الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال السُّهروردي:
" دل العقل على براءة الذمة، ونفي الحرج، وما استروح إليه زاعموا الحظر قبل ورود الشرع بين إبطاله: فصوم شوال، وانتفاء وجوب سادسة من الصلوات باق على البراءة الأصلية"(1).
قال المرداوي:
" استصحاب العدم الأصلي وهو الذي عرف بالعقل انتفاؤه، وأن العدم الأصلي باق على حاله، كالأصل عدم وجوب صلاة سادسة، وصوم شهر غير رمضان، فلما لم يرد السمع بذلك حكم العقل بانتفائه لعدم المثبت له"(2).
وهذه النقولات تبين أنه ليس للمكلف أن ينتقل عن الأصل إلا بدليل، وتبين أيضًا أن الدليل إنما يأتي بإثبات العبادة، وعليه فالأصل عدمها حتى يأتي ما يثبتها، وهذا مما هو معلوم بالاضطرار من قواعد الشرع وكلام أهل العلم، ولولا أنه قد حصل في زماننا هذا من يدعي خلاف ذلك لما احتجنا إلى إقامة الدليل على مثل هذا الأمر.
الأدلة على أن الأصل في العبادات المنع:
من الكتاب:
* قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21].
(1) التنقيحات (ص 316).
(2)
التحبير شرح التحرير (8/ 3754).
أي: يعني "ما لم يأمر به"(1)، قال النسفي (2):"شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله: أي لم يأمر به"(3).
ومن السنة:
(1)
حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال:"أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن عبدًا حبشيًا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"(4).
(1) بحر العلوم لنصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي والمهوَر بتفسير السمرقندي (3/ 229)، تحقيق: د. محمود مطرجي، دار الفكر - بيروت.
(2)
هو: عبد الله بن أحمد بن محمود، أبو البركات حافظ الدين النسفي من أهل (إيزج) من كور (أصبهان) ووفاته فيها، فقيه حنفي كان إمامًا كاملًا مدققًا رأسًا في الفقه والأصول، بارعًا في الحديث ومعانيه، من المجتهدين في المذهب.
من تصانيفه (كنز الدقائق) متن مشهور في الفقه، و (الوافي) في الفروع، و (الكافي) في شرح الوافي، و (المنار) في أصول الفقه، توفي سنة 701 هـ، وقيل: سنة 710 هـ.
[الفوائد البهية (ص 101)، والجواهر المضية (2/ 294 / 692)، والأعلام (4/ 67)].
(3)
تفسير النسفي لأبي البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي، تحقيق: الشيخ مروان محمد السقار، دار النفائس - بيروت، ط. (2005)(4/ 149).
(4)
رواه أبو داود (4/ 200 / 4607) كتاب السنة، باب في لزوم السنة، والترمذي (5/ 43 =
قال الرازي: "قوله صلى الله عليه وسلم: "وإياكم ومحدثات الأمور": لا يريد به كل ما حدث بعد ما لم يكن، فإن جميع الأفعال هكذا، بل المراد منه: ما يأتي به الإنسان مع أنه عليه السلام لم يأت بمثله، وذلك متناول للفعل والترك، فكل ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم كان تركه بدعة، وكل ما تركه الرسول كان فعله بدعة.
فلما حكم على البدعة أنها ضلالة، علمنا أن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في كل الأمور واجبة إلا ما خصه الدليل" (1).
(2)
ما ورد عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"(2)، وفي رواية:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد"(3).
قال النووي: "قال أهل العربية: الرد هنا بمعنى المردود، ومعناه: فهو باطل غير معتد به، وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات
…
= - 44/ 2676) كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، وابن ماجه (1/ 16 - 15/ 42) المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، وصححه الألباني في الصحيحة (6/ 526 / 2735).
(1)
شرح المعالم (2/ 25).
(2)
رواه مسلم (3/ 1343 - 1344/ 1718) كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور.
(3)
رواه البخاري (5/ 355 / 2697) كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، ومسلم (3/ 1343 / 1718) كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور.
وهذا الحديث مما ينبغي حفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به" (1).
قال ابن حجر: "وهذا الحديث معدود من أصول الإسلام، وقاعدة من قواعده، فإن معناه من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه"(2).
(3)
ما ورد عن عمر بن يحيى قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعًا فقال له أبو موسى رضي الله عنه: يا أبا عبد الرحمن إني رأيت في المسجد آنفًا أمرًا أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيرًا، قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قومًا حلقًا جلوسًا ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصا، فيقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئًا انتظار رأيك - أو انتظار أمرك - قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم!، ثم مضى ومضينا معه، حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم، فقال:
(1) شرح صحيح مسلم (12/ 242).
