الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حددهم القانون قسمة الميراث سواء أوصى الميت أو لم يوص، وعلل البعض ذلك التقدير بالضرورة، وبنى ذلك آخرون على القاعدة الفقهية التي تقول: إن لولي الأمر أن يأمر بالمباح بما يراه من المصلحة العامة، ومتى أمر به وجبت طاعته، وأمره ينشئ حكمًا شرعيًّا (1).
ومناقشة ذلك في النقاط التالية:
أولًا: ذهب جمهور العلماء إلى أن الوصية لا تجب إلا على من عليه دين، أو عنده وديعة أو عليه واجب يوصي بالخروج منه (2).
قال ابن عبد البر: "أجمعوا على أن الوصية غير واجبة إلا على من عليه حقوق بغير بينة وأمانة بغير إشهاد إلا طائفة شذت فأوجبتها"(3).
ثانيًا: الدليل على ما ذهب إليه الجمهور هو أن قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)} [البقرة: 180]، منسوخ بقوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا
(1) انظر: الميراث والوصية الواجبة في الشريعة الإسلامية (ص 294 - 295)، تأليف الأستاذ الدكتور: جودة عبد الغني بسيوني رئيس قسم الفقه بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر - فرع طنطا، ط. الثانية (1426 هـ - 2006 م)، المواريث في الشريعة الإسلامية (ص 18 - 21)، تأليف الشيخ: حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية وعضو جماعة كبار العلماء، إصدار: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - لجنة التعريف بالإسلام.
(2)
المغني (8/ 390).
(3)
المغني (8/ 391).
مَفْرُوضًا (7)} [النساء: 7]، وبآية الميراث، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا وصية لوارث"(1)، وذلك عند من يرى جواز نسخ القرآن بالسنة، ويؤيد ذلك: أن أكثر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنهم وصية، ولم ينقل لذلك نكير، ولو كانت واجبة لما أخلوا بذلك (2).
ثالثًا: الذين خالفوا الجمهور قالوا: تجب الوصية للأقربين الذين لا يرثون، وهم طائفة من التابعين كمسروق وطاووس وإياس وقتادة وابن جرير وهو قول داود الظاهري.
واحتجوا بالآية: قالوا: نسخت الوصية للوالدين والأقربين الوارثين، وبقيت في من لا يرث من الأقربين (3).
رابعًا: معنى وجوب الوصية أنه يجب على المرء أن يوصي فإذا مات ولم يفعل فهو آثم.
لكن هل معنى هذا الوجوب أنه يجب أن تخرج من ماله بعد وفاته إذا تركها؟
(1) هذا القدر من الحديث رواه أبو داود (3/ 113 / 2870)[كتاب الوصايا، باب ما جاء في الوصية للوارث،، والترمذي (4/ 376 / 2120) [كتاب الوصايا، باب ما جاء لا وصية لوارث]، والنسائي (6/ 247)[كتاب الوصايا، باب إبطال الوصية للوارث]، وابن ماجه (2/ 905 / 2713) [كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث، عن عدة من الصحابة منهم: أبو أمامة الباهلي وعمرو بن خارجة، وعبد الله بن عباس وأنس بن مالك، وصححه الألباني في إرواء الغليل (6/ 87 - 98/ 1655).
(2)
المغني (8/ 391).
(3)
المصدر السابق.
لم أعلم أحدًا من الفقهاء قال ذلك (1)، وليس هذا مدلول القول ولا لازمه، ومن ثَمَّ: فجعل إخراجها من ماله وإن لم يوص من لازم القول بأن مذهب طائفة من فقهاء التابعين بوجوبها إذا تركه: أمر فيه سوء فهم على أحسن الأحوال، وإلا فهو تدليس قبيح.
