الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال ابن سيده: "بَدَعَ الشيء يَبدَعُه بَدعًا وابتدعه: أنشأه وبدأه"(1).
قال الأزهري: "أخبرني المنذري عن الحران عن ابن السكيت: البدعة كل محدثة"(2).
قال الخليل: "البَدع: إحداث شيء لم يكن له من قبل خلقٌ ولا ذكرٌ ولا معرفةٌ"(3)، فـ "فلان بِدع في هذا الأمر أي أوّل لم يسبقه أحد"(4)، و "البدعة: ما عُمل على غير مثال سابق" (5)، وهي اسم من ابتدع الأمر إذا ابتدأه وأحدثه (6).
فالبدعة في اللغة إذن: ما ليس على مثال سابق.
المسألة الثانية: المراد بالبدعة في الشرع:
هناك اتجاهان مشهوران في تحديد البدعة الشرعية:
الاتجاه الأول: يمثله الشاطبي ومن وافقه.
(1) المحكم (2/ 33).
(2)
تهذيب اللغة (2/ 240).
(3)
العين (2/ 54).
(4)
لسان العرب (1/ 352).
(5)
المطلع على أبواب المقنع (ص 334) لمحمد بن أبي الفتح البعلي الحنبلي (ت 709)، ط. الثالثة (1421 هـ - 2000 م) المكتب الإسلامي - بيروت.
(6)
المغرب في ترتيب المعرب (1/ 62) لأبي الفتح ناصر الدين المطرزي (ت 610 هـ) تحقيق: محمود فاخوري وعبد الحميد مختار، ط. الأولى (1399 هـ - 1979 م) مكتبة أسامة بن زيد، حلب - سورية.
الاتجاه الثاني: يمثله العز بن عبد السلام (1) ومن وافقه.
ولابد من بيان معنى البدعة عند كل اتجاه، ثم بيان نوع هذا الخلاف هل هو لفظي أم حقيقي، ثم بيان الاتجاه المُختار.
الاتجاه الأول في تعريف البدعة:
بوب الشاطبي - في كتابه الاعتصام (2) - لتعريف البدعة بابًا كاملًا، وقد عرف فيه البدعة بتعريفين:
الأول: عبارة عن طريقةٍ في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه.
الثاني: البدعة طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية.
فالشاطبي يشترط في البدعة أن يقصد بها التقرب إلى الله سبحانه - سواء بالتعريف الأول أو الثاني - وهي بذلك لا تكون إلا مذمومة.
وهذا الذي ذهب إليه الشاطبي ذهب إليه جماعة من أهل العلم قبله وبعده، فمن ذلك:
(1) هو: شيخ الإسلام عز الدين أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن حسن السلمي الدمشقي الشافعي، ولد سنة سبع وسبعين وخمسمائة، برع في العربية والأصول وبلغ رتبة الإجتهاد، قال الذهبي: انتهى إليه معرفة المذهب مع الذكاء المفرط والعبادة والنسك والقول بالحق المر، توفي سنة 660 هـ. اهـ.
[سير أعلام النبلاء (17/ 32)، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (2/ 137 / 412)].
(2)
الاعتصام (ص 27).
ما نقله الشاطبي عن الإمام مالك بن أنس أنه قال: "من أحدث في هذه الأمة شيئًا لم يكن عليه سلفها، فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم دينًا".
قال ابن تيمية: "البدعة ما لم يشرعه الله من الدين"(1).
قال ابن حجر الهيتمي: "البدعة الشرعية ضلالة كما قال صلى الله عليه وسلم، ومن قسَّمها من العلماء إلى حسن وغير حسن فإنما قسَّم البدعة اللغوية"(2).
قال العيني: " (محدثاتها) جمع محدثة، والمراد به ما أُحدث وليس له أصل في الشرع، وسُمي في عرف الشرع بدعة، وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة"(3).
قال أبو شامة: "البدعة: التي يظنها الناس أنها قربة وهي بخلاف ذلك"(4).
قال ابن رجب (5): "فمن تقرب إلى الله بعمل لم يجعله الله ورسوله قربة
(1) الاستقامة (1/ 42)، مجموع الفتاوى (4/ 107)، (31/ 36).
(2)
الفتاوى الحديثية (ص 200).
(3)
عمدة القاري (25/ 42).
(4)
الباعث على إنكار البدع والحوادث (ص 25) لشهاب الدين أبي محمد عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المعروف بأبي شامة - الشافعي، ط. الثانية، مطبعة النهضة الحديثة - مكة (1401 هـ - 1981 م).