(2)
فتح الباري (5/ 357).
ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الله: حصا نعد به التكبير، والتهليل، والتسبيح، قال: فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده: إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد صلى الله عليه وسلم، أو مفتتحو باب ضلالة؟! قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير؟ قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وايم الله؛ ما أدري لعل أكثرهم منكم، ثم تولى عنهم.
فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الخلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج (1).
ما استدل به المجيزون:
قبل بيان ما استدل به المجيزون تفصيلًا والرد عليه، لابد من بيان عدة أمور:
أولًا: أن هذه الأدلة جمعتها من كتب المعاصرين، ولم أقف على أدلة لأحد من المتقدمين يقول بجواز إحداث عبادة دون أن يرد بحقها الدليل.
(1) رواه الدارمي (1/ 79 / 204) بهذا السياق في المقدمة، باب في كراهية أخذ الرأي [سنن الدارمي للإمام عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، تحقيق: فواز أحمد زمرلي، خالد السبع العلمي، نشر دار الريان للتراث، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الأولى (1407 هـ - 1987 م)]، وقال حسين سليم أسد في تعليقه على هذا الحديث (1/ 287) [دار المغني للنشر والتوزيع]: إسناده جيد.
ثانيًا: أن الرد على تلك الأدلة فيه إجمال وتفصيل:
أما الإجمال: فتلك الأدلة لا تخلو من أحد أمرين، إما أن تكون في غير محل النزاع، أو تكون غير صحيحة في الاستدلال.
ويتضح ذلك الإجمال عند مناقشة تلك الأدلة على وجه التفصيل.
ثالثًا: بالرجوع إلى شروح تلك الأحاديث لم أجد من نص على دلالة تلك الأحاديث على محل النزاع، وهو أن الأصل في العبادات الإباحة.
رابعًا: كان من حق تلك المسألة أن يُقْتَصر فيها على بيان ما هو محل إجماع عند المتقدمين، ولا يُعَرَّج على ذلك الخلاف ما دام هذا القول مناقضًا للإجماع ولكن الذي دعى للعدول عن ذلك الأصل شهرة التمسك بهذه الأدلة في مقابلة من يذكر الإجماع القديم، وكثرة من استدل بها خصوصًا من يتابع الشيخ الغماري فيما ذهب إليه في الاستدلال على أن الأصل في الأشياء الإباحة بجواز إحداث عبادة.
الدليل الأول:
* ما ورد عن رفاعة بن رافع الزرقي رضي الله عنه قال: كنا يومًا نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رفع رأسه من الركعة قال:"سمع الله لمن حمده"، قال رجل وراءه:"ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه"، فلما انصرف قال:"من المتكلم؟ " قال: أنا، قال:"رأيت بضعةً وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيهم يكتبها أول"(1).
(1) رواه البخاري (2/ 332 / 799) كتاب الأذان، باب رقم (126) بدون ترجمة.
* ما ورد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قال رجل من القوم:"الله أكبر كبيرًا والحمد لله كثيرًا وسبحان الله بكرةً وأصيلًا"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من القائل كلمة كذا وكذا؟ "، قال رجل من القوم: أنا يا رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم:"عجبت لها فتحت لها أبواب السماء".
قال ابن عمر: فما تركتهن منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك (1).
قالوا: الصحابي أحدث دعاءً جديدًا في الصلاة دون استئذان النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أقرّه على ذلك ولم يعنَّفه ولم ينهه، والدعاء هو العبادة كما ورد في الحديث، فهذا دليل على جواز إحداث عبادة جديدة.
والرد على ذلك:
أنَّه لا يمانع من أن الصحابي دعا بدعاء لم يثبت له فضل قبل إقرار النبي صلى الله عليه وسلم له، لكن ما حكم أن يدعو الرجل في الصلاة بدعاء يختاره ويراه؟
الجواب: أن حكم ذلك الإباحة بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنه قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما التسبيح والتكبير والتهليل"(2) وهذا دليل على جواز أن يقول الصحابي في الصلاة
(1) رواه مسلم (1/ 420 / 601) كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة.
(2)
رواه مسلم (1/ 381 - 382/ 537) كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحته.
ما شاء من الدعاء (1).
(1) اختلف الفقهاء هل يجوز للإنسان أن يدعو بما شاء في صلاته أم يتقيد بالمنصوص؟ على قولين: الأول: عدم الجواز؛ وهو قول أبي حنيفة وأحمد، والقول الثاني: الجواز؛ وهو قول الشافعي ومالك.
