تعالى لازمة بالإجماع، ولازم الواجب واجب"(1).
(2)
قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158].
فهذا أمر صريح بالاتباع في قوله: "واتبعوه"، والأمر يقتضي الوجوب كما هو معلوم.
(3)
قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب: 37]، ووجه الدلالة فيه: أن الله بين أنه تعالى زوجه بها ليكون حكم أمته مساويًا لحكمه في ذلك، وهذا يدل على أن الاقتداء به واجب (2).
(4)
قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115]، ووجه الدلالة في الآية: أن ترك
(1) المعالم في أصول الفقه بشرحه لابن التلمساني (2/ 20).
(2)
المصدر السابق (2/ 22).
متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم مشاقة له، قال الفخر الرازي:"وإنما قلنا إن ترك متابعته صلى الله عليه وسلم مشاقة له، لأن المشاقة عبارة عن كون أحدهما في شق، وكون الآخر في شق آخر، فإذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم فعلًا وتركه غيره، كان ذلك الغير في شق آخر من الرسول، فكان مشاقًا له"(1).
ثانيًا: الأحاديث التي وردت بالأمر باتباع سنته صلى الله عليه وسلم، فإن السنة هي الطريقة، وهي تشمل القول والفعل فمن ذلك:
(1)
ما ورد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي"(2).
(2)
ما ورد من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، وَجِلَت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله: كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال:"أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"(3).
(1) المصدر السابق (2/ 23).
(2)
رواه الحاكم في المستدرك (1/ 161 / 319) كتاب العلم [المستدرك على الصحيحين، للإمام الحافظ أبي عبد الله الحاكم النيسابوري، دار الحرمين، الطبعة الأولى (1417 هـ - 1997 م)]، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 566 / 2937).
(3)
رواه أبو داود (4/ 200 / 4607) كتاب السنة، باب في لزوم السنة [سنن أبي داود، =
قال الفخر الرازي: " السنة عبارة عن الطريقة، وهي تتناول الفعل والقول والترك، وقوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم" للوجوب، وهذا يدل على وجوب متابعته في أفعاله وأقواله وتروكه
…
وقوله صلى الله عليه وسلم: "عضوا عليها بالنواجذ، وذلك تأكيد عظيم للأمر به"(1).
(3)
ما ورد من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف قال:"لم خلعتم نعالكم؟ "، فقالوا: يا رسول الله رأيناك خلعت فخلعنا، قال:"إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثًا، فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعله فلينظر فيها فإن رأى بها خبثًا فليمسحه بالأرض ثم ليصل فيهما"(2).
ووجه الدلالة فيه: أن الصحابة رضي الله عنهم خلعوا نعالهم في الصلاة لما خلع نعله، ففهموا وجوب المتابعة له في فعله، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم هذا الفهم بل أقرهم على ذلك ثم بين لهم علة انفراده عنهم بذلك.
(4)
ما ورد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم، فقال له رجل من المسلمين: إنك تواصل يا رسول الله،
= للإمام الحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي، دار الحديث (1408 هـ - 1988 م)]، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (6/ 526 / 2735).
(1)
المعالم (2/ 25) مع شرحه: شرح المعالم لابن التلمساني.
(2)
رواه أحمد (17/ 242)[(3/ 20) هندية]، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
قال: "وأيكم مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني "(1).
ووجه الدلالة فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على ما فهموه من مشاركتهم له في الحكم، واعتذر بعذر يختص به.
(5)
ما ورد عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيقبل الصائم؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سل هذه - لأم سلمة - " فأخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك، فقال يا رسول الله:"قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر"، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له"(2).
قال الآمدي: "ولو لم يكن متبعًا في أفعاله، لما كان لذلك معنى"(3).
(6)
ما ورد من حديث جابر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: "أنا في أرض باردة، فكيف الغسل من الجنابة"؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أما أنا فأحثو على رأسي ثلاًثا"(4).
ووجه الدلالة فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أجابه عن سؤاله ببيان فعله، فلولا أن ذلك يقتضي أن على السائل أن يفعل مثل ذلك لما كان ذلك جوابًا لسؤاله.
(1) رواه البخاري (4/ 242 / 1965) كتاب الصوم، باب التنكيل لمن أكثر الوصال، ومسلم (2/ 774 / 1103) كتاب الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم.
(2)
رواه مسلم (2/ 779 / 1108) كتاب الصيام، باب بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته.
(3)
الإحكام في أصول الأحكام (1/ 237).
(4)
رواه مسلم (1/ 259 / 328) كتاب الحيض، باب استحباب إفاضة الماء على الرأس وغيره ثلاثًا.
(7)
ما ورد من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا"(1)، وعن أبي موسى رضي الله عنه أنه قال:"اختلف في ذلك - أي في الذي جامع أهله ولم ينزل هل عليه غسل - رهط من المهاجرين والأنصار، فقال الأنصاريون: لا يجب الغسل إلا من الدفق أو من الماء، وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل، قال أبو موسى: فأنا أشفيكم من ذلك، فقمت فاستأذنت على عائشة، فأذنت لي فقلت لها: " يا أماه - أو يا أم المؤمنين - إني أريد أن أسألك عن شيء، وإني أستحييك فقالت: لا تستحيي أن تسألني عما كنت سائلًا عنه أمك التي ولدتك، فإنما أنا أمك، قلت: فما يوجب الغسل؛ قالت على الخبير سقطت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل"(2).
وعن عائشة صلى الله عليه وسلم أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل هل عليهما الغسل؟ وعائشة جالسة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل"(3).
(1) رواه الترمذي (1/ 180 / 108) أبواب الطهارة، باب ما جاء إذا التقى الختانان وجب الغسل، وابن ماجه (1/ 199 / 608) كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في وجوب الغسل إذا التقى الختانان، وصححه الألباني في الإرواء (1/ 121 / 80).
(2)
رواه مسلم (1/ 271 - 272/ 349) كتاب الحيض، باب نسخ "الماء من الماء" ووجوب الغسل بالتقاء الختانين.
(3)
رواه مسلم (1/ 272 / 350) كتاب الحيض، باب نسح "الماء من الماء" ووجوب الغسل بالتقاء الختانين.
(8)
ما ورد عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقبل الحجر الأسود ويقول: "إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنني رأيت رسول الله يقبلك لما قبلتك"(1).
(9)
ما ورد عن أم الفضل بنت الحارث رضي الله عنها أن ناسًا تماروا عندها يوم عرفة في صوم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت إليه بقدح لبن، وهو واقف على بعيره فشربه (2).
قال ابن حجر: " وفيه تأسي الناس بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم "(3).
معنى وجوب التأسي على هذا القول:
ليس معنى وجوب المتابعة في الفعل هو وجوب الفعل، بل معناه أن حكم الفعل في حقنا كحكمه في حق النبي صلى الله عليه وسلم وقد فصّل الرازي هذا المعنى ووضحه فقال:"التأسي به واجب، ومعناه: إذا علمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم فعل فعلًا على الوجوب فقد تعبدنا بأن نفعله على وجه الوجوب، وإذا علمنا أنه تنفل به: كنا متعبدين بالتنفل به، وإذا علمنا أنه فعله على وجه الإباحة: كنا متعبدين باعتقاد إباحته لنا وجاز لنا أن نفعله"(4).
(1) رواه البخاري (3/ 540 / 1597) كتاب الحج، باب ما ذكر في الحجر الأسود، ومسلم (2/ 925 / 1270) كتاب الحج، باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف.
(2)
رواه البخاري (4/ 278 / 1988) كتاب الصوم، باب صوم يوم عرفة.
(3)
فتح الباري (4/ 280).
(4)
المحصول للرازي (3/ 247).
وعليه: وإذا لم نعلم حكم هذا الفعل في حق النبي صلى الله عليه وسلم كان هذا الفعل في حقنا مباحًا إذا لم يكن على وجه القربة، مندوبًا إذا كان على وجه القربة.
ووجه ذلك:
أن كل فعل لم يعلم حكمه في حق النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلو من أن يكون أحد أمرين:
أن يظهر فيه قصد القربة أو لا يظهر:
فإن ظهر فيه قصد القربة إلى الله تعالى؛ فهو دليل في حقه صلى الله عليه وسلم على القدر المشترك بين الواجب والمندوب، وهو ترجيح الفعل على الترك لا غير، وأن الإباحة وهي استواء الفعل والترك في رفع الحرج خارجة عنه، وكذلك في حق أمته، إذ إن القربة غير خارجة عن الواجب والمندوب، والقدر المشترك بينهما إنما هو ترجيح الفعل على الترك، والفعل دليل قاطع عليه.
وأما ما اختص به الواجب من الذم على الترك وما اختص به المندوب من عدم اللوم على الترك؛ فمشكوك فيه، وليس أحدهما أولى من الآخر.
وما لم يظهر فيه قصد القربة:
فهو دليل في حقه على القدر المشترك بين الواجب والمندوب والمباح، وهو رفع الحرج عن الفعل لا غير وكذلك عن أمته، لأن كل فعل لا يكون منهيًّا عنه لا يخرج عن الواجب والمندوب والمباح (1)، والقدر المشترك بين
(1) النبي صلى الله عليه وسلم لا يفعل المحرم ولا المكروه ولو لبيان الجواز، بل فعله صلى الله عليه وسلم ينفي الكراهة "وذلك حيث لا معارض له"[الكوكب المنير (2/ 192)].