المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الخطاب الشرعي أو النصوص التشريعية: - مقاصد الشريعة الإسلامية - جـ ٢

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌بَيْنَ عِلْمَيِّ أصُوْل الْفِقْهومَقَاصِد الشَّرِيْعَةِ الإسْلاميَّةِ

- ‌المقدمة

- ‌التمهيد لمقاصد الشريعة

- ‌الباب الأولقضايا ذات صلة بالفقه وبعلمي أصول الفقه ومقاصد الشريعة الإسلامية

- ‌الفصل الأول: بين الفقه وأصول الفقه ومقاصد الشريعة

- ‌ الفقه

- ‌علم أصول الفقه:

- ‌علم مقاصد الشريعة:

- ‌الفصل الثاني: قضايا أصولية وكلامية

- ‌قطعيّة أدلةِ علم أصول الفقه وظنّيّتها:

- ‌من أسباب ظنّية علم الأصول:

- ‌أ - الأحوال العارضة للنصوص:

- ‌اختلاف أنواع الدلالة:

- ‌أنواع المفاهيم:

- ‌تباين المحكم والمتشابه:

- ‌خبر الآحاد:

- ‌الإجماع وأنواعه:

- ‌ب -‌‌ التعليل، والعلة، والتعبّدي:

- ‌ التعليل

- ‌العلَّة:

- ‌شروط العلة:

- ‌التعليل عند المتكلمين:

- ‌رد الشيخ ابن عاشور على الأشاعرة:

- ‌الوجوب والغرض:

- ‌رد الجويني على الأشاعرة:

- ‌الأصوليون والتعليل:

- ‌العول:

- ‌أهميّة التعليل:

- ‌إصرار ابن حزم على رأيه واستدلاله على صحّة موقفه:

- ‌التعبّدي:

- ‌حكم القياس:

- ‌العمل بالقياس:

- ‌القياس بين المثبتين والنُّفاة:

- ‌مجالات الإثبات والإنكار للقياس:

- ‌القياس عند الظاهرية:

- ‌حجية القياس: أدلة المثبتين:

- ‌أدلة نفاة القياس:

- ‌الباب الثانيمع روّاد علم أصول الفقه وعلم مقاصد الشريعة

- ‌الفصل الأول: من طلائع الأصوليين وعلماء المقاصد

- ‌1 - الجويني: البرهان:

- ‌2 - الغزالي: شفاء الغليل، المنخول، المستصفى:

- ‌3 - العز بن عبد السلام: القواعد:

- ‌4 - القرافي: الفروق:

- ‌الفصل الثاني: موضوعات من علم المقاصد في كتب جماعة من الفقهاء

- ‌(1) المقاصد وكتاب الفروق للإمام القرافي:

- ‌الموضع الأول: انتصاب الشارع للتشريع:

- ‌الموضع الثاني: الحقوق وإسقاطها:

- ‌الموضع الثالث: نوط الأحكام الشرعية بمعانٍ وأوصاف لا بأسماء وأشكال:

- ‌الموضع الرابع: سدