الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: الأصل في المتروك
سبق في الباب الثاني أن الأصل في الأشياء الإباحة، والأصل في العبادات المنع، وهو ما تأخر تفصيله إلى هذا الموضع؛ وذلك لأن دلالة الترك العدمي متوقفة عليه.
المطلب الأول: الأصل في الأشياء:
اشتهر بين الدارسين أن الأصل في الأشياء الإباحة (1)، وأن هذا هو مذهب الجمهور، ومع شهرة هذه المسألة، إلا أنها لم تعنون هكذا عند أهل
(1) انظر: تيسير علم أصول الفقه لعبد الله بن يوسف الجديع (ص 49) نشر: الجديع للبحوث والاستشارات (ليدز - بريطانيا) الطبعة الثالثة (1425 هـ - 2004 م) توزيع مؤسسة الريان، الواضح في أصول الفقه للمبتدئين (ص 43)، تأليف: محمد سليمان الأشقر - طبعة غير تجارية مصورة من الطبعة الرابعة، علم أصول الفقه (ص 134)، تأليف: عبد الوهاب خلاف، دار الحديث (1423 هـ - 2003 م)، الوجيز في أصول الفقه (ص 117، 135)، تأليف: الدكتور وهبة الزحيلي، دار الفكر بدمشق، إعادة الطبعة الأولى (1419 هـ - 1999 م)، (ط. 1: 1994 م)، المصفى في أصول الفقه (ص 412)، تأليف: أحمد بن محمد بن علي الوزير، دار الفكر المعاصر (بيروت)، دار الفكر (دمشق)، ط. (إعادة 2002 م)، الوجيز في أصول الفقه (ص 47)، تأليف: الدكتور عبد الكريم زيدان، مؤسسة الرسالة، ط. السادسة (1417 هـ - 1997 م)، أصول الفقه الميسر (3/ 427) للدكتور شعبان محمد إسماعيل، دار الكتاب الجامعي - القاهرة، ط. الأولى (1415 هـ - 1994 م)، وغيرهم كثير.
الأصول المتقدمين، بل غالب الأصوليين يترجمون لها بالأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع، ومنهم من يقول: حكم أفعال المكلفين قبل ورود الشرع، والخلاف في ذلك لفظي يؤول إلى أمرٍ واحد؛ إذ المراد من حكم الأعيان حكم تناولها، الذي هو فعل المكلف، وهو ما يطلب حكمه في الحقيقة (1).
وهذه المسألة - عند النظر فيها بادي الرأي - نجد أن الأصوليين لم يتفقوا فيها على قول واحد، ويمكن القول بأن هذه المسألة كان للأصوليين فيها اتجاهان متباينان أولًا، ثم ظهر اتجاه ثالث:
الاتجاه الأول: أن أفعال المكلفين قبل ورود الشرع لله تعالى فيها حكم يمكننا معرفته بالعقل.
الاتجاه الثاني: أن أفعال المكلفين قبل ورود الشرع لله تعالى فيها حكم لا يمكننا معرفته.
الاتجاه الثالث: أن أفعال المكلفين قبل ورود الشرع لله تعالى فيها حكم عرفناه من الشرع لا من العقل.
فالأفعال لابد لله تعالى فيها من حكم:
فأما المعتزلة فقالوا: هذا الحكم - سواء كان هذا الحكم هو الحظر أو الإباحة - عرفناه بطريق العقل.
ثم ألزموا من قال بأن لها حكمًا بأن يقول: إن طريق معرفته العقل،
(1) وهذه المسألة عندهم لا تتناول الأفعال التي تقع على وجه التعبد، وهذه الأخيرة تناولها الأصوليون في باب الاستصحاب، وسوف أتعرض لذلك بالتفصيل بعد هذه المسألة.
لأن الشرع لم يرد بعد، فصار جمهور أهل السنة إلى الوقف، لأنهم إن قالوا بحكم قيل لهم: كيف عرفتموه ولا شرع؟، فلا مناص من إثباته بالعقل، وهو محور رئيس للخلاف بين أهل السنة والمعتزلة، فليس لهم إلا أن يقولوا بأحد أمرين:
الأمر الأول: أن تلك الأفعال لا حكم لها، وهذا القول ذهب إليه جماعة.