قال البدر العيني في عمدة القاري (6/ 169): ثم اعلم أن العلماء اختلفوا فيما يدعو به الإنسان في صلاته، فعند أبي حنيفة وأحمد لا يجوز الدعاء إلا بالأدعية المأثورة أو الموافقة للقرآن العظيم لقوله صلى الله عليه وسلم:"إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" رواه مسلم، وذكره ابن أبي شيبة عن أبي هريرة رضي الله عنه وطاووس ومحمد بن سيرين، وقال الشافعي ومالك يجوز أن يدعو فيها بكل ما يجوز الدعاء به في خارج الصلاة من أمور الدنيا والدين مما يشبه كلام الناس ولا تبطل صلاته بشيء من ذلك عندهما. اهـ.
وقال أيضًا في حديث التعوذ بعد التشهد: وفيه استحباب قراءة الأدعية في آخر الصلاة من الدعوات المأثورة أو المشابهة لألفاظ القرآن، وقال الكرماني: قالت الشافعية يجوز الدعاء في الصلاة بما شاء من أمر الدنيا والآخرة ما لم يكن إثمًا، قال ابن عمر: لأدعو في صلاتي حتى بشعير حماري وملح بيتي. اهـ.
وهذا الحديث دليل لأصحاب القول الثاني القائلين بالجواز وهو اختيار جماعة من العلماء كابن عبد البر، وابن حجر.
قال ابن عبد البر في التمهيد (6/ 104): وفي حديث هذا الباب - يعني حديث رفاعة - لمالك أيضًا دليل على أن الذكر كله والتحميد والتمجيد ليس بكلامٍ تفسد به الصلاة، وأنه كله محمود في الصلاة المكتوبة والنافلة مستحب مرغوب فيه وفي حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التكبير والتسبيح والتهليل وتلاوة القرآن" فأطلق أنواع الذكر في الصلاة، فدل على أن الحكم في الذكر غير الحكم في الكلام وبالله التوفيق. اهـ.
قال ابن حجر في الفتح (2/ 335) في شرح حديث (حمدًا كثيرًا. . . . .): واستُدِل به على جواز إحداث ذكر في الصلاة غير مأثور إذا كان غير مخالف للمأثور. اهـ. =
فما فعله ذلك الرجل كان مأذونًا له فيه، فلما دعا بدعاءٍ أقره النبي صلى الله عليه وسلم وبيّن فضله كان إقرار النبي صلى الله عليه وسلم وذكره لفضل الدعاء دليل على استحباب هذا الدعاء وتخصيصه بذلك الموطن.
وينبغي أن يتنبه هنا إلى ما هو موطن التعبد.
التعبد هنا يكون بعدة أمور:
الأول: الدعاء نفسه.
الثاني: تخصيص الدعاء بموضع بعينه.
= قلت: الحافظ إنما نقل جواز إحداث ذكرٍ غيرِ مأثور في الصلاة، وهذا الكلام منه لا يعني أنه يُجوِّز القول بتخصيص دعاءٍ لم يرد وادعاء أن له فضل ثابت، بل يعني جواز الدعاء في الصلاة بما شاء من الدعاء دون أن يتقيد بالمنصوص.
أما أدلة القول الأول: فعمدتهم حديث: "لا يصلح فيها شيء من كلام الناس"، قالوا: الدعاء بغير المأثور من كلام الناس، وممن بالغ في الإنكار على هذا القول الشوكاني في السيل الجرار (1/ 238) فقد قال:(والمراد بقوله: "لا يصلح فيها شيء من كلام الناس" أي من تكليمهم ومخاطبتهم، هذا هو المعنى العربي الذي لا يشك فيه عارف، وليس المراد ما زعمه المانعون للدعاء في الصلاة من أن المراد لا يصلح فيها شيء مما هو من كلام الناس الذي ليس من كلام الله عز وجل، فإن هذا خلاف ما هو المراد وخلاف ما دلت عليه أسباب هذه الأحاديث الواردة في منع الكلام، وخلاف ما ثبت في الصلاة من ألفاظ التشهد ونحوها وخلاف ما تواتر تواترًا لا يشك فيه من لديه أدنى علم بالسنة من الأحاديث المصرحة بمشروعية الدعاء في الصلاة بألفاظ ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وبألفاظ دالة على مشروعية مطلق الدعاء كقوله صلى الله عليه وسلم: "وليتخير من الدعاء أعجبه إليه"، وبالجملة فالمنع من الدعاء في الصلاة لا يصدر إلا ممن لا يعرف السنة النبوية، ولا يدري بما اشتملت عليه كتبها المعمول بها والمرجوع إليها في جميع الأقطار الإسلامية وفي كل عصر وعند أهل كل مذهب) اهـ.
أما الأول: فلا إشكال فيه كما سبق، أما الثاني: فهو موطن النزاع أو بعبارة أدق: الذي ينبغي أن يكون، وظاهر من الحديث أن الصحابي لم يخصصه بذلك الموضع، أي لم يتعبد بهذا الذكر في هذا الموضع ولا غيره من الصحابة حتى ثبت فضله بقول النبي صلى الله عليه وسلم (1).
فلا يقول أحدٌ إن الصحابي خصص ذلك الموضع بهذا الدعاء وتعبد بذلك قبل إقرار النبي صلى الله عليه وسلم له، ثم إن في الحديث ما يشعر أن المستقر عند الصحابة ابتداء أنهم غير مأذون لهم في إحداث ما لم يرد به نص وذلك أنه فهم من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم الاستنكار ابتداءً حتى بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك الفهم غير مراد (2).
(1) بل قد ورد في رواية النسائي (2/ 145)[كتاب الافتتاح، باب قول المأموم إذا عطس خلف الإمام] عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فعطست فقلت الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه مباركًا عليه كما يحب ربنا ويرضى، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف، فقال:"من المتكلم في الصلاة؟ " فلم يكلمه أحد، ثم قالها الثانية:"من المتكلم في الصلاة؟ "، فقال رفاعة بن رافع بن عفراء رضي الله عنه: أنا يا رسول الله، قال:"كيف قلت؟ "، قال: قلت: الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه مباركًا عليه كما يحب ربنا ويرضى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده لقد ابتدرها بضعةٌ وثلاثون ملكًا أيهم يصعد بها".
ففي هذه الرواية أن الصحابي عطس فقال ذلك، وجمع ابن حجر بين تلك الأحاديث بأنه لعله اتفق عطاسه مع رفع النبي صلى الله عليه وسلم من الركوع فقال ذلك، جمعًا بين الأحاديث [فتح الباري (2/ 334)].
(2)
قد ورد ما يدل على ذلك: ففي رواية مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: "أيكم المتكلم؟ " فأرمّ القوم، فقال صلى الله عليه وسلم:"أيكم المتكلم بها؟ فإنه لم يقل بأسًا"[رواه مسلم (1/ 419 - 420/ 600) كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة] وانظر فتح الباري (2/ 334).
الدليل الثاني:
* ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال عند صلاة الفجر: "يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة"، قال:"ما عملت عملًا أرجى عندي أني لم أتطهر طهورًا في ساعة ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي"(1).
(1) رواه البخاري (3/ 41 / 1149)، ومسلم (4/ 1910 / 2458) قال أبو عبد الله:"دف نعليك" يعني: تحريك، قال ابن حجر في الفتح (3/ 42):"قال ابن التين: إنما اعتقد بلال ذلك لأنه علم من النبي صلى الله عليه وسلم أن الصلاة أفضل الأعمال، وأن عمل السر أفضل من عمل الجهر، وبهذا التقرير يندفع إيراد من أورد عليه غير ما ذكر من الأعمال الصالحة، والذي يظهر أن المراد بالأعمال التي سأله عن أرجاها الأعمال المتطوع بها، وإلا فالمفروضة أفضل قطعًا، ((ويستفاد منه جواز الاجتهاد في توقيت العبادة))، لأن بلالا توصل إلى ما ذكرنا بالاستنباط فصوبه النبي صلى الله عليه وسلم " اهـ.
قلت: لم يستدل أحد من أهل العلم - ممن اطلعت على كلامهم - بهذا الحديث على جواز إحداث عبادة جديدة إلا ما كان من كلام ابن حجر، وهذا الكلام منه ليس فيه ما يدل على جواز إحداث عبادة، وإنما فيه جواز الاجتهاد في توقيت عبادة، وهذا قد يجوز عند عدم اعتقاد أفضلية بهذا التوقيت، بل الذي يظهر من كلام شراح الحديث أن بلالًا فعل عبادة هي من أفضل التطوع وهي الصلاة وفعلها في السر.
وقد قال أبو شامة في الباعث على إنكار البدع والحوادث (165): "ولا ينبغي تخصيص العبادات بأوقات لم يخصصها بها الشرع، بل تكون جميع أفعال البر مرسلة في جميع الأزمان، ليس لبعضها على بعض فضل إلا ما فضَّله الشرع، وخصَّه بنوع العبادة، فإن كان ذلك اختص بتلك الفضيلة تلك العبادة دون غيرها، كصوم يوم عرفة، وعاشوراء، والصلاة في جوف الليل، والعمرة في رمضان، ومن الأزمان ما جعله الشرع فضلًا فيه جميع أعمال البر، =
قالوا: أحدث عبادة لم يكن مأذونًا له فيها على القول بأن الأصل في العبادات المنع.
والرد: أن الصلاة في كل وقت مندوب إليها، ولم يرد في الحديث أن بلالًا اعتقد أفضلية ذلك أو خصص تلك الصلاة بهذا الموضع تعبدًا بذلك التخصيص، بل هذا لم يثبت حتى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فضل العمل الذي عمله بلال، ومعلوم أن من أقوى طرق ثبوت الاستحباب لعمل أن يرد الدليل بذكر فضل له.
فعلى مقتضى الدليلين السابقين يكون:
العبادة المأذون فيها في كل وقت لا مانع من فعلها في الوقت المأذون فعلها فيه دون تخصيص لوقت معين بفضل، حتى يرد بذلك التخصيص دليل شرعي، فمن دعا بدعاء حسن لا مانع منه ما دام لم يخصص هذا الدعاء بوقت يعتقد أنه في ذلك الوقت أفضل من غيره، أو أن له فضلًا أو أجرًا لم يرد به الدليل.
الدليل الثالث:
* ما ورد من حديث عمرو بن دينار رضي الله عنه قال: قلت لجابر بن زيد رضي الله عنه: إنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر، قال: قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
= كعشرة ذي الحجة، وليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. والحاصل أن المكلف ليس له منصب التخصيص، بل ذلك إلى الشارع، وهذه كانت صفة عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم" اهـ.
ولكن أبى ذلك البحر - يعني ابن عباس رضي الله عنهما وقرأ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145]، وقد كان أهل الجاهلية يتركون أشياء تقذرًا، فأنزل الله تعالى كتابه، وبيَّن حلاله، وحرامه، فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، ثم تلا هذه الآية:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} (1)[الأنعام: 145].
وورد عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء فقال صلى الله عليه وسلم: "الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا الله عنه"(2).
* وفي رواية أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن نسيًا، ثم تلا هذه الآية {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] "(3).
(1) رواه البيهقي في السنن الكبرى (9/ 330) كتاب الضحايا، باب ما جاء في أكل لحوم الحمر الأهلية بهذا اللفظ، ورواه أبو داود مختصرًا (3/ 354 / 3800) كتاب الأطعمة، باب ما لم يذكر تحريمه، وقال الألباني في صحيح أبي داود (2/ 448 / 3800): صحيح الإسناد.
(2)
رواه الترمذي (4/ 192 / 1726) كتاب اللباس، باب ما جاء في لبس الفراء، وابن ماجه (2/ 1117 / 3367) كتاب الأطعمة، باب أكل الجبن والسمن، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1/ 609 / 3195).
(3)
رواه البيهقي في السنن الكبرى (10/ 12) كتاب الضحايا، باب ما لم يذكر تحريمه، =
* وورد عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم حرمات فلا تنتهكوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تتكلفوها، رحمة من ربكم فاقبلوها"(1).
* وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله عز وجل أعطى كل ذي حق حقه، ألا إن الله عز وجل فرض فرائض، وسن سننًا، وحد حدودًا، وأحل حلالًا، وحرم حرامًا، وشرع الدين، فجعله سهلًا سمحًا واسعًا، ولم يجعله ضيقًا، ألا إنه لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له، ومن نكث ذمتي لم ينل شفاعتي، ولم يرد علي الحوض، ألا إن الله عز وجل لم يرخص في القتل إلا ثلاث: مرتد بعد إيمان أو زان بعد إحصان أو قاتل نفس فيقتل بقتله ألاهل بلغت؟ "(2).
= ولا كان في معنى ما ذكر تحريمه مما يؤكل أو يشرب، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (5/ 325 / 2256).
(1)
رواه الدارقطني (5/ 538) كتاب الصيد والذبائح والأطعمة وغير ذلك، باب إباحة الصيد بالكلاب والجوارح [سنن الدارقطني للإمام علي بن عمر الدارقطني، تحقيق شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة]، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 12) بمعناه، وحسنه النووي في رياض الصالحين (ص 492)، حديث رقم (1832)[دار الريان للتراث]، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (ص 230) برقم (1597).
(2)
رواه الطبراني في المعجم الكبير (11/ 213)، وقال الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب (1/ 9 / 33): ضعيف جدًّا.
قالوا: هذه الأحاديث تدل على أن المسكوت عنه باق على الأصل الذي هو الإباحة (1).
والرد عليهم:
أن هذه الأدلة كلها مما يستدل به على أن الأشياء الأصل فيها الإباحة، ولا مدخل له في التعبدات بوجه من الوجوه، والكل يقول بذلك، فالأصل فيما عقل معناه في المعاملات والمطعومات والمشروبات إباحته حتى يرد الدليل بالمنع منه.
لكن أين دلالة تلك الأحاديث على أن الأصل في العبادات الإباحة؟!
