الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد
اقتضت بعثة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وكونه رسولًا من عند رب العالمين، أن يكون قدوةً لجميع البشر في كل ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم، فأمر سبحانه المسلمين بالاقتداء والتأسي به والمتابعة له، وحثهم على ذلك، جاعلًا إياه في أعلى منزلة وأسمى مكانة، فمن تأسى به نال الخير كله، والرفعة، والسؤدد في الدنيا والآخرة، ومن لم يكن كذلك كان من أهل الذلة والصغار - كما قال صلى الله عليه وسلم:"وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري"(1) - وحيث إن الأمر كذلك، فإن كل ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم أيًّا كان ذلك الصادر عنه - فيه تشريع للأمة من بعده، ودينٌ يُتَقَرب به إلى الله سبحانه.
وهذا الذي صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم عُرف عند المسلمين بالسنة؛ حيث كانت السنة مصدرًا من مصادر التشريع ومعرفة أحكام رب العالمين، فكان قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخبرنا سبحانه أنه وحي من عنده، فكلام الرسول ليس
(1) رواه أحمد (9/ 123) مسند الإمام أحمد، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية (1420 هـ - 1999 م)، [(2/ 50) في النسخة الهندية، من حديث ابن عمر رضي الله عنه، وصححه الألباني في الإرواء (5/ 109 / 1269) [إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، طبع المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية (1405 هـ - 1985 م)، صحيح الجامع (1/ 545 / 2831) [صحيح الجامع الصغير وزيادته، تأليف: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة (1408 هـ - 1988 م)]، وهو من معلقات البخاري (6/ 115) كتاب الجهاد والسير، باب ما قيل في الرماح.
ككلام بقية البشر بل كلامه معصوم، قال تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4].
ومعلومٌ أن التكاليف الشرعية ما هي إلا طلب فعلٍ أو تركٍ، وغالب تلك التكاليف ما عُلم إلا من قول النبي صلى الله عليه وسلم، حيث إنّ القرآن لم يحتوِ على كثيرٍ من الأحكام المفصلة؛ بل تعرض لها إجمالاً، وبينت السنة ذلك الإجمال، وفسرته بقول النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر معلوم، لا يخفى على أحد.
وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم مشرعًا بقوله فقد كان مشرعًا بفعله، فالنبي صلى الله عليه وسلم يصلي ويقول للناس:"صلوا كما رأيتموني أصلي"(1)، ويُعَلِّم الناس مناسك مناسك الحج بفعله، ويرشدهم إلى الاقتداء به، ويقول:"لتأخذوا مناسككم"(2)؛ أي: عَنِّي.
ولذا كان تعريف السنة عند علماء الأصول متضمنًا قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله - المتضمن للإقرار - المبين للأحكام.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم مشرعًا بالفعل؛ فهل كان مشرعًا بالترك كذلك؟
لقد ورد في السنة ما يشير إلى أنه صلى الله عليه وسلم كان قاصدًا الترك، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل، وهو يحب أن يعمل به
(1) رواه البخاري (2/ 131 - 132/ 631) كتاب الأذان، باب الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة والإقامة، وكذلك بعرفة وجمع وقول المؤذن:"الصلاة في الرحال" في الليلة الباردة أو المطيرة: من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه.
(2)
رواه مسلم (2/ 943 / 1297) كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم" (1).
فتركه صلى الله عليه وسلم العمل كان لأجل حكمة تشريعية كذلك.
والأمثلة على ذلك كثيرة: منها ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة بالمسجد، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال:"قد رأيت الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم"(2)، وكان ذلك في رمضان.
وقد جاء في الحديث ما يقتضي أن الترك عبادة، من ذلك ما ورد من حديث معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من ترك اللباس تواضعًا لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء"(3).
(1) رواه البخاري (3/ 13 / 1128) كتاب التهجد، باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على قيام الليل والنوافل من غير إيجاب، ومسلم (1/ 497 / 718) كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة الضحى.
(2)
رواه البخاري (3/ 14 / 1129) كتاب التهجد، باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على قيام الليل والنوافل من غير إيجاب، ومسلم (1/ 524 / 761) كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح.
(3)
رواه الترمذي وحسنه (4/ 561 / 2481) كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب رقم (39)[الجامع الصحيح وهو سنن الترمذي لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، تحقيق: أحمد محمد شاكر، (الجزء الرابع والخامس، تحقيق: كمال يوسف الحوت) المكتبة الثقافية - بيروت - لبنان]، وحسنه الألباني في الصحيحة (2/ 337 / 718) [سلسلة =
وكذلك ما ورد من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك"(1).
وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "ألم تري أنَّ قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا على قواعد إبراهيم؟ "، فقلت:"يا رسول الله ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ "، قال:"لولا حدثان قومك بالكفر لفعلتُ"، فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه:"لئن كانت عائشة رضي الله عنها سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أُرَى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين الذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتم على قواعد إبراهيم"(2).
هذه الأحاديث وغيرها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مُشَرِّعًا بالترك، وأن الصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا ينقلون عن النبي صلى الله عليه وسلم الترك كما كانوا ينقلون عنه الفعل سواء بسواء، وما ذاك إلا لما استقر في أذهانهم أن ذلك تشريع للأمة وبيان للأحكام، وأن الترك يتعلق به أحكام شرعية وثواب وعقاب وتكليف.
= الأحاديث الصحيحة، تأليف: محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، طبعة جديدة (1415 هـ - 1995 م)].
(1)
رواه البخاري (4/ 340 / 2051) كتاب البيوع، باب الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات، وهذا لفظه، ورواه مسلم (3/ 1219 / 1599) كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، بلفظ قريب.
(2)
رواه البخاري (3/ 513 / 1583) كتاب الحج، باب فضل مكة وبنيانها، ومسلم (2/ 968 / 1333) كتاب الحج، باب نقض الكعبة وبنائها.