الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالترك الذي لا يحصل سببه في حق الأمة يشمل: ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم لكونه من خصائصه، وما تركه النبي صلى الله عليه وسلم خشية أن يفرض العمل، وما تركه النبي صلى الله عليه وسلم لبيان التشريع، وما تركه النبي صلى الله عليه وسلم لمراجعة الصحابة له، وما تركه النبي صلى الله عليه وسلم لمجرد الطبع.
أما الترك الذي يحصل سببه في حق أمته صلى الله عليه وسلم فيشمل الترك للإنكار، وترك المستحب لبيان الجواز، وترك الواجب دفعًا للمفسدة، والترك بسبب النسيان أو المرض.
النوع الأول: الترك الذي لا يوجد سببه في حق الأمة:
أما النوع الأول فلا يمكن حصول التأسي فيه؛ لأن الموافقة في صورة الفعل تقتضي أن يكون الترك لنفس السبب الذي اقتضى الترك في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا زال هذا السبب في حق الأمة فلا سبيل إذن إلى حصول التأسي فيه.
وهذا الترك الذي زال سببه إما أن يكون من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، أو ليس من خصائصه لكن يمتنع تحقق السبب بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
*
الترك الذي اختص به النبي صلى الله عليه وسلم
-:
فأما الترك الذي هو من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم فلا سبيل إلى حصول التأسي فيه بوجه من الوجوه، إذ إن الخصوصية تنفي التأسي، والعكس بالعكس، فهما لا يتواردان على محل واحد.
والقول بأن الترك الذي هو من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم لا يحصل فيه تأسٍّ
هو قياس قول الأصوليين في الأفعال النبوية من أن خصائصه صلى الله عليه وسلم لا يشرع فيها متابعة.
وعدم جواز متابعة النبي صلى الله عليه وسلم فيما اختص به: هو قول جمهور الأصوليين، بل ونقل بعضهم أنه إجماع كالآمدي وغيره (1).
وقد نقل قول بالتوقف في حكم المتابعة في ذلك عن إمام الحرمين (2)، والتعليل الذي علل به القول بالتوقف قاضٍ بموافقة مذهب الجمهور من عدم مشروعية ذلك، فقد قال:"ليس عندنا نقل لفظي أو معنوي في أن الصحابة كانوا يقتدون به صلى الله عليه وسلم في هذا النوع، ولم يتحقق عندنا ما يقتضي ذلك، فهذا محل التوقف"، وقد نقله عنه الشوكاني (3).
أما أبو شامة في كتابه (المحقق من علم الأصول) فقد ذكر أن الأفعال النبوية يشرع فيها التأسي فيما هو واجب في حق النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون حكمه على سبيل الاستحباب، ولا يشرع فيما هو مباح في حقه صلى الله عليه وسلم (4).
وهذا الذي ذهب إليه أبو شامة لا إشكال فيه على ما ذهب إليه من معنى التأسي، وإنما يصح وقوع هذا الإشكال على التأسي بالمعنى الآخر، وهذا ما دعا الشوكاني إلى رد ما ذهب إليه أبو شامة، وذهب إلى أن ما صرح
(1) الإحكام في أصول الأحكام (1/ 232).
(2)
البرهان (1/ 495 / 403).
(3)
إرشاد الفحول (1/ 199).
(4)
المحقق من علم الأصول (ص 74).
فيه بكونه من خصائصه صلى الله عليه وسلم لا سبيل إلى الاقتداء به فيه، إلا بدليل مثبت في حقنا.
وتوجيه ما ذكره أبو شامة هو أن يقال: إن ما اختص به النبي صلى الله عليه وسلم قد لا يكون في صورة الفعل، بل في حكمه، فإذا كانت الخصوصية في الحكم؛ فإن صورة الفعل قد تكون مشروعة في حق الأمة، ولكن لا من حيث كونه خاصًا به، بل لدليل منفصل عن محل الخصوصية، فالفعل ما زال خاصًا بالنبي صلى الله عليه وسلم من هذا الوجه، وإن توافقت صورة الفعلين.
فتقرير ما سبق هو: أن الفعل له جهتان قد تكون الخصوصية من أحدهما أو كليهما، فحيث ثبتت الخصوصية انتفت المتابعة، فما كانت خصوصيته من جهة واحدة، ولا تكون إلا الحكم، كان جائزًا أن توافق الأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة الفعل، لكن ليس حكمه في حقه هو حكمه في حقها؛ إذ إن الحكم هو محل الخصوصية، أما ما كانت الخصوصية فيه من الجهتين معًا، فلا سبيل لموافقة الأمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولو في مجرد الصورة فقط.
