الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن أمثلة هذا النوع: ما ورد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت يا رسول الله، قال:"وما أهلكك؟ "، قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال:"هل تجد ما تعتق رقبة؟ "، قال: لا، قال:"فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ "، قال: لا، قال:" فهل تجد ما تطعم ستين مسكينًا؟ "، قال: لا، قال: ثم جلس فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر فقال: "تصدق بهذا"، قال: أفقر منا؟ فما بين لابتَيها أهل بيت أحوج إليه منا، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال:"اذهب فأطعمه أهلك"(1).
فالراوي لم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المرأة بالكفارة بل أمر الرجل فقط، وهذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرها إذ لو أمرها لنقله؛ لأن مثل ذلك يحتاج إليه في معرفة الحكم، والراوي إنما يروي لبيان الحكم، ومما يجدر الإشارة إليه هنا أننا وإن قلنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر المرأة بالكفارة إلا أن الخلاف في كون المرأة تجب عليها كفارة ما زال قائمًا؛ إذ يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرها اكتفاءً بما عرف من أن النساء شقائق الرجال في الأحكام.
3 - أن يكون ذلك الخبر مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله لو حصل، فعدم نقله والحالة كذلك يؤكد عدم وقوعه
.
(1) رواه البخاري (4/ 193 / 1936) كتاب الصوم، باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر، ومسلم (2/ 781 - 782/ 1111) كتاب الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم. واللفظ لمسلم.
ونظيره ما يذكره الأصوليون من أن ما ينقل على سبيل التواتر لا يكفي فيه نقل الآحاد.
فمن ذلك أنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الغائب على غير النجاشي، أو أنه كرر العمرة قبل خروجه إلى عرفات.
ومن ذلك أيضًا أنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب في حجة الوداع إلى موضع تحنثه في غار حراء ولا ذهابه إلى غار ثور.
فكل ذلك مما يستفيض العلم به لو حصل، ويستحيل أن يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينقله واحد - والأحكام الشرعية متعلقة بمثل ذلك - لو حصل - ومع ذلك ينقل ما هو أقل من ذلك بكثير في الشأن، فكل ذلك يقوي القول بعدم حصول مثل ذلك (1).
ومن ذلك: أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك مال الكعبة ولم بقسمه، فاستدل به شيبة بن عثمان رضي الله عنه على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أرد أن يقسمه، وبيان ذلك فيما ورد عن شقيق عن شيبة يعني ابن عثمان قال: قعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مقعدك الذي أنت فيه فقال: "لا أخرج حتى أقسم مال الكعبة"، قال: قلت: "ما أنت بفاعل"، قال:"بلى لأفعلن"، قال: قلت: "ما
(1) هذه الأمثلة - عدا مثال صلاة الغائب - جعلها الدكتور الأشقر من النوع الأول، والأولى أن يكون ذلك من هذا القسم إذ إنه أقوى في الدلالة من النوع الأول ولذا فقد حصل الخلاف في مثاله ولم يحصل الخلاف في الأمثلة المذكورة هنا على ما أعلم، وهذه الأمثلة وغيرها قد طول الكلام عليها وفصلها واستدل بها ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم"(ص 360) وما بعدها.
أنت بفاعل"، قال: "لم"؟ قلت: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى مكانه، وأبو بكر رضي الله عنه، وهما أحوج منك إلى المال فلم يخرجاه، فقام فخرج (1).
قال ابن حجر: "قال ابن بطال: أراد عمر قسمة المال الذي في الكعبة في مصالح المسلمين فلما ذكره شيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر بعده لم يتعرضا له لم يسعه خلافهما، ورأى أن الاقتداء بهما واجب، قلت - القائل هو ابن حجر -: وتمامه أن تقرير النبي صلى الله عليه وسلم مُنزَّل منزلة حكمه باستمرار ما ترك تغييره، فيجب الاقتداء به في ذلك لعموم قوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ}، وأما أبو بكر فدل عدم تعرضه على أنه لم يظهر له من قوله صلى الله عليه وسلم ولا من فعله ما يعارض التقرير المذكور، ولو ظهر له لفعله، لا سيما مع احتياجه للمال لقلته في مدته فيكون عمر رضي الله عنه مع وجود كثرة المال في أيامه أولى بعدم التعرض"(2).
* * *
(1) رواه أبو داود (2/ 222 / 2031) كتاب المناسك (الحج)، باب في مال الكعبة، وابن ماجه (2/ 1040 / 3116) كتاب المناسك، باب مال الكعبة، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 568 / 2031)، وهو بمعناه عند البخاري (3/ 533 / 1594) كتاب الحج، باب كسوة الكعبة، (13/ 263 / 7275) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2)
فتح الباري (13/ 266).