فالأحاديث كلها في بيان ما يحل وما يحرم من المطعومات، ومعلوم أن ذلك ليس محله العبادات (2).
الدليل الرابع:
* ما ورد عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلًا على سرية وكان
(1) استدل بهذه الأدلة الدكتور عيسى الحميدي في كتابه (البدعة الحسنة أصل من أصول التشريع).
(2)
قال في عون المعبود (6/ 598): "وفيه تنبيه على أن التحريم إنما يعلم بالوحي لا بالهوى"، وقال أيضًا:"والحديث يدل على أن الأشياء أصلها على الإباحة" اهـ.
وقال أيضًا (6/ 597): "وقد اختلف الناس في الأشياء أصلها على الإباحة أو على الحظر وهي مسألة كبيرة من مسائل أصول الفقه فذهب بعضهم إلى أنها على الإباحة وذهب آخرون إلى أنها على الحظر وذهبت طائفة إلى أن إطلاق القول بواحد منهما فاسد ولابد من أن يكون بعضها محظورًا وبعضها مباحًا والدليل ينبئ عن حكمه في مواضعه" اهـ.
يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم بـ "قل هو الله أحد"، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"سلوه لأي شيء يصنع ذلك"، فسألوه فقال:"لأنها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأ بها"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أخبروه أن الله يحبه"(1).
قالوا: فعل فعلًا لا يقع إلا عبادة وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
والجواب: ما هو الذي أقره النبي صلى الله عليه وسلم عليه وما هو الذي أحدثه ذلك الرجل.
فالذي فعله ذلك الرجل أنه واظب على فعل لم يتبين وجه مواظبته عليه، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرر حكمًا بل سأله لماذا يفعل ذلك؟
فلما ذكر له سببًا مشروعًا أجاب باعتبار السبب.
وإذا استُحضر هنا - ولابد من ذلك - قول الأصوليين السؤال معاد في الجواب، فيكون معنى إقرار النبي صلى الله عليه وسلم: إقراره على الفعل بهذا السبب، فهذا مشروع لأن الشرع اعتبره، ولا يطلق هذا الفعل بدون تقيد بالسبب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقره إلا بعد معرفة سببه، ثم إنه لم يقل أحد من أهل العلم باستحباب قراءة الصمد في كل ركعة استدلالًا بهذا الحديث، بل غايته جواز ذلك الفعل، وهذا الجواز مستفاد من إقرار النبي صلى الله عليه وسلم المشروط بما
(1) رواه البخاري (13/ 360 / 7375) كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله، ومسلم (1/ 552 / 813) كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} .
أجاب به ذلك الرجل (1).
الدليل الخامس:
* ما ورد عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، قال: فجاءه قوم حفاة، عراة، مجتابي النمار - أو العباء - متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالًا، فأذن وأقام فصلى ثم خطب، فقال:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إلى آخر الآية {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، والآية التي في الحشر:{اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر: 18]، "تصدق رجل من ديناره، من
(1) قال ابن رجب في فتح الباري (7/ 73): "وقد دل حديث أنس وعائشة رضي الله عنهما على جواز جمع سورتين مع الفاتحة في ركعة واحدة من صلاة الفرض، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينهه عن ذلك، ويدل على أنه ليس هو الأفضل؛ لأن أصحابه استنكروا فعله وإنما استنكروه؛ لأنه مخالف لما عهدوه من عمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في صلاتهم، ولهذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك؟ ". فدل على أن موافقتهم فيما أمروه به كان حسنًا، وإنما اغتفر ذلك لمحبته لهذه السورة.
وأكثر العلماء على أنه لا يكره الجمع بين السور في الصلاة المفروضة، وروي فعله عن عمر وابن عمر رضي الله عنهما وعمر بن عبد العزيز وعلقمة، وهو قول قتادة والنخعي ومالك، وعن أحمد في كراهته روايتان. وكرهه أصحاب أبي حنيفة" اهـ.
[والحديث رواه البخاري ومسلم ولم يستدل به أحد من شُرَّاح البخاري أو مسلم على جواز إحداث عبادة جديدة].
درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة"، قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها - بل قد عجزت - قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها، ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" (1).
قالوا:
هذا الحديث أصل في جواز إحداث عبادة دون الحاجة لدليل، بل غلا البعض فقال: البدعة الحسنة أصل من أصول التشريع مستندًا إلى هذا الحديث.
والرد:
لبيان معنى هذا الحديث لابد من بيان معنى البدعة فأذكره هنا على سبيل الإجمال وله تفصيل في المبحث الذي بعد هذا.
تطلق البدعة في لسان حملة الشرع أحيانًا بمعنى البدعة الشرعية وأحيانًا بمعنى البدعة اللغوية.