ومثال ذلك في الأفعال النبوية التي اختص النبي صلى الله عليه وسلم فيها بحكم فقط: وجوب قيام الليل في حق النبي صلى الله عليه وسلم دون الأمة، فإن قيام الليل مستحب لآحاد هذه الأمة، وهو في حق النبي صلى الله عليه وسلم واجب، فجهة الخصوصية هي الحكم فقط، دون صورة الفعل.
أما مثال الأفعال النبوية التي اختص النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالحكم والصورة معًا، فكجواز زيادته صلى الله عليه وسلم على أربعة نسوة في النكاح، فإن صورة الفعل لا تحصل
لآحاد الأمة بلا خلاف؛ وذلك لأن الخصوصية في صورة الفعل وحكمه.
وهذا تأصيل صحيح إذا قلنا بأن التأسي لا يشترط فيه الموافقة في الحكم، وهو ما يقول به أبو شامة والجصاص (1) والسرخسي (2)، ولا يرد عليه ما ينقضه على هذا المعنى، وهو غير صحيح على القول باشتراط الموافقة في الحكم، وهو ما يقول به الرازي (3) والآمدي (4) وتبعهم في ذلك الشوكاني (5)،، إذ يوردون عليه: أن الأمة وإن وافقت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة الفعل فليس ذلك كاف لإطلاق التأسي على تلك الصورة.
وهذا اعتراض صحيح على المعنى الأول، لكن لا يلزم منه أن ذلك التفصيل غير صحيح.
فقياس هذا في التروك أن يقال:
ما اختص النبي صلى الله عليه وسلم بتركه إما أن تكون الخصوصية في صورة الترك وحكمه أو صورته فقط.
فأما الخصوصية في صورة الترك وحكمه: فلا سبيل إلى حصول الموافقة فيها بين النبي صلى الله عليه وسلم وأمته، لما ذُكر سابقًا، ولم أعثر له على مثال.
(1) الفصول في الأصول (3/ 225).
(2)
أصول السرخسي (2/ 88).
(3)
المحصول (3/ 247).
(4)
الإحكام في أصول الأحكام (1/ 231).
(5)
إرشاد الفحول (1/ 198).
وأما الخصوصية في حكم الترك دون صورته: فمثاله وجوب الترفع عن قبول صدقات الناس، فإن هذا الترك مندوب إليه في الجملة في حق آحاد هذه الأمة، واختص النبي صلى الله عليه وسلم بوجوب ذلك عليه (1).
وعليه فإن قياس قول الأصوليين فيما أختص به النبي صلى الله عليه وسلم في التروك أنه لا يدخله تأسٍّ.
ومما يدخل تحت ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم تركًا خاصًا به: الترك الذي لمجرد الطبع، فإن الأصل في الترك أنه يقتضي حكمًا في حقنا، إلا إذا بين النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك، وهذا متحقق في الترك لمجرد الطبع، فلا يحمل ترك على أنه لمجرد الطبع إلا بنص صريح، أو إجماع، وقد دل حديث الضب على أن الترك الذي هذا شأنه ليس فيه تأسٍّ، ولا تشرع فيه متابعة.
وقد ذكر الأصوليون أن الفعل لمجرد الطبع ليس فيه متابعة (2)، فقياس
(1) اتفق أهل العلم على حرمة صدقة الفريضة على النبي صلى الله عليه وسلم لمنصبه الشريف واختلفوا في صدقة التطوع والراجح هو تحريم الكل وهو قول المالكية والأظهر عند الشافعية والصحيح عند الحنابلة، ودليله ما رواه البخاري (5/ 240 / 2576)، ومسلم (2/ 756، 1077) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي كان إذا أُتي بطعام سأل عنه: أهدية أم صدقة؟ فإن قيل: صدقة، قال لأصحابه:"كلوا" ولم يأكل، وإن قيل: هدية، ضرب بيده فأكل معهم.
انظر المغني: (4/ 115)، سبل السلام (2/ 376) فتح الباري (5/ 415)، شرح النووي لصحيح مسلم (4/ 174)، التمهيد لابن عبد البر (11/ 185).
(2)
هذا هو المشهور في كتب الأصول، وقد ذكر الزركشي في البحر المحيط (4/ 177) أن المشهور في كتب الأصول أن هذا النوع يدل على الإباحة، وقد صرح أبو شامة بنسبة عدم المتابعة فى هذا النوع إلى الأصوليين ثم قال إنه لا يظن أن مثل ذلك مجمع عليه ثم حكى عن =