الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: تطبيقاق ترك الاستفصال
المطلب الأول: صدقة المرأة دون توقف على إذن زوجها:
ورد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: شهدت الفطر مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم يصلونها قبل الخطبة ثم يخطب بعد، خرج النبي صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إليه حين يُجلسُ بيده ثم أقبل يشقهم حتى جاء النساءَ، معه بلال رضي الله عنه فقال:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} [الممتحنة: 12] الآية، ثم قال حين فرغ منها:"آنتن على ذلك؟ "، قالت امرأة واحدة منهن - لم يجبه غيرها -: نعم، قال:"فتصدقن"، فبسط بلال ثوبه ثم قال:"هلم لَكُنَّ فداءٌ أبي وأمي، فيلقين الفَتخ والخواتيم في ثوب بلال"(1).
قال ابن حجر: "واستدل به على جواز صدقة المرأة من مالها من غير توقف على إذن زوجها أو على مقدار معين من مالها كالثلث خلافًا لبعض المالكية، ووجه الدلالة من القصة: ترك الاستفصال عن ذلك كله، قال القرطبي: ولا يقال في هذا إن أزواجهن كانوا حضورًا؛ لأن ذلك لم ينقل، ولو نقل فليس فيه تسليم أزواجهن لهن"(2).
(1) رواه البخاري (2/ 541 / 979) كتاب العيدين، باب موعظة الإمام النساء يوم العيد، والفتخ: الخواتيم العظام كانت في الجاهلية.
(2)
فتح الباري (2/ 543).
في رواية: ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن فقال: "تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم"، فقامت امرأة من سبطة النساء سعفاء الخدين فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: "لأنكن تكثرن الشكاة وتكفرن العشير"، قال: فجعل يتصدقن من حليهن يلقين في ثوب بلال من أقرطتهن وخواتيمهن (1).
قال النووي: "وفيه جواز صدقة المرأة من مالها بغير إذن زوجها ولا يتوقف ذلك على ثلث مالها، هذا مذهبنا ومذهب الجمهور. . . ودليلنا من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسألهن استأذن أزواجهن في ذلك أم لا؟ وهل هو خارج من الثلث أم لا؟ ولو اختلف الحكم بذلك لسأل"(2).
وهذه المسألة للفقهاء فيها ثلاثة أقوال:
القول الأول: لها التصرف في مالها كله بالتبرع.
وهو قول أبي حنيفة والشافعي وابن المنذر ورواية عن أحمد (3).
واستدلوا على ذلك بما يلي:
1 -
قول الله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]، وهو ظاهر في فك الحَجر عنهم وإطلاقهم في التصرف، وهذا يشمل الذكور والإناث، وأن من وجب دفع ماله إليه لرشده جاز له التصرف فيه من غير إذن.
(1) رواه مسلم (2/ 603 - 604/ 885) كتاب صلاة العيدين.
(2)
شرح صحيح مسلم للنووي (6/ 413).
(3)
المغني (6/ 602)، المجموع (13/ 34)، نيل الأوطار (4/ 38)، الموسوعة الفقهية (17/ 98).
2 -
قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن" وأنهن تصدقن فقبل صدقتهن ولم يسأل ولم يستفصل (1).
3 -
حديث زينب امرأة عبد الله رضي الله عنهما قالت: كنت في المسجد فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "تصدقن ولو من حليكن" - وكانت زينب رضي الله عنها تنفق على عبد الله رضي الله عنه وأيتام في حجرها - فقلت لعبد الله: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيجزي عني أن أنفق عليك وعلى أيتام في حجري من الصدقة؟ فقال: سلي أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوجدتُ امرأة من الأنصار على الباب حاجتها مثل حاجتي، فمر علينا بلال رضي الله عنه فقلنا: سل النبي صلى الله عليه وسلم أيجزي عني أن أنفق على زوجي وأيتام لي في حجري، وقلنا لا تخبر بنا، فدخل فسأله فقال:"من هما؟ " قال: زينب، قال:"أي الزيانب؟ " قال امرأة عبد الله، قال:"نعم لها أجران، أجر القرابة وأجر الصدقة"(2).