(5)
هو: عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي البغدادي الدمشقي الفقيه الزاهد البارع =
إلى الدين، فعمله باطل مردود عليه" (1).
ويستدل هذا الاتجاه على أن البدعة الشرعية لا تكون إلا مذمومة بأدلة كثيرة: أبرزها العموم المؤكد في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"(2) فـ "كل" من أقوى صيغ العموم.
قال ابن رجب: "فقوله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة" من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين"(3).
ومن الأدلة أيضًا:
قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد"(4).
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لكل عمل شِرَّة ثم فَترَة، فمن كانت فترَتُه إلى بدعة فقد ضل، ومن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى"(5).
= الأصولي المحدث، له العديد من المصنفات مثل ذيل (طبقات الحنابلة) و (القواعد الفقهية) و (جامع العلوم والحكم) و (لطائف المعارف)، ولد سنة 736 هـ، توفي سنة 795 هـ.
قال ابن حجر عنه: "صار أعرف أهل زمانه بالعلل وتتبع الطرق".
[إنباء الغمر (1/ 460)، شذرات الذهب (8/ 578)].
(1)
جامع العلوم والحكم (ص 84).
(2)
رواه أبو داود (4/ 200 / 4607) كتاب السنة، باب لزوم السنة، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (6/ 526 / 2735).
(3)
جامع العلوم والحكم (ص 358).
(4)
رواه البخاري (5/ 355 / 2697) كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على جور فالصلح مردود، ومسلم (3/ 1343 / 1718) كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور.
(5)
رواه أحمد في المسند [(38/ 457 - 458/ 23474) الأرنؤوط (5/ 409) الهندية]، =
وقول معاذ بن جبل رضي الله عنه: "إن من ورائكم فتنًا. . . فإياكم ومما ابتدع فإن ما ابتُدع ضلالة"(1).
الاتجاه الثاني في تعريف البدعة:
البدعة على الاتجاه الثاني هي: كل ما لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
قال النووي: "البدعة - بكسر الباء - في الشرع: هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم "(2).
قال ابن الجوزي (3): "البدعة عبارة عن فعل لم يكن فابتدع"(4).
= وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح.
(1)
رواه أبو داود (4/ 201 / 4611) كتاب السنة، باب لزوم السنة، وقال الألباني: صحيح الإسناد موقوف [صحيح أبو داود (3/ 120)].
(2)
تهذيب الأسماء واللغات (3/ 22) للإمام محي الدين بن شرف النووي، نشر وتصحيح مجموعة من العلماء بإدارة الطباعة المنيرية.
(3)
هو: الحافظ المفسر جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله، ينتهي نسبه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، القرشي التميمي البكري البغدادي الحنبلي الواعظ فخر العراق، ولد سنة 509 هـ، كان رأسًا في التذكير بلا منازعة، توفي سنة 597 هـ، وله العديد من المصنفات منها:"زاد المسير في علم التفسير"، "صيد الخاطر"، "العلل المتناهية"، "تلبيس إبليس".
[سير أعلام النبلاء (15/ 483)، وفيات الأعيان (3/ 140)، شذرات الذهب (6/ 537)].
(4)
تلبيس إبليس (1/ 136) لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، دراسة وتحقيق: د. أحمد بن عثمان المزيد، إشراف: الشيخ/ عبد الرحمن بن ناصر البراك، الناشر: دار الوطن للنشر، ط. الأولى (1423 هـ - 2002 م).
وأشهر من نُقل عنه تفصيل القول في ذلك هو العز بن عبد السلام، فقد قال:
"البدعة: فعل ما لم يعهد في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي منقسمة إلى بدعة واجبة وبدعة محرمة وبدعة مندوبة، وبدعة مكروهة، وبدعة مباحة.
والطريق إلى ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة، فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، وإن دخلت في قواعد التحريم فهي محرمة، وإن دخلت في قواعد المكروه فهي مكروهة، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة، وإن دخلت في قواعد المباح فهي مباحة" (1).
وممن وافقه على ذلك:
الزركشي (2) والقرافي (3) ومحمد بن جُزَيّ المالكي (4)(5)
(1) قواعد الأحكام (2/ 337) لعز الدين بن عبد السلام، تحقيق د. نزيه حماد، د. عثمان ضميرية، ط. الأولى (1421 هـ - 2000 م)، دار القلم - دمشق.
(2)
المنثور في القواعد (1/ 218).
(3)
الفروق (4/ 345).
(4)
هو: أبو القاسم محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن جُزَيّ الكلبي الغرناطي المالكي، كان مشاركًا في علوم كثيرة من عربية وفقه وأصول وأدب وحديث، وتقدم خطيبًا في بلده وهو حديث السن، ولد سنة (693 هـ)، وتوفي شهيدًا في واقعة طريف سنة (741 هـ). ألَّف الكثير في فنون شتى منها:(القوانين الفقهية في تلخيص مذهب المالكية)، (وسيلة المسلم في تهذيب صحيح مسلم)، (تقريب الوصول إلى علم الأصول) وغيرها.
[الدرر الكامنة (3/ 356 / 642)، الديباج المذهب (ص 388/ 522)].
(5)
القوانين الفقهية (ص 16)، تأليف: أبي القاسم محمد بن أحمد بن جُزَيّ، تحقيق: =
والسيوطي (1) وغيرهم.
الموازنة بين القولين:
بإجالة النظر في النقول المتقدمة يصح القول بأن المقصود بالبدعة عند الاتجاه الأول غير المقصود بها عند الاتجاه الثاني:
فالبدعة عند الشاطبي - ومن وافقه - ليست كل محدث، بل هي خاصة بالشرعية فقط، وهي عند الاتجاه الثاني: كل محدث سواء كان شرعيًّا أم لا.
فالاتجاه الأول أراد بالبدعة المعنى الشرعي فقط، ولذلك فالبدعة عنده لا تكون إلا ضلالة.
والاتجاه الثاني أراد المعنى اللغوي - وهو كل ما أحدث - وهو أعم من المعنى الشرعي.
قال الشيخ محمد بخيت المطيعي: "البدعة الشرعية هي التي تكون ضلالة ومذمومة، أما البدعة التي قسمها العلماء إلى واجب وحرام. . . إلخ فهي البدعة اللغوية، وهي أعم من الشرعية لأن الشرعية قسم منها"(2).
= عبد الله المنشاوي، دار الحديث (1426 هـ - 2005 م).
(1)
الحاوي للفتاوى (1/ 192، 348)[الحاوي للفتاوى في الفقه وعلوم التفسير والحديث والأصول والنحو والإعراب وسائر الفنون، لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد السيوطي، دار الكتب العلمية (1402 هـ - 1982 م)].
(2)
ذكره وهبي سليمان غاوجي الألباني في كتابه: كلمة علمية هادية في البدعة وأحكامها (ص 16) دار الإمام مسلم للنشر والتوزيع - بيروت، ط. الأولى (1412 هـ - 1991 م)، وعزاه إلى أحسن الكلام في البدعة والسنة.
وبذلك يكون محل البحث: هل البدعة الشرعية مذمومة عند أصحاب الاتجاه الثاني أم لا؟، فإذا كانت مذمومة يكون بذلك الخلاف لفظيًّا فقط، وإن كانت غير مذمومة يكون الخلاف معنويًّا.
والذي يظهر لي أن الخلاف هنا لفظي، وممن ذهب إلى ذلك ونصره الشيخ الدكتور محمد عبد الله دراز، فقد قال - بعد أن ذكر الاصطلاحين السابقين -:"إذا عرفت هذا تبين لك أن اختلاف الفريقين في ذم البدعة إطلاقًا وتفصيلًا ليس اختلافًا حقيقيًّا في موضوع واحد، وإنما هو اختلاف اسمي تابع لاختلاف موضوع الحكم، فالمعنى الذي يحكم عليه الفريق الأول بالذم مطلقًا لا يفصل فيه الفريق الثاني، إذ لم يقل أحد منهم بتحسين شيء لم يرد بحسنه دليل أو شاهد شرعي، كما أن المعنى الذي يفصل فيه هذا الفريق لا يطلق الأولون القول بذمه، إذ لم يقل أحد منهم بأن كل ما لم يفعل بخصوصه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يكون مذمومًا، وإن شهدت له الأدلة وأجمع عليه الصحابة"(1)، وإلى مثل هذا ذهب الشيخ علي محفوظ (2).
وبذلك يتبين أن ما ذهب إليه بعض المعاصرين من جواز أن تقع بدعة شرعية في الدين وتكون ممدوحة مما لم يقل به أحد من العلماء المتقدمين قط، وهذا كافٍ في رد قوله وعدم اعتباره.
(1) الميزان بين السنة والبدعة (ص 46) للشيخ الدكتور محمد عبد الله دراز، تحقيق: أحمد مصطفى فضيلة، ط. الثانية (1427 هـ - 2006 م)، نشر دار القلم - القاهرة.
(2)
الإبداع في مضار الابتداع (ص 39).