الأمر الثاني: أن تلك الأفعال لا نعرف حكمها، لأن ذلك قبل الشرع، والأحكام لا يستدل عليها بالعقل، وهو الوقف، وإليه ذهب الأكثرون.
ومع ذلك: فالكل إذا تكلم في الفقه: كان واقعه العملي أنه يثبت حكمًا يعرفه - بغض النظر عن الحكيم أهو التحريم أم الإباحة - إذ إنه يجعل الدليل الذي يطلبه ناقلًا عنه، فمن لاحظ ذلك المعنى ممن جاء بعد - من أهل السنة - قال: لها حكم عرفناه لا من طريق العقل، بل من طريق الشرع، وهذا هو الاتجاه الثالث الذي سبقت الإشارة إليه.
فحاصل الأقوال إذن ثلالة:
القول الأول: أنها على الحظر.
والقول الثاني: أنها على الإباحة.
وهذان القولان يشملهما أن يكون الحكم عُلم بدلالة العقل أو بدلالة الشرع.
فمن قال بأحدهما من المعتزلة: فمورد الحكم العقل.
ومن قال بأحدهما من أهل السنة: فمورد الحكم الشرع (1).
والقول الثالث: هو الوقف، وقد نسب الغزالي القول به إلى بعض المعتزلة (2)، وقال به أهل السنة (3).
وهم في تفسير الوقف على أقوال (4):
(1) قال الزركشي: "واعلم أن من قال من أصحابنا بالحظر أو الإباحة ليس على أصولهم - أي المعتزلة - بل لمدرك شرعي". البحر المحيط (1/ 159).
(2)
لكنه بين أن ذلك لا يجري على أصولهم، ولم يسم منهم قائلًا. المستصفى (1/ 207).
(3)
قال السبكي في الإبهاج (2/ 380): "ذهب أهل السنة والجماعة إلى أنه لا حكم فيها؛ لأن الحكم عندهم عبارة عن الخطاب، فحيث لا خطاب لا حكم"، ونسبه البيضاوي في المنهاج إلى الرازي (الإبهاج شرح المنهاج 2/ 379)، لكن عدم الحكم عنده معناه عدم ترتب المؤاخذة على الفعل، فقد قال:"الحق تفسير التوقف بعدم الحكم، وبه صرح القاضي في مختصر التقريب فقال: "صار أهل الحق إلى أنه لا حكم على العقلاء قبل ورود الشرع، وعبروا عن نفي الأحكام بالوقف، ولم يريدوا بذلك: الوقف الذي يكون حكمًا في بعض مسائل الشرع، وإنما عنوا به انتفاء الأحكام" (الإبهاج 2/ 384)، ثم قال بعد ذلك: (2/ 390): "اعلم أنه لا خلاف في الحقيقة بين الواقفية والقائلين بالإباحة كما قال إمام الحرمين، قال:"فإنهم لم يعنوا بالإباحة ورود خبر عنها، وإنما أرادوا استواء الأمر في الفعل والترك، والأمر على ما ذكروه"، ولكن هذا الإطلاق الذي في كلام السبكي - من أن عامة أهل السنة على أنه لا حكم لها - لا يسلم له - إلا أن يقال لا حكم لها عقلًا -، ومن تفسير الوقف بعدم الحكم، فقد قال الرازي:"وهذا الوقف يفسر تارة بأنه لا حكم، وهذا لا يكون وقفًا، بل قطعًا بعدم الحكم، وتارة بأنا لا ندري هل هناك حكم أم لا، وإن كان هناك حكم فلا ندري أنه إباحة أو حظر".
(4)
قال الغزالي في المستصفى (1/ 259): "أما مذهب الوقف فإن أرادوا به: أن الحكم =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= موقوف على ورود السمع، ولا حكم في الحال فصحيح، إذ معنى الحكم الخطاب، ولا خطاب قبل ورود السمع.
