الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
حاولت مصاحبة الإمام الأكبر في رحلته المباركة، التي أنجز فيها للفقهاء، والمفكرين، وللناس عامة عملاً جليلاً، كان يتطلع إلى القيام به من بداية حياته العلمية. فحظيت من ذلك - بحمد الله - بعلم نافع، وتوجيه دقيق، وتنبيه رائع، حين أتيت على الكتاب كله، نظراً وتدبّراً وتحقيقاً.
فقد كان حريصاً طوال حياته على تدوين ملاحظاته في مقاصد الشريعة الإسلامية، وعلى الجمع المُتْقَن بين ذلك وبين علمي الفروع وأصول الفقه. وبلغ من ذلك أغلى الأماني لديه حين أتمَّ الله عليه هذه النعمة، فحمد ربه على ما أعطى، وشكر له ما هيأه به للاضطلاع بهذا المهم الذي تناساه فحول العلماء، وغفلوا عنه نحو ثمانية قرون. فلا يكادون يذكرونه، ولا يذكرون منه تفصيل نظرياته وقواعده وما اشتمل عليه من حِكم ومنافع، ولا ما يتحقق به للدارس، بعد بذل الجهد، من التعرّف والاهتداء إلى طريق تعيين المقاصد الشرعية، وما يضمّ إليها من أحكام الاستنباط. فيكون ذلك معواناً على البصر بآيات الله الحكيمة والحكمية، وأحاديثِ رسوله البيانية والتشريعية. وبهذا يسهل على العالِم والمجتهد التوصّل بفضل الله إلى بيان أحكامه في المستجدّات، وإلى سلوك أكمل طريق لضبط الأحكام الشرعية المناسبة، بالتزام الوحي
الإلهي مصدراً وحجة، وتحقيقِ ما يجلبه للمكلفين من مصالح، ويدرؤه عنهم من مفاسد، يشعرون معه بأن الشريعة عدلٌ كلُّها، وأنها القادرة بسماحتها ومرونتها على الجمع بين خيري الدنيا والآخرة لكل عبد منيب.
وليس بدعاً من الأمر أن نجد الإمام الأكبر ينصرف في التوّ إلى معالجة قضية علمية لها ارتباط كبير بمناهج الدرس والمناظرة بين العلماء وفقهاء الملة. فيردّ على تلك الظاهرة الغالبة التي تَسِمُ علماءَ الدين بالخلاف والجدل، وبالنزاع في ما ليس له كبير أثر في التوصل إلى صميم العلم وعين الحقيقة، ويقرع المتخالفين منهم على عنادهم وإصرارهم على وجهات أنظارهم، "إذ كانوا لا ينتهون في حجاجهم إلى أدلة ضرورية أو قريبة منها، يذعن إليها المُكابر، ويهتدي بها المشبّه عليه. وينقطع بين الجميع الحجاج، ويرتفع عن أهل الجدل ما هم فيه من لجاج"(1).
وقد كانوا يتصوّرون أن المخلَص لهم من ذلك هو علم أصول الفقه. وأنَّى له ذلك. وليس في علم أصول الفقه غُنْيةٌ لمتطلّب هذا الغرض؛ بل هو على العكس لم يكن منتهًى ينتهِي إلى حُكمه المختلفون في الفقه (2). وقد عسُر بل تعذَّر الرجوع بهم إلى وحدة الرأي أو ما يقرب منها. وسيأتي - بإذن الله - حلَّ هذا المشكل بتدبّره وتفصيل القول فيه على نحو ما سار عليه شيخنا في طريقته التي اختارها لذلك إصلاحاً لعلم أصول الفقه، ودعوةً إلى دراسة المقاصد الشرعية دراسة مستوفاة، تجمع بين قطعية الأدلة والاعتداد بالمصالح. وهذا البحث الذي وضعناه تعريفاً بكتاب مقاصد الشريعة الإسلامية، الذي أتممنا - بفضل الله - تحقيقه، وحاولنا مسايرة ما عَنَّ للمؤلف طرحه من موضوعات فيه، أو كشَف عنه من حقائق، أو جمَعه من القواعد والمقاصد.
(1) المقاصد: 6.
(2)
المقاصد: 6 - 8.
وقد وقفنا قليلاً عند ما أورده من ألفاظ لها دلالاتها، اختلطت في أذهان الناس عند استعمالها. فكان من الخير تفصيل القول فيها، وبيان حقيقة الخلاف والاختلاف والمخالفة، مع الإشارة إلى تفاوتها في الدلالة على نحو ما شهد به القرآن في كثير من آياته، وفسّرها به العلماء واللغويون. ويقتضي الأمر أحياناً إلحاق كلمات أخرى قرآنية بما أوردناه هي الأشباه والجدل والمجادلة، لكونها تحمل الدارس على تحديد معانيها، فراراً من اللبس الذي يعرض بسببها، ودفعاً للإشكال الذي قد يحصل منها. فإذا استوى الأمر وتبيّنت المصطلحات في جميع مسارات القول حسبما ألمعنا إليه، انتقلنا بدون شكٍّ إلى تمييز موضوعات الكتاب من علوم الفقه وأصوله ومقاصد الشريعة متّبعين نفس المنهج الذي سلكه الإمام الأكبر. وإنما قَصَدنا إلى ذلك لكون تلك العلوم قد تبدو لنا أحياناً متقاربة، وأخرى متباعدة، لاشتراكها في الغرض العام الذي هو الشريعة، وتفاوتها فيما انتصبت لإقامته من غايات. وهي خصائص تلك العلوم الثلاثة المتمايزة فيما بينها.
فإذا قضينا هذا الوطر، بحثنا موضوعين لهما أهميتهما الكبرى في مجالات التشريع واستنباط الأحكام؛ أولهما: قطعية أدلة علم أصول الفقه، وثانيهما: التعليل الذي هو طريق الاجتهاد والقياس، وسبيل حمل النظير على نظيره في الحكم عند الاتفاق في العلَّة أو الوصف المناسب أو المصلحة.
ويتبع النظر في ذلك التفريقُ بين المعلّل والتعبّدي من الأحكام. وهو ما أخذ به العلماء على اختلاف بين مذاهبهم واتجاهاتهم كأهل السُّنة، والأشاعرة، والمعتزلة، والظاهرية. وقد يكون الخلاف أو التعارض فيما انتهوا إليه عند إرادة استنباط الأحكام وبيان مقاصدها
عند البعض، وتوقّفِ الآخرين من المتكلمين تحيُّزاً وعِناداً منهم، مثل قولهم بمراعاة الأصلح في أفعال الله، وبالحُسن والقبح العقليين. أو لاكتفاء الظاهرية والنظّام بما تفيده النصوص، وتدلُّ عليه، مع رفض التعليل والقياس رفضاً مطلقاً.
ولعله من الخير أن نكتفي بهذه الإشارة إلى أهمّ موضوعات الباب الأول من هذه الرسالة. والكلام على سائرها يطول.
وقد فرضنا أن تكون دراساتنا التي هي بمحلِّ المقدمة للمقاصد منقسمة إلى أبواب، وكل باب منها إلى فصول، منهين عملنا هذا بإيراد قائمة من القواعد والمقاصد التي استخرجناها من تأليف إمامنا مقاصد الشريعة الإسلامية، وذكرنا من ذلك ما نيطت به أحكام الشريعة، أو ضبطت له فروعاً ضَبطاً يدرجها في الإطار العام الذي يجعلها محكومة بأدلته، منبنية عليها، مستنبطة منها ومحققة لمقاصد التشريع الإسلامي بها.
ونظرة واحدة بعد ذلك في فهرست هذا الجزء: بين علمي أصول الفقه ومقاصد الشريعة، تشير إلى أهم القضايا التي بحثناها به، وأدق المسائل التي أدرجناها فيه، طلباً للإضاءة والتنوير في هذا العلم الذي نرجو أن نكون ببحثه وذكر تطوّراته، وبمسايرة ما صحّ عند العلماء الراسخين من القدامى والمحدثين إثباته، قد وصلنا إلى القيام بعمل نافع ندرك به ما تطلّعنا إليه عند إعداده، من الاستفادة والإفادة في خدمة علوم الشريعة الإسلامية فقهها وأصولها ومقاصدها.
وعلى الله التكلان، ومنه نستمدّ العون، وهو ولي التوفيق، ومن وراء القصد. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.