الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاضي صاحب حديث لا فقه معه، ولا صاحب فقه لا حديث معه، مؤذناً بالحاجة الأكيدة إلى جمع كل هذه المعارف والفنون: الفقه وأدلته، والأحكام ومراتبها جمعاً يثبت لديه ما ينشأ له بذلك من ملكة يتفوق بها على غيره من الفقهاء. ويقابل ما ذكرناه من آراء في اشتراط العلم للقاضي، تصحيحاً لولايته، وتمكيناً له من الوفاء بواجبه عند فصل النزاعات قولُ قاضي مصر نفيس الدين بن شكر: إنه يجوز تولية المتأهّل لمعرفة استخراج المسائل من مواضعها. حكى ذلك ابن راشد القفصي عنه في كتابه الفائق، مؤيداً هذا بقوله: لا يلزم المجتهد أن يكون حافظاً لآيات الأحكام.
وهاتان في واقع الأمر قضيتان:
قضية حفظ المجتهد لآيات الأحكام. قال الشيخ رحمه الله مثنيّاً على كلام صاحب الفائق: وكلام ابن راشد هو الصواب، لأن المجتهد غير مطلوب بفصل القضاء بين الناس. فإذا ولي المجتهد القضاء كان الشرط فيه أضيق من شروط مطلقِ مجتهد.
وفي قضية تولية المتأهّل لمعرفة استخراج المسائل من مواقعها للقضاء، لم يُسَلِّم ابن راشد بمقالة ابن شكر القاضي تسليماً مطلقاً بل رفض موافقته على ذلك بقوله: وفي هذا من التضييق على الخصوم، لأنه يطيل عليهم فصل نوازلهم حتى يفهمها. وفيه وسيلة إلى تولية الجهال. اهـ (1).
عزل القاضي:
العزل التنحية، أو إنهاء الولاية. ومحلهما أن تكون الولاية في
(1) المقاصد: 524، 525.
مظنّة المصلحة. ولا يكون العزل إلا لمظنّة المفسدة. فجميع تصرّفات الأمراء منوطة بالمصالح كما بَيَّنا (1). وإن حفظ حرمة المناصب الشرعية، وإعانة القائمين بها على المضي في سبيلهم، غيرَ وجِلين ولا مغضوضين لَمِن أكبر المصالح (2).
وورد في المقاصد عند الحديث عن إنهاء ولاية القضاة ما نصّه: تكلم العلماء في عزل القاضي، وتردّدت أنظارهم في ذلك، بناء على اعتباره وكيلاً عن الأمير من جهة، وعلى وجوب حرمة هذا المنصب في نظر الناس من جهة أخرى. وهي مسألة لها مزيد تعلّق بالسلامة من نفوذ غيره عليه، لأن العزل غضاضة عليه، وتوقّعه ينقص من صرامته إن لم يغلبه دينه (3).
وبعد التقديم لهذه الولاية وما يعتري المنتصب لها من أحكام، وما ينبغي أن يُرعى فيها من ذمام له وللقضاء، يَنقُل إلينا المؤلف جملة من الآراء المتقاربة حيناً، والمتباعدة أخرى. فيصوّر موقف بعض الأئمة ووجهات أنظارهم فيما صدروا عنه من أحكام. فمن ذلك ما ذكره عن المازري من قوله: إن عُلم عِلْمُ القاضي وعدالته ولم يقدح فيه قادح لم يعزل بالشكية، وسئل عن حاله بسببها سراً. وذكر بعد هذا -فيمَن لم تتحقق عدالته - أن أصبغ قال: يُعزل، وقال غيره: لا يُعزل. وتعرّض بعد ذلك لما جرى عليه السلف وما رواه من كلام ابن عرفة أحدِ المحققين من علماء المالكية، قال: إن في عزل القاضي توهيناً لحرمة منصبه، على أنه قد صار، فيما بعد عصر السلف، لصاحب الخطة حق في بقائها، نظراً لضعف آراء وعدالة
(1) انظر الفروق: 4/ 39.
(2)
المقاصد: 529.
(3)
المقاصد: 527.
الأمراء الذين يولون القضاة. ولم يكن هذا على إطلاقه، فقد عقّب عليه الخطّاب بقوله: ويجب تفقد الإمام له حال قضائه فيعزل مَن في بقائه مفسدة وجوباً وفوراً (1).
ولم يحفظ أن عمر عزل قاضياً أصلاً. وهذا خلاف ما أورده البيهقي في سننه (2) مع كونه عزل الأمراء بمجرد الشكيّة. عزل سعد بن أبي وقاص، وخالد بن الوليد، وشرحبيل. وأضاف إلى هذا: أنه لم يَثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزل قاضياً ولا أبا بكر عزل قاضياً أيضاً (3).