وإن أريد به أنَّا نتوقف فلا ندري أنها محظورة أو مباحة فهو خطأ، لأنا ندري أنه لا حظر، إذ معنى الحظر قول الله تعالى لا تفعلوه، ولا إباحة إذ معنى الإباحة قوله: إن شئتم فافعلوه، وإن شئتم فاتركوه، ولم يرد شيء من ذلك".
قال الشيرازي في التبصرة (ص 318): "الوقف هو الحق: ومعناه: أنه لا عقاب على أحد فيها بفعله، ولا ثواب في شيء بفعله، ولا وجوب في شيء من الأشياء حتى يرد الشرع به في الوقف الذي قلناه".
قال ابن قدامة في روضة الناظر (1/ 135) - في شرح الوقف -: "معنى الحكم الخطاب، ولا خطاب قبل ورود السمع، والعقل لا يبيح شيئًا ولا يحرمه".
قال السمعاني في القواطع (2/ 52): "ليس معنى الوقف هو أن يحكم به؛ لأن الوقف حكم مثل الحظر والإباحة، والدليل الذي يمنع من القول بالحظر والإباحة يمنع من القول بالوقف، وإنما يعني الوقف أنه لا يحكم للشيء بحظر ولا إباحة، لكن يتوقف في الحكم بشيء إلى أن يرد به الشرع. . . . . إلى أن قال: المباح ما أباحه الشرع، والمحظور ما حظره الشرع، فإذا لم يرد الشرع بواحد منهما لم يبق إلا التوقيف إلى أن يرد سمع فيحكم به" ثم قال: "وقد دللنا بنص من القرآن أن الحجة لا تقوم على الآدمي بالعقل مجردة بحال. . . " ثم أطال الاستدلال على ذلك.
من النقولات السابقة - مع ما ذكره الرازي من تفسير الوقف في الهامش السابق - يتضح لنا اختلاف القائلين بالوقف في تفسيره، ولابد من الإشارة هنا إلى أن الذي دفع كثيرًا من أهل السنة إلى القول بالوقف - مع اختلافهم في تفسيره - ما بنى عليه المعتزلة مذهبهم في ذلك وهو استقلال العقل بمعرفة الحكم، وممن صرح ببناء هذه المسألة على التحسين والتقبيح العقلي: ابن برهان في الوصول إلى الأصول (1/ 73) فقد قال: "فإذا ثبت لنا بالدليل السابق المتقدم أن الأحكام لا تتلقى من جهة العقل حظرًا وإباحة، وتحسينًا وتقبيحًا، وإنما تتلقى من جهة السمع قلنا في هذه المسألة: لا حاكم قبل السمع، فلا حكم قبل السمع لأن الحكم يستدعي =
الأول: المراد بالوقف: عدم العلم.
الثاني: المراد بالوقف: عدم الحكم.
الثالث: المراد بالوقف: عدم المؤاخدة: أي الإباحة.
فأما من قال بأنها على الحظر:
فأغلب المعتزلة على القول به، أما من أهل السنة: فابن حامد (1)، وبعض
= حاكمًا"، ولذا فمنهم من يرى أن هذه المسألة فائدتها معرفة الأصل الذي يرد الدليل بتغييره - كما سنذكر - ومنهم من يرى أن هذه المسألة لا فائدة منها بعد ورود الشرع، بل بالغ ابن العربي المالكي في المحصول (ص 134) في الإنكار على الخوض في هذه المسألة، مبالغة غير مرضية، فمما قاله: "لا حكم للعقل فيها بشيء حتى نوعها الشرع قسمين حظر وإباحة، بلى إن المقصرين في العلم يقولون: فما حكمها بعد ورود الشرع أحكمها الحظر أم حكمها الإباحة؟ فهذا السؤال لا يصدر إلا من غبي وحكمها في الشرع بحسب وروده المحظور محظور بدليله، والمباح مباح بدليله، ويستحيل خلو المسألة عن دليل، لأن ذلك إبطال للشرع وتعطيل"، ولذا فقد قال ابن قدامة في [روضة الناظر (1/ 137)]: "وقد دل السمع على الإباحة على العموم بقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، وبقوله:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} [الأعراف: 33]، وقوله تعالى:{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151]، وبقوله:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"وما سكت الله عنه فهو مما عفا عنه" اهـ.