فالبدعة اللغوية: ما ليس على مثال سابق.
(1) رواه مسلم (2/ 704 - 705/ 1017) كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة، ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة.
فمن استعمل ذلك المعنى في التعبديات وغيرها: جوَّز حصول البدعة في الدين.
ومن خص البدعة بكونها في التعبديات فقط: منع من حصولها على الإطلاق.
وعلى ذلك فـ "من سن في الإسلام سنة حسنة" معناه: "من أتى بما ليس على مثال سابق".
فإن كان ذلك في غير محل التعبد فذلك معنى صحيح لا إشكال فيه، وهو أصل في إثبات العمل بالمصالح المرسلة.
أما أن يكون ذلك في موطن التعبدات فهذا غير موافق لسبب الحديث أولًا، ولا يجري على قواعد الشرع ثانيًا، إذ يلزم منه أنه لا بدعة في الدين مطلقًا، فأين ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم:"كل بدعة ضلالة"(1).
على أن العلماء الذين شرحوا هذا الحديث قالوا: "من سن في الإسلام" أي: من أحيا سنة قد أميتت، ولم يقل أحد قط بجواز إحداث عبادة باعتبار هذا الحديث (2).
(1) رواه أبو داود (4/ 200 / 4607) كتاب السنة، باب في لزوم السنة، والترمذي (5/ 43 - 44/ 2676) كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، وابن ماجه (1/ 15 - 16/ 42) المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، وصححه الألباني في الصحيحة (6/ 526 / 2735).
(2)
قال الشاطبي في الاعتصام (1/ 130):
[من سن سنة حسنة] الحديث فليس المراد به الاختراع البتة، وإلا لزم من ذلك التعارض بين =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الأدلة القطعية - إن زعم مورد السؤال أن ما ذكره من الدليل مقطوع به، فإن زعم أنه مظنون فما تقدم من الدليل على ذم البدع مقطوع به، فيلزم التعارض بين القطعي والظني والاتفاق من المحققين ولكن فيه بحثًا - أو نظرًا - من وجهين:
أحدهما: أنه يقال: إنه من قبيل المتعارضين إذ تقدم أولًا أن أدلة الذم تكرر عمومها في أحاديث كثيرة من غير تخصيص، وإذا تعارضت أدلة العموم والتخصيص لم يقبل بعد ذلك التخصيص.
والثاني: على التنزل لفقد التعارض، فليس المراد بالحديث الاستنان بمعنى الاختراع وإنما المراد به العمل بما ثبت من السنة النبوية وذلك لوجهين:
أحدهما: أن السبب الذي جاء لأجله الحديث هو الصدقة المشروعة بدليل ما في الصحيح من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنهما قال:
(وذكر الحديث، ثم قال): فتأملوا أين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سن سنة حسنة؟ تجدوا ذلك فيمن عمل بمقتضى المذكور على أبلغ ما يقدر عليه حتى بتلك الصرة فانفتح بسببه باب الصدقة على الوجه الأبلغ، فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال:[من سن في الإسلام سنة حسنة] الحديث فدل على أن السنة ها هنا مثل ما فعل ذلك الصحابي، وهو العمل بما ثبت كونه سنة وأن الحديث مطابق لقوله في الحديث الآخر:[من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي - الحديث إلى قوله - ومن ابتدع بدعة ضلالة] فجعل مقابل تلك السنة الابتداع، فظهر أن السنة الحسنة ليست بمبتدعة وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:[ومن أحيا سنتي فقد أحبني].
ووجه ذلك في الحديث الأول ظاهر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما مضى على الصدقة أولًا ثم جاء ذلك الأنصاري بما جاء به فانثال بعده العطاء إلى الكفاية، فكأنها كانت سنة أيقظها رضي الله تعالى عنه بفعله، ((فليس معناه اخترع سنة وابتدعها ولم تكن ثابتة))
…
فإذًا قوله: [من سن سنة] معناه من عمل بسنة لا من اخترع سنة.
