الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الضرب الثاني: أن يسكت الشارع عن الحكم الخاص أو يترك أمرًا من الأمور وموجبه المقتضي له قائم وسببه في زمان الوحي وفيما بعده موجود ثابت
…
" (1).
وهو وإن نسب الترك والسكوت إلى الشارع فمراده النبي صلى الله عليه وسلم على ما يفهم من تناوله هذا المبحث بالدراسة في غير موضع.
ولا يخفى أن ترك النقل داخل تحت القسم الأول من قسميه، والترك عنده بالمعنى الأعم، وهو وإن لم يصرح بذلك لكن القسم الأول لا يكون لذكر الترك فيه معنى إلا على هذا الوجه.
وقد وافق جماعةٌ الشاطبيّ فيما ذهب إليه كابن تيمية، وابن القيم، وغيرهم، مما سَيُبَيَّن في موضعه إن شاء الله تعالى.
المطلب الثاني: تعريف ترك النبي صلى الله عليه وسلم في الدراسات المعاصرة:
أما في الدراسات المعاصرة فقد تعرض لترك النبي صلى الله عليه وسلم بالدراسة: الدكتور الأشقر: في كتابه (أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم)، والشيخ الغماري في رسالته (حسن التفهم والدرك لمسألة الترك)، والدكتور صالح الزنكي في بحثه (رؤية أصولية لتروك النبي صلى الله عليه وسلم)(2) ولابد بيان مفهوم ترك النبي صلى الله عليه وسلم عند كل، وبيان ما
(1) الاعتصام (ص 266): أبي إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي، تحقيق: سيد إبراهيم، ط. (1424 هـ - 2003 م)، دار الحديث - القاهرة.
(2)
لم يذكر الدكتور تعريفًا خاصًا بالنبي صلى الله عليه وسلم بل اكتفى بتعريفه الأصولي، وقد أشرت إليه في موضعه.
يتجه على هذا المفهوم (1).
تكلم الدكتور الأشقر في رسالته (أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم) عن الترك باعتباره أحد أقسام الفعل، ومع أنه قد بين أن الترك من النبي صلى الله عليه وسلم على نوعين:"العدمي" و "الوجودي"، إلا أنه لم يتناول النوع الأول لأنه غير داخل في دراسته، وذلك لأنه ليس بفعل، فهو خارج عن نطاق بحثه.
أما الترك الوجودي: وهو الكف الذي له تعلق بأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم فقد عرفه بـ: "أن يقع الشيء، ويوجد المقتضي للفعل أو القول، فيترك النبي الفعل والقول، ويمتنع عنهما"(2).
ثم بين أن هذا القسم يشمل ترك الفعل، وترك القول الذي هو السكوت، والسكوت يشمل ترك الإنكار الذي تناوله الأصوليون بالدراسة تحت باب الإقرار وإن كان قد أفرده بفصل مستقل متابعة للأصوليين في صنيعهم.
أما الشيخ الغماري فقد عرف الترك بقوله: "أن يترك النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا، [لم يفعله] (3)، أو يتركه السلف الصالح من غير أن يأتي حديث أو أثر بالنهي عن ذلك الشيء المتروك يقتضي تحريمه أو كراهته"(4).
(1) علمت أن للدكتور محمد العروسي عبد القادر كتابًا عن أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، تكلم فيه عن الترك، ولم أصل إلى نسخة منه بعد طول بحث، ولم أجد على شبكة الإنترنت سوى فهرسًا للكتاب، ولذا فلم أتمكن من الاطلاع على تعريفه لترك النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام: محمد سليمان الأشقر: ورسالة الدكتوراه من الجامعة الأزهرية، مؤسسة الرسالة، ط. السادسة (1424 هـ - 2003 م)(2/ 47).
(3)
هكذا في تعريفه، ولعل الأصوب أن يقول:"فلا يفعله".
(4)
حسن التفهم والدرك لمسألة الترك: أبو الفضل عبد الله محمد الصديق الغماري، مطبوعة =
ولا بد من إيراد عدة ملاحظات هنا:
(1)
أن الدكتور الأشقر لم يفرق في ترك النبي صلى الله عليه وسلم بين ما نقل إلينا أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك، وبين ما لم ينقل إلينا أنه فعل، فمتروك النقل داخل تحت الترك بهذا التعريف.
وقد تكلم عن ترك النقل وعده أحد قسمي طريق معرفة ترك النبي صلى الله عليه وسلم للفعل.
أما الشيخ الغماري فلا يدخل في مفهوم الترك إلا متروك النقل فقط؛ وذلك لأن الترك المنقول سيتبع ما دل عليه قول أو فعل أحد السلف، أو أنه ترك في مقام البيان وقد صرح بأن هذه المسألة لا تدخل في نطاق بحثه.