(1)
هو: الحسن بن حامد بن علي بن مروان، أبو عبد الله الوراق، البغدادي. إمام الحنابلة في زمانهم ومدرسهم ومفتيهم، وهو شيخ القاضي أبي يعلى الفراء، كان ينسخ بيده ويقتات من أجرته، فسمي ابن حامد الوراق، توفي سنة 403 هـ راجعا من مكة بقرب واقصة، من تصانيفه:"الجامع" في فقه ابن حنبل نحو أربعمائة جزء، و "شرح أصول الدين"، و "أصول الفقه". =
الشافعية والأبهري (1) من المالكية (2).
وأما من قال بأنها على الإباحة: فبعض المعتزلة فيما نقله الغزالي عنهم، ومن أهل السنة: "أبو الحسن التميمي وأبو الخطاب (3) والحنفية (4) والظاهرية وابن سريج وأبو حامد
= [سير أعلام النبلاء (13/ 123)، طبقات الحنابلة (3/ 309)، والنجوم الزاهرة (4/ 232)].
(1)
هو: محمد بن عبد الله بن محمد بن صالح، أبو بكر، الأبهري، المالكي. فقيه أصولي، محدث، مقرئ. ولد في حدود سنة 290 هـ، قال ابن فرحون: كان ثقة أمينًا مشهورًا وانتهت إليه الرياسة في مذهب مالك. سكن بغداد. وتفقه على القاضي أبي عمر، من تصانيفه:"شرح مختصر ابن الحكم"، و"الرد على المزني" في ثلاثين مسألة، و "كتاب في أصول الفقه" و "شرح كتاب عبد الحكم الكبير"، توفي سنة 375 هـ.
[سير أعلام النبلاء (12/ 406)، الديباج المذهب (ص 351)، تاريخ بغداد (3/ 492)، البداية والنهاية (11/ 304)].
(2)
شرح الكوكب المنير (1/ 327).
(3)
هو: محفوظ بن أحمد بن حسن بن حسن العراقي الكلوذاني ثم البغدادي؛ أبو الخطاب. إمام الحنابلة في وقته. ولد سنة 432 هـ بضاحية (كلوذا) ببغداد. من تلامذة القاضي أبي يعلى الفراء، قال الذهبي:"كان من محاسن العلماء خيّرًا من أذكياء الرجال". من كتبه (التمهيد) في أصول الفقه، و (الانتصار في المسائل الكبار)، و (الهداية) في الفقه، توفي سنة 510 هـ.
[سير أعلام النبلاء (14/ 335)، شذرات الذهب (6/ 45)، طبقات الحنابلة (409)].
(4)
نسب السيوطي [الأشباه والنظائر (1/ 131)، القول بأن الأصل في الأشياء الحرمة للحنفية، وهذا مخالف لما ينقله الأصوليون عنهم، والذي في "الفصول في الأصول" للجصاص هو القول بالإباحة (3/ 248 - 254).
المروزي (1) وغيرهم" (2).
وأما من قال بأنها على الوقف فكثيرون:
فنسب إلى: أبي الحسن الأشعري، وأبي بكر الصيرفي (3) ، وأبي علي الطبري (4) وأكثر أصحاب الشافعية وسائر المتكلمين (5).
(1) هو: أحمد بن بشر عامر العامري، شيخ الشافعية، مفتي البصرة، تفقه بأبي إسحاق المروزي. قال أبو حفص عمر بن علي المطوعي: كتابه الموسوم بـ (الجامع) أمد له من كل لسان ناطق لإحاطته بالأصول والفروع وإتيانه على النصوص والوجوه، فهو لأصحابنا عمدة من العمد، ومرجع في المشكلات والعقد، توفي سنة 362 هـ.