((والوجه الثاني من وجهي الجواب)): أن قوله: [من سن سنة حسنة ومن سن سنة سيئة] لا يمكن حمله على الاختراع من أصل لأن كونها حسنة أو سيئة لا يعرف إلا من جهة الشرع، لأن التحسين والتقبيح مختص بالشرع لا مدخل للعقل فيه وهو مذهب جماعة أهل السنة، =
فرع: حكم وسائل العبادات:
كل ما يعين ويساعد على أداء العبادة فهو وسيلة إليها، فالوسيلة في اللغة:"كل ما يتوصل به إلى مطلوب"(1)، لكن ليس المراد هنا كل فعل يعين على أداء العبادة، وإن كان عبادة في نفسه، بل المراد تلك الأفعال التي لا يقصد بها التعبد (2)، ولا تقع قوبة في الأصل، لكن تلك الأفعال مما يساعد على أداء العبادة ويعين عليها، فما هو الأصل في هذه الأفعال، هل ما زالت
= وإنما يقول به المبتدعة أعني التحسين والتقبيح بالعقل، فلزم أن تكون السنة في الحديث إما حسنة في الشرع وإما قبيحة بالشرع، فلا يصدق إلا على مثل الصدقة المذكورة وما أشبهها من السنن المشروعة، وتبقى السنة السيئة منزلة على المعاصي التي ثبت بالشرع كونها معاصي، كالقتل المنبه عليه في حديث ابن آدم حيث قال عليه السلام:[لأنه أول من سن القتل] وعلى البدع لأنه قد ثبت ذمها والنهي عنها بالشرع كما تقدم.
(1)
انظر لسان العرب (9/ 305)، المصباح المنير (ص 395)، القاموس المحيط (2/ 1409).
(2)
الأفعال التي يراد بها التعبد على نوعين:
النوع الأول: ما صورته كافية في حصول معنى القربة وهو الذي لا يقع إلا قربة وهذا لا يقع إلا عبادة.
النوع الثاني: ما لا يكون قربة إلا بالنية فهو يقع لغرض معقول المعنى ويكون عبادة بالنية.
قال ابن حجر: "النية إنما تشترط في العبادة التي لا تتميز بنفسها. أما ما يتميز بنفسه فإنه ينصرف بصورته إلى ما وضع له كالأذكار والأدعية والتلاوة وأنها لا تتردد بين العبادة والعادة"(فتح الباري 1/ 21).
أما الأفعال التي تقع وسيلة فيشترط أن تكون في الأصل فعلًا مباحًا ثم يختلف حكمه بعد ذلك باختلاف ما هي وسيلة إليه، فتكون واجبة إذا كانت وسيلة للواجب محرمة، إذا كانت وسيلة للمحرم، لكن إذا كان الفعل في الأصل محرمًا فلن يصح أن يكون وسيلة إلى غيره.
تندرج تحت الأشياء التي الأصل فيها الإباحة (1)، أم أنها صارت جزءًا من العبادة فيكون الأصل المنع حتى يرد الدليل بجواز اعتبار تلك الوسائل؟ (2)
الذي يظهر لي في ذلك أن هذه الأفعال ما زالت تندرج تحت الأشياء التي لا يراد بها التعبد فيكون الأصل فيها الإباحة، وذلك بشرط أن يكون الفعل لا يقع قربة، فإذا حصل التعبد بتلك الوسيلة فلابد حينئذ من ورود الدليل بجوازها.
ومثال ذلك اتخاذ مكبرات الصوت في الأذان: فإن استعمال مكبرات الصوت أمر مباح باعتبار الأصل، فإذا استعملت في الأذان كان ذلك جائزًا ومباحًا، إلا أن يقول قائل: أنا أتقرب إلى الله تعالى باستعمال المكبرات لذاتها لا لكونها وسيلة، فحينئذ يكون فعله هذا مفتقرًا إلى الدليل بخصوصه.
(1) أي أن: الأفعال التي تقع وسيلة يشترط أن تكون في الأصل فعلًا مباحًا ثم قد يختلف حكمها بعد ذلك باختلاف ما هي وسيلة إليه، فتكون واجبة إذا كانت وسيلة للواجب، محرمة إذا كانت وسيلة للمحرم، لكن إذا كان الفعل في الأصل محرمًا فلن يصح أن يكون وسيلة إلى غيره، وما دام هذا الفعل لا يراد به التعبد فهو مباح بما ذكر من أن الأصل في الأشياء الإباحة، لكن إذا كان وسيلة للعبادة هل ما زال على الإباحة أم انتقل إلى المنع لكونه صار وسيلة للعبادة.
(2)
انظر هذا الموضوع بتفصيل أوسع: قواعد الوسائل في الشريعة الإسلامية (دراسة أصولية في ضوء المقاصد الشرعية)، تأليف: د/ مصطفى بن كرامة الله مخدوم، طبع دار إشبيليا للنشر والتوزيع، ط. الأولى (1420 هـ - 1999 م)، وعلى الأخص المطلب الخاص بعلاقة البدع بالوسائل (431 - 439).
ويلاحظ هنا أنه لابد من التفريق بين قصد التقرب بالفعل بذاته، وبين التقرب بالفعل بكونه وسيلة للعبادة، فالأمر الأول يلحق بالعبادات التي الأصل فيها المنع حتى يرد الدليل بالمشروعية، والأمر الثاني يلحق بالأشياء التي الأصل فيها الإباحة حتى يرد الدليل بالمنع.