خامسًا: لم يقل أحد من أهل العلم قط إن ولي الأمر إذا أمر بمباح لأجل المصلحة العامة فإن أمره ينشئ حكمًا شرعيًّا، فإن العجب لا ينقضي من قائل هذا القول، وإنما قال أهل العلم: أنه يجوز لولي الأمر أن يقيد المباح أو يأمر به على ما يراه من المصلحة العامة، وباب ذلك هو المصلحة المرسلة، فتقييد المباح أو الأمر به له شروط عند القائلين بجواز ذلك، وهي الشروط التي ذكرناها لاعتبار المصالح المرسلة، مع التنبه إلى أن أكثر أهل العلم على المنع من ذلك، وقد سبق بيان ذلك بالتفصيل.
أما أن يكون ذلك مؤديًا إلى إنشاء حكم شرعي فحاشا لله أن يقوله أحد يدرك معنى ما يقول، فإن منشئ الأحكام الشرعية هو الله وحده، بلغناها على لسان رسله لم يخالف في ذلك أحد من العلماء قاطبة.
إذن فليس لهذا القانون أي سند شرعي أو شبهة استناد، فأي مذهب
(1) أقصى ما وجدته مما يشبه ذلك هو ما ذكره ابن القيم من أنه على القول بوجوب الوصية للأقربين: لو أوصى للأجانب دونهم فهل لهم أن يبطلوا وصية الأجانب ويختصوا هم بالوصية كما أن للورثة أن يبطلوا وصية الوارث أم يبطلوا ما زاد على ثلث الثلث ويختصوا هم بثلثيه [جامع الفقه (5/ 8)] ولا يخفى أن هذا الكلام فيما إذا أوصى، وما نحن فيه فيما إذا لم يوصِ.
فقهي أجاز أن يؤخذ من مال الرجل إذا مات بمقدار الثلث فيوزع على غير الوارثين ممن لم يذكرهم الرجل ولم يوص إليهم: بغير رضا ورثته؟
سادسًا: حاصل ما ذكروه في سبب هذا القانون أنه يراعي مصلحة المسلمين، ومع التسليم بذلك فإن هذه الصلحة ليست مما جدَّ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بل كانت موجودة قبل عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فضلًا عن عهده صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، وقد أجمع الفقهاء على أن هؤلاء الأولاد محجوبون بأعمامهم من الورثة (1)، فالتكييف الأصولي إذن أن تلك المصلحة: مصلحة مهدرة لكونها كانت قائمة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لم يعتبرها النبي صلى الله عليه وسلم، مع ما فيها من مخالفة الإجماع، وقد سبق في مبحث الدلالة أن المصالح التي كانت قائمة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعتبرها فإنه لا يجوز اعتبارها سواء أكان ذلك في العبادات أم المعاملات.
وعلى فرض أنها مما جدَّ فإن لتحقيق تلك المصلحة طريقًا لا يتعدى على ما حرمه الشرع، وهو ما ذكره أهل العلم قديمًا، بل وانعقد الإجماع عليه من أنه يستحب للرجل أن يوصي لأقاربه غير الوارثين إذا كانوا فقراء، وثمة طريق آخر وهو ما ذكره العلماء من جواز أن يأخذ غير الوارث إذا كان بإذن الورثة ورضاهم (2).
(1) المغني (9/ 22 - 23).
(2)
المبسوط (27/ 179)، تهذيب المدونة (4/ 273).
وثمة طريق ثالث: وهو أن يوقف ذلك على إذن الورثة إذ لو أن الورثة أجازوا مثل هذا التصرف ورضوا به فلا مانع شرعي من قبول ذلك وكونه جائزًا، ولا يضير القانون أن يوقف ذلك على إذن الورثة، وذلك لأن الوارث إن أخرجه عن رضا وطيب نفس، كان ذلك جائزًا، بل هو مأجور عليه إن قصد به صلة رحمه، أو إعانة أقربائه أو غير ذلك مما هو معتبر شرعًا.
وبناء على ما سبق فإن الإلزام بالوصية الواجبة غير جائز شرعًا، ولم يقل به أحد من الفقهاء، بل هو خلاف الإجماع، ولا يستند إلى تأصيل أصولي صحيح، فلا يجوز العمل بها إلا بموافقة جميع الوارثين من غير إكراه ولا شبهته، واعتبار القانون لها وعمله بها لا يخرجها عن كونها محرمة.