[سير أعلام النبلاء (12/ 307)، طبقات الشافعية الكبرى (3/ 12 - 13)].
(2)
شرح الكوكب المنير (1/ 325).
(3)
هو: محمد بن عبد الله، أبو بكر الصيرفي، من أهل بغداد، فقيه شافعي، محدث، أصولي، متكلم، قال النووي: من أئمة أصحابنا المتقدمين، كان فهمًا عالمًا ذكيًا، تفقه على ابن سريج، من تصانيفه:"دلائل الأعلام على أصول الأحكام" شرح فيه رسالة الشافعي، وصنف في الإجماع، والحيل، وأدب القضاء، والشروط والمواثيق، توفي في الخميس لثمان بقين من شهر ربيع الآخر من سنة 133 هـ.
[تاريخ بغداد (3/ 472)، طبقات الشافعية لابن السبكي (3/ 186)، ومعجم المؤلفين (3/ 442)].
(4)
هو: الحسن القاسم الطبري أبو علي، فقيه وأصولي شافعي. كان إماما عالمًا بارعًا في عدة فنون، سكن بغداد ودرس فيها وتوفي بها كهلًا، من تصانيفه:"الإفصاح" في فروع الفقه الشافعي، و "المحرر" وهو أول كتاب صنف في الخلاف المجرد، توفي سنة 350 هـ.
[سير أعلام النبلاء (12/ 225) طبقات الشافعية لابن السبكي (3/ 280)، والنجوم الزاهرة (3/ 328)].
(5)
قواطع الأدلة (2/ 48).
وممن وقفت على نصه:
ابن حزم (1) الظاهري، والقاضي أبو يعلى من الحنابلة (2)، وأبو إسحاق الشيرازي (3)، والمظفر السمعاني (4)، وأبو الخطاب الكلوذاني (5)، والرازي (6)، والسهروردي (7)(8)، وابن رشيق المالكي (9)، وابن مفلح (10)، والجارابردي (11)
(1) الإحكام في أصول الأحكام (1/ 83 - 97).
(2)
العدة (4/ 1238).
(3)
اللمع (ص 245)، التبصرة (ص 315).
(4)
قواطع الأدلة (2/ 48).
(5)
التمهيد (4/ 269).
(6)
المحصول (1/ 158 - 163).
(7)
التنقيحات (ص 173).
(8)
هو: الفيلسوف المقتول شهاب الدين يحيى بن حبش بن أميرك الشافعي، كان رأسًا في معرفة علوم الأوائل بارعًا في علم الكلام مناظرًا محجاجًا مزدريًا للعلماء مستهزئًا رقيق الدين، ظهر للعلماء منه زندقة وانحلال فعملوا محضرًا بكفره إلى صلاح الدين فبعث إلى ولده بأن يقتله بلا مراجعة فخيره السلطان فاختار أن يموت جوعًا فمنع من الطعام حتى تلف سنة 587 هـ، وعاش ستًّا وثلاثين سنة وله تصانيف منها "التنقيحات" في أصول الفقه و"التلويحات" و "الهياكل"، وغير ذلك.
[شذرات الذهب (6/ 476)، العبر (3/ 95)، وفيات الأعيان (6/ 268 / 813)].
(9)
لباب المحصول (1/ 208).
(10)
أصول الفقه لابن مفلح (1/ 172).
(11)
السراج الوهاج (1/ 196 - 199)، تأليف: فخر الدين أحمد بن حسن بن يوسف الجاربردي (664 هـ - 746 هـ)، تحقيق: د. أكرم بن محمد بن حسين أوزيقان، دار المعراج =
والإسنوي (1)، وابن النجار الفتوحي (2)، وآل تيمية (3)، وابن برهان (4) والسيوطي (5)، والخطيب البغدادي (6).
الاستدلال على هده المذاهب الثلاثة:
الاستدلال على المذاهب الثلاثة يتم على طريقتين:
الطريقة الأولى: الاستدلال عليها باعتبار أن الدلالة عرفت بطريق العقل.