ووجه الدلالة فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر لهن شرط إذن الزوج.
القول الثاني: لا يجوز لها أن تتصدق بأكثر من الثلث.
وهو قول طاووس ومالك ورواية عن أحمد (3).
(1) المغني (6/ 603).
(2)
رواه البخاري (3/ 384 - 385/ 1466) كتاب الزكاة، باب الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر، ومسلم (2/ 694 - 695/ 1000) كتاب الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد.
(3)
المغنى (6/ 602)، المجموع (13/ 34)، نيل الأوطار (4/ 38)، الموسوعة الفقهية (17/ 98).
واستدلوا على ذلك بما يلي:
1 -
ما ورد أن خيرة امرأة كعب بن مالك رضي الله عنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلي لها، فقالت: إني تصدقت بهذا، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يجوز للمرأة في مالها أمر إلا بإذن زوجها، فهل استأذنت كعبًا؟ "، قالت: نعم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كعب بن مالك زوجها، فقال:"هل أذنت لخيرة أن تتصدق بحليها؟ "، فقال: نعم، فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منها (1).
2 -
حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة خطيبًا، قال في خطبته:"لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها"(2).
3 -
أن حق الزوج متعلق بمالها، والدليل على ذلك ما ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك"(3).
وأجيب:
1 -
ضعف حديث زوجة كعب بن مالك رضي الله عنه، فقد قال الطحاوى:
(1) رواه ابن ماجه (2/ 798 / 2389) كتاب الهبات، باب عطية المرأة بغير إذن زوجها، وضعفه الألباني في السلسلة الصحيحة (2/ 473) تحت حديث رقم (825).
(2)
رواه النسائي (6/ 278) كتاب العُمرى، باب عطية المرأة بغير إذن زوجها، وأبو داود (3/ 292 - 291/ 3547) كتاب البيوع، باب في عطية المرأة بغير إذن زوجها، وحسنه الألباني في الصحيحة (2/ 472 / 825).
(3)
رواه البخاري (9/ 35 / 5090) كتاب النكاح، باب الأكفاء في الدين، ومسلم (2/ 1086 / 1466) كتاب الرضاع، باب استحباب نكاح ذات الدين.
حديث شاذ لا يثبت، وقال ابن عبد البر: إسناده ضعيف لا تقوم به حجة (1).
2 -
حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه محمول على أنه لا يجوز عطيتها من مال زوجها إلا بإذنه.
القول الثالث: لا يجوز لها التبرع بشيء من مالها لا أكثر من الثلث ولا أقل، وهو قول الليث (2).
ومأخذ هذا القول واضح وهو العمل بعموم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها" خصوصًا أنه كان في فتح مكة وأيضًا فإن المرأة قد تنفق من مالها على وجه يعود على الزوج بالضرر أو بالعار أو بالنقيصة فلذلك تمنع إلا بإذنه وهي لا تخسر شيئًا إذا استأذنت زوجها.
والذي يراه الباحث في ذلك: أن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عالم في عطية المرأة سواء كان من مالها أو من مال زوجها، فأما مال زوجها فلا إشكال في دخوله في الحديث، وتبقى الصورة محل النزاع فيما إذا كان من مالها لمعارضته بحديث:"يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن"، فمن خصص به عموم حديث عمرو بن العاص قال: يجوز للمرأة أن تتصدق دون إذن زوجها، ومن قال لا يخصص فمنع من تصدق المرأة بدون إذن زوجها، ومأخذ المنع من التخصيص أن حديث بلال ليس صريحًا في الدلالة، بل هو استدلال بفعل صحابي لم يعلم وجهه، فلعل النساء اللاتي تصدقن كن
(1) السلسة الصحيحة (2/ 473).
(2)
ذكره الشوكانى في نيل الأوطار (4/ 38).