الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ج - ترك العمل بما يعلم لأجل ما سبق من التشريع:
فقد ورد من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن عويمرًا أتى عاصم بن عدي رضي الله عنه وكان سيد بني عَجلان فقال: كيف تقولون في رجل وجد مع امرأته رجلًا، أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟ سل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأتى عاصم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل، فسأله عويمر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره المسائل وعابها، قال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فجاء عويمر فقال: يا رسول الله، رجل وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قد أنزل الله القرآن فيك وفي صاحبتك"، فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملاعنة بما سمى الله في كتابه، فلاعنها ثم قال: يا رسول الله، إن حبستها فقد ظلمتها فطلقها، فكانت سنة لمن كان بعدهما في المتلاعنين، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"انظروا فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين خَدَلج الساقين فلا أحسب عويمرًا إلا قد صدق عليها، وإن جاءت به أُحَيمِر كأنه وَحَرَة فلا أحسب عويمرًا إلا قد كذب عليها"، فجاءت به على النعت الذي نعت به رسول الله صلى الله عليه وسلم من تصديق عويمر فكان بعد ينسب إلى أمه (1).
(1) رواه البخاري (8/ 303 / 4745) كتاب التفسير، باب (والذين يرمون أزواجهم، ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم، فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، قوله: أسحم شديد السواد (مقدمة فتح الباري، ص 137)، وأدعج أي: شديد سواد العين =
وقد ورد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت راجمًا أحدًا بغير بيِّنة لرجمت فلانة، فقد ظهر منها الريبة في منطقها وهيئتها ومن يدخل عليها"(1).
ففي هذا الحديث النبي صلى الله عليه وسلم أخبر خبرًا صادقًا - ولا شك - من تصديق عويمر أو تكذيبه فجاء النعت على تصديق عويمر، ومع ذلك لم يرجمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترك العمل بما يعلم لأجل أن الشرع لم يبح له أن يعمل بعلمه في ذلك، بل سماه بغير بيِّنة، وفي هذا دليل على أن القاضي لا يجوز له إقامة الحدود بناء على علمه، الذي هو أوثق عنده من البينات والشهود، بل كان بلا بيِّنة.
ولذا "فلا خلاف بين فقهاء المذاهب في أن القاضي لا يجوز له القضاء بعلمه في الحدود الخالصة لله تعالى كالزنى وشرب الخمر؛ لأن الحدود يحتاط في درئها، وليس من الاحتياط الاكتفاء بعلم القاضي، ولأن الحدود لا تثبت
= (مقدمة فتح الباري، ص 122)، وخدلج أي: ممتلئ الساقين (مقدمة فتح الباري، ص 116)، وأحيمر بالتصغير: قال ثعلب: المراد بالأحمر الأبيض لأن الحمرة إنما تبدو في البياض، وقوله: وحرة: بفتح الواو والراء: دويبة تترامى على اللحم والطعام فتفسده وهي من نوع الوزغ [فتح الباري (9/ 363)].
(1)
رواه ابن ماجه (2/ 855 / 2559) كتاب الحدود، باب من أظهر الفاحشة، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بهذا اللفظ، ورواه البخاري (12/ 187 / 6855) كتاب الحدود، باب من أظهر الفاحشة واللطخ والتهمة بغير بينة، ومسلم (2/ 1134 / 1497) كتاب اللعان أن ابن عباس رضي الله عنهما ذكر المتلاعنين فقال عبد الله بن شداد: أهي التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت راجمًا امرأة من غير بينة"؟ قال: لا تلك امرأة أعلنت، وهذا لفظ البخاري.
إلا بالإقرار أو البينة المنطوق بها، وأنه وإن وجد في علم القاضي معنى البينة فقد فاتت صورتها وهو النطق، وفوات الصورة يورث الشبهة، والحدود تدرأ بالشبهات" (1).
والحديث دليل على عدم الجواز؛ إذ ترك النبي صلى الله عليه وسلم رجمها مع قيام ما يقتضي ذلك، وهو علمه بكونها زانية؛ لأجل مانع وهو عدم الجواز، واستفيد عدم الجواز من تسمية ذلك الفعل أنه بغير بيِّنة فأهدر بيِّنة علمه.
وأيضًا: ما ورد عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعناه يقول: "أعوذ بالله منك"، ثم قال:"ألعنك بلعنة الله ثلاثًا"، وبسط يده كأنه يتناول شيئًا فلما فرغ من الصلاة قلنا: يا رسول الله، قد سمعناك تقول في الصلاة شيئًا لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك، قال:"إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي فقلت: أعوذ بالله منك ثلاث مرات، ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة، فلم يستأخر ثلاث مرات، ثم أردت أخذه، والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقًا يلعب به ولدان أهل المدينة"(2).
وبمثل هذا وردت الرواية عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه (3).
(1) الموسوعة الفقهية (1/ 243).
(2)
رواه مسلم (1/ 385 / 542) كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة، والتعوذ منه، وجواز الحمل القليل في الصلاة.
(3)
رواه البخاري (3/ 104 / 1217) كتاب العمل في الصلاة، باب لا يرد السلام في الصلاة، ومسلم (1/ 383 / 540) كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في =