الطريقة الثانية: الاستدلال عليها باعتبار أن العقل لا مدخل له في تلك المسألة، وإنما البحث فيما يدل عليه السمع من تلك الأقوال.
أما الطريقة الأولى: فلا حاجة إلى التطويل فيها، فموردها - التحسين والتقبيح العقلي - مما قُتل بحثًا وبيانًا، ومعلوم مذهب أهل السنة فيه.
وأما الطريقة الثانية: فتؤول الأقوال الثلاثة إلى قولين: الحظر والإباحة (7).
= الدولية للنشر، الرياض - السعودية، ط. الأولى (1416 هـ - 1996 م).
(1)
التمهيد في تخريج الفروع على الأصول (ص 109).
(2)
شرح الكوكب المنير (1/ 322).
(3)
المسودة (2/ 868 - 877).
(4)
الوصول إلى الأصول لابن برهان (1/ 73).
(5)
الأشباه والنظائر (1/ 131).
(6)
الفقيه والمتفقه (1/ 529).
(7)
بل إن حاصل هذه الأقوال كلها أنها تؤول إلى القول بالإباحة، وذلك لأن القول بالوقف مبني على التوقف عن الحكم العقلي، وانتظار ما ورد الشرع بحكمه، ولا يكون الشرع دليلًا على التوقف، هذا أمر، والأمر الثاني: أنهم صرحوا بأن كثيرًا ممن قال بالوقف إنما كان يقصد عدم المؤاخذة الذي يؤول في النهاية إلى القول بالإباحة. =
وفيما يلي بيان الأدلة على كل قول:
الاستدلال على الحظر:
لم أجد تصريحًا - من القائلين بالحظر - بأن السمع قد دل عليه، لا نقلًا عنهم، ولا استدلالًا لهم، لكن الدليل الذي يذكر في هذا المحل هو: أن الأشياء كلها ملك لله تعالى، وله الخلق والأمر، وملك الغير لا يجوز تناوله من غير إذنه، فوجب أن تكون هذه الأشياء كلها على الحظر، وينبغي أن تبقى الأشياء على ملك مالكها، ولا يتعرض لشيء منها إلا بإذنه وأمره؛ لأن الملك علة الحرمة على غير المالك، بدليل سائر الأملاك، فإذا وجدت علة الحرمة ولم توجد علة الإباحة، كان الشيء على الحرمة (1).
الاستدلال على الإباحة:
استدل على هذا القول بآيات وأحاديث كثيرة منها:
أولًا: من الكتاب:
* قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13].
* قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31].
= أما القول بالحظر: فالذين قالوا به من أهل السنة أرادوا: أنه يمتنع أن يتصرف الإنسان بلا دليل، خاصة إذا كان فيما لا يملك، لا سيما أنهم في التطبيق العملي لا يخالفون في طلب الدليل المخرج عن الإباحة، لذا فالقول بالحظر مآله: القول بالإباحة، وعلى أية حال فالجمهور يرون القول بالإباحة، وهو القول الذي يكاد يحظى بإجماع المعاصرين اليوم.
(1)
قواطع الأدلة (2/ 52).
* قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32].
* قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [الحج: 65].
* قوله تعالى: {كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168].
* قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33].
* قوله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].
* قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 31، 32].
* قوله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ} [النحل: 5].
ووجه الدلالة من تلك الآيات: أن الله عز وجل أخبر فيها عن إباحة ما خلق لنا مما نجده في الأرض فدل ذلك على أن ذلك هو الأصل حتى يأتي التحريم من الشرع لشيء بعينه.
ثانيًا: من السنة:
* ما ورد عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أعظم المسلمين في المسلمين جرمًا، من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته"(1).
قال الزركشي: "وهذا ظاهر في أن الأصل في الأشياء الإباحة، وأن
(1) رواه البخاري (13/ 278 / 7289) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، ومسلم (4/ 1831 / 2358) كتاب الفضائل، باب توقيره صلى الله عليه وسلم، وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه.
التحريم عارض" (1).
* ما ورد عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء فقال صلى الله عليه وسلم: "الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا الله عنه"(2).
ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم: رده إلى الأصل الذي يقيس به الحلال والحرام، فما سكت عنه فلا يدخل تحت دائرة الحرام.
فائدة المسألة:
الذي يذكره الأصوليون في فائدة هذه المسألة: أن من حرم شيئًا في الفقه أو أباحه فعلى ماذا يطلب الدليل، وإذا عدم الدليل فما هو الأصل الذي يبقى عليه حتى يجد الدليل؟ (3)
فأثر الخلاف يظهر في المسكوت عنه (4).
القول المختار:
الذي يظهر لي أن القول الصحيح هو أن الأصل في الأشياء الإباحة وأن
(1) البحر المحيط (6/ 14).
(2)
رواه الترمذي (4/ 192 / 1726) كتاب اللباس، باب ما جاء في لبس الفراء، وابن ماجه (2/ 1117 / 3367) كتاب الأطعمة، باب أكل الجبن والسمن وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1/ 609 / 3195).
(3)
أصول ابن مفلح (1/ 179).
(4)
الأشباه والنظائر للسيوطي (1/ 132).
هذا مذهب جمهور الأصوليين، ومقتضى صنيع عامة الفقهاء (1).
(1) ذكر الزركشي في البحر المحيط (6/ 12) أن الأصل في المنافع الإذن وفي المضار المنع وقال: "هذا عندنا في الأدلة فيما بعد ورود الشرع: أعني أن الدليل السمعي دل على أن الأصل ذلك فيهما إلا ما دل دليل خاص على خلافهما، أما قبله فقد سبقت المسألة في أول الكتاب: لا حكم للأشياء قبل الشرع، ولم يحكوا هنا قولًا بالوقف كما هناك؛ لأن الشرع ناقل، وقد خلط بعضهم الصورتين وأجرى الخلاف هنا أيضًا، وكأنه استصحب ما قبل السمع إلى ما بعده، ورأى أن ما لم يشكل أمره، ولا دليل فيه خاص يشبه الحادثة قبل الشرع، وسبق هناك ما فيه".
فهذا النص من الزركشي يشمل عدة أمور:
الأول: أن الأمر بعد الشرع على الإباحة.
الثاني: أن هذه المسألة غير مسألة قبل الشرع.
الثالث: أن هناك قوم خلطوا بين المسألتين.
فأما الأمر الأول فلا إشكال فيه، وأما الثاني فهذا فيه نظر، إذ كثير من الأصوليين يصرح بأن فائدة المسألة "الأعيان المنتفع بها قبل الشرع" هي معرفة من الذي يلزمه الدليل المبيح أم المحرم، نعم، قد يفرق بينهما الزركشي، لكن أن ينقل ذلك عن جماهير الأصوليين فلا.
أما الثالثة: فالذين خلطوا بين المسألتين هم أغلب الأصوليين، بل إن الزركشي نفسه في أول كتابه عندما تناول هذه المسألة ونقل عن بعض الشافعية القول بالإباحة قال:"واعلم أن من قال من أصحابنا بالحظر أو الإباحة ليس موافقًا للمعتزلة على أصولهم بل لمدرك شرعي"(1/ 159).
أما الذين صرحوا بأن فائدة مسألة الأعيان المنتفع بها قبل الشرع هي معرفة الأصل الذي يطلب الدليل للنقل عنه فكثيرون، وممن نقل الزركشي عنهم ذلك: الأستاذ: أبو منصور، والقاضي أبو الطيب الطبري والسمعاني، والماوردي، والروياني، وغيرهم.
وذهب الزركشي بعدما نقل عنهم ما يدل على ذلك إلى أن التحقيق أن كل ذلك لا علاقة له بالمسألة؛ لأن ما ذكروه حوادث بعد الشرع والمسألة في حوادث قبل الشرع. =