وفي ختام هذه الإفادات التي ظفرنا بها من المقاصد ختم الشيخ حديثه عن العزل ببيان اصطلاح بني حفص قائلاً: إنهم كانوا لا يبقون أحداً في حالة القضاء أكثر من ثلاث سنين (4). فرد هذا القول واعتبره خطأ في التصرّف (5).
والعزل ثلاثة أنواع:
الأول: أن يَعْزِل القاضي نفسه.
الثاني: أن يُعزَل بموت الإمام أو بِعزله عن الإمامة.
الثالث: أن يكون عزل القاضي من طرف الإمام.
أما عزل القاضي نفسه رغبة منه في ذلك، فإنه يكون بصريح
(1) مواهب الجليل: 6/ 113.
(2)
10: 108؛ كتاب آداب القاضي، عن ابن سيرين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لأنزعن فلاناً عن القضاء ولأستعملن على القضاء رجلاً إذا رآه الفاجر فرقه.
(3)
المقاصد: 527.
(4)
المراكشي: تاريخ الدولة الموحدية والحفصية: 44.
(5)
المقاصد: 528.
قوله، أو بعزله بالكتابة إلى الإمام. ووجه ذلك أن القاضي بمنزلة الوكيل وللوكيل عزل نفسه.
وذهبت الحنفية إلى أنه ينعزل بعد سماح الإمام له بذلك لا قبله (1).
وقالت المالكية: لا يتم عزله إلا بشرط عدم تعلّق حق لأحد في قضائه، حتى لا يؤدي عزلُه إلى حصول ضرر لمن التزم القضاء بينه وبين خصمه (2).
وأما عزل القاضي بموت الإمام، أو بعزله عن الإمامة فلا يصحّ، لأن الخلفاء ولَّوا حكاماً في زمانهم، فلم ينعزلوا بموتهم، ولأن في عزل القضاة بموت الإمام ضرراً على المسلمين. فإن البلاد تتعطل من الحكام، ولأن القاضي لم يتولَّ لمصلحة الإمام بل لعامة مصلحة المسلمين (3).
وأما عزل القاضي من قِبل الإمام فله حالتان:
إذا توافرت شروط القضاء فيه، وليس فيه ما يوجب عزله، فقيل: يملك الإمام عزله، وقيل: لا.
واختلف الفقهاء في هذا على ثلاثة آراء:
الأول: يملك الإمام عزله مطلقاً. فإذا عزله نفذ عزله. وهو رأي الحنفية وأحد رأيي الحنابلة. ودليلهم ما قدمنا الإشارة إليه من تصرّف الخلفاء الراشدين في ما هذا شأنه.
(1) الفتاوى الهندية: 2/ 328.
(2)
التبصرة: 1/ 62.
(3)
بدائع الصنائع: 7/ 16؛ الخرشي: 7/ 144؛ مغني المحتاج: 4/ 383؛ المغني: 7/ 103.
الثاني: يملك الإمام عزل القاضي لسبب من الأسباب التالية:
(1)
حصول خلل من القاضي ولو بغالب الظن. ومن ذلك كثرة الشكاوى منه.
(2)
ألا يحصل منه خلل، ولكن يوجد من هو أفضل منه لتلك الولاية. فيجوز العزل تحصيلاً لتلك المزية للمسلمين بتولية من هو أفضل منه.
(3)
ألا يحصل منه خلل، وليس هناك من هو أفضل منه، لكن في عزله مصلحة للمسلمين كتسكين فتنة.
وعزل الإمام القاضي دون حصول هذه الأسباب إثم. واختلفوا في تنفيذ عزله في تلك الحالة.
فإمام الحرمين يرى التنفيذ وهو الأهم. وعلّلوا هذا الحكم بمراعاة أمر الإمام، إلا أن لا يوجد من يخلف المعزول في القضاء بين الناس، فيتعين إبقاؤه وعدم عزله.
وقال آخرون بعدم النفاذ لعدم وجود الخلل أو المصلحة. وهذا رأي الشافعية. وبه قالت المالكية، لكنهم احترزوا فذهبوا إلى وجوب عزله إن تحققت المفسدة في بقائه، ويستحب إن خُشيت مفسدته (1).
الثالث: عدم جواز عزله مطلقاً. وهو الرأي الثاني للحنابلة. وقالوا: إن تولية القضاء أمر تعود مصلحته للمسلمين. فلم يملك الإمام عزله، كما لو عقد النكاح على موليته فإنه لم يكن له فسخه (2).
* * * * *
(1) الفتاوى الهندية: 3/ 307.
(2)
المغني: 9/ 103؛ المبدع: 10/ 16؛ الخرشي: 7/ 146.