الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النبي صلى الله عليه وسلم حيث علمناه، وحيث لم نعلم فالأصل أن الفعل دال على الاستحباب إلى أن يدل الدليل على خلاف ذلك.
وبهذا تجتمع الأدلة ..
فما ذكره الأولون من أدلة على وجوب الاتباع نقول بها ولا نردها، ولا يلزمنا القول بالوقف بل ما ذكره الآخرون من امتناع الوقف في حكم الفعل وحمله على الندب لا غير نقول به ولا نرده، ولا يلزمنا حمل الاتباع على الاستحباب بذلك، ولعل هذا أوجه ما تحمل عليه الأدلة.
حكم الاتباع والتأسي في الترك:
بناء على ما سبق فإن الاتباع في الترك واجب، كوجوبه في الفعل، ومعنى الوجوب في حقنا:
أن يكون حكم المتروك في حقنا هو حكم المتروك في حق النبي صلى الله عليه وسلم، ما لم يقم دليل على خلاف ذلك.
وهذا يقتضي أن:
ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم لكونه حرامًا، فهو حرامٌ في حقنا.
وما تركه النبي صلى الله عليه وسلم لكونه مكروهًا، فهو مكروه في حقنا.
وما تركه النبي صلى الله عليه وسلم لسبب، تعلق الحكم في حقنا بذلك السبب، فإذا زال السبب عاد حكم المتروك إلى أصله.
وما تركه صلى الله عليه وسلم مما لم يقم في حقه مقتضٍ للفعل، كان حكم هذا المتروك في حقنا باقيًا على أصله. وما تركه النبي صلى الله عليه وسلم إعراضًا عنه، ولم نعلم حكمه في حقه.
فقياس القول على الأفعال في التروك أن يقال:
ما أعرض النبي صلى الله عليه وسلم عنه، ولا نعلم وجهه، لا يخلو من أن يكون على وجه القربة، أو لا يكون:
فإن كان على وجه القربة كان هذا الفعل مكروهًا، لأن الكراهة تقابل الاستحباب، وما تركه ليس على وجه القربة فهو مباح في حقنا.
ولكن القول بذلك لا يستقيم؛ وذلك لأن الأصل المتوقف عليه قبل الفعل بخلاف الأصل المتوقف عليه قبل الترك.
وبيان ذلك:
أن الفعل الذي يفعل على سبيل القربة إنما يطلب له الدليل على جواز فعله، فحيث لم يكن دليل فالجواز ممتنع، فالأصل أن هذا الفعل ممنوع منه، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم له ناقل عن الأصل، أما في الترك: فإن ترك النبي صلى الله عليه وسلم له غير ناقل عن الأصل بل مقوٍّ له ومعضد له، فكيف يحمل تركه صلى الله عليه وسلم على الكراهة، والمتروك ممنوع منه قبل نقل إعراض النبي صلى الله عليه وسلم عنه؟
لذا فقياس القول في الأفعال هنا أن يقال:
ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم كان فعله لا يقع إلا قربة: فالترك دليل على التحريم، وإذا كان غير قربة فأقل الأحوال حمله على الكراهة.
ولو قال قائل بحمله على التحريم لم يُبعِد، بل كان لقوله حظ من النظر، فإن أقل أحوال المتابعة في الترك تنخرم بمجرد الفعل، بخلاف الفعل، وهذا قاضٍ بحمل الإعراض على الوجوب دون الاستحباب.
ولا يستقيم القول بأن أكل خالد بن الوليد رضي الله عنه من الضب كان حرامًا لولا بيان النبي صلى الله عليه وسلم بقوله للحكم إلا بذلك، وهو ما ذهب إليه الشيخ علي محفوظ في كتابه الإبداع (1).
وما يظهر لي في هذه المسألة أن النبي صلى الله عليه وسلم لو فعل لما كان واجبًا، بل كان مستحبًّا، فكذلك لو ترك لا يكون حرامًا، بل مكروهًا، وهذا مورده فيما لا يقصد به التقرب، أما ما قصد به التقرب فلا يحمل إلّا على الحرمة لما سبق من أن ذلك هو الأصل واعتضد بترك النبي صلى الله عليه وسلم، فالدلالة على التحريم ليست لذات الترك، وإنما لأمر اقترن به خارج عنه، ولكنه لازم له.
* * *
(1) الإبداع في مضار الابتداع (ص 43) لعلي محفوظ، دار الاعتصام، الطبعة الخامسة.