(2)
أن السكوت داخل تحت ماهية الترك اصطلاحًا عند الأشقر، بينما لا يدخل في مفهوم الترك عند الشيخ الغماري.
(3)
أن الدكتور الأشقر استعمل الترك بالمعنى الأعم الذي يشمل الكف وغيره، وهو الإطلاق الأول فيما ذكر في هذه الدراسة، وعدم تناوله الترك العدمي للدراسة إنما لعدم دخوله في نطاق الفعل، أما الشيخ الغماري فلم يعرض لشيء من ذلك فلم يبين ما هو المراد من الترك، هل هو بمعنى الكف أم العدم أم العدم والكف معًا.
= ضمن مجموعة رسائل له أولها: إتقان الصنعة في تحقيق معنى البدعة، وهي الرسالة الأخيرة من (ص 89) حتى (ص 104).
(4)
أن الدكتور الأشقر لم يشترط عدم وجود دليل البتة في المسألة بل متى تحققت صورة الترك في حادثة معينة كان ذلك تركًا منه صلى الله عليه وسلم، ولذا يصح عنده وقوع التعارض بين الترك والفعل وبين الترك والقول، أما الشيخ الغماري فقد اشترط عدم وجود حديث أو أثر بالنهي عن الشيء المتروك، ويلزم من هذا الاشتراط أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن حصول التعارض بينه وبين الفعل أو القول، بل كل موقف ما حصلت فيه صورة الترك كانت له دلالة ما: عارضها دلالة فعل أو قول منه صلى الله عليه وسلم فهي غير داخلة تحت مفهوم الترك عنده، وهذا أيضًا لا يمكن تصحيحه بحال، فلو أنه ذكر ذلك في باب الدلالة لكان هذا مقبولًا بغض النظر عن مدى صحة ما ذهب إليه.
(5)
أن الدكتور الأشقر عندما تكلم عن ترك النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل معه غيره، وهذا ما تقتضيه هذه النسبة لغة بل واصطلاحًا، أما الشيخ الغماري فقد أضافه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو السلف الصالح، فماذا يفعل الشيخ الغماري فيما تركه النبي صلى الله عليه وسلم وفعله الصحابة من بعده، هل يدخله في ترك النبي صلى الله عليه وسلم أم لن يدخله؛ بمقتضى القيد الذي ذكره من اشتراط ترك السلف لا يدخل ذلك في ترك النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مخالف لمقتضَى هذه النسبة، وأضف إلى ذلك أنه لم يحدد حدًّا زمانيًّا أو مكانيًّا للسلف الصالح، ولم يبين من المقصود بهذا الوصف، وهو إطلاق قد يشمل علماء السنة على مدار ثلاثة قرون ولا يخفى أن مثل هذا لا يكون قيدًا أبدًا.
ثم إن هذا القيد يقتضي حجية أفعال السلف الصالح وأنها تدل على الأحكام شرعًا، وهذا لا يقول به الشيخ الغماري، ولا غيره.
(6)
أن الإقرار داخل تحت مسمى الترك الاصطلاحي عند الدكتور الأشقر وقد صرح بذلك، أما الشيخ الغماري فلم يبين هل يدخل أم لا، لكن صنيعه في رسالته يدل على أنه غير مراد.
(7)
الدكتور الأشقر لم يتعرض لدلالة الترك في التعريف، فهو يبين ماهية الترك بغض النظر عن دلالته، أما الشيخ الغماري فقد اشترط ألا يأتي حديث أو أثر بالنهي عن المتروك، وهذا يقتضي أنه لو أتى بالإباحة أو الاستحباب فهو داخل تحت الترك عنده، وهذا تصرف غير مرضي، فالصحيح أن يبين ماهية الشيء أولًا ثم بعد ذلك يتعرض لحكمه، لأن الدلالة هي المطلوب الأعظم من ذكر التعريف، فلا تقحم فيه، فضلاً عن أنها مبنية عليه.
بناء على هذه الملاحظات فإن تعريف الشيخ الغماري لترك النبي صلى الله عليه وسلم تعريف غير واضح المعالم، ولا يمكن الاعتماد عليه في هذه الدراسة، أما تعريف الأشقر للكف فالذي يظهر أنه تعريف مستجمع للشروط التي تطلب في التعريف ولا يتجه عليه اعتراضات وجيهة، ومع ذلك فإن هذا التعريف بمفرده لا يمكن اعتماده في هذه الدراسة إلا إذا قيل بأن الترك هو الكف فقط، وقد سبق أن بينا أن الاتجاه المرضي هو الترك بالاعتبار الأعم الموافق للمعنى اللغوي، ولذا يتوجب علينا إدخال الترك العدمي في تروك النبي صلى الله عليه وسلم، ولابد من بيان موقف هذه الدراسة من الأنواع الأخرى التي تتعلق بترك النبي صلى الله عليه وسلم، وبيان ذلك بحول الله وقوته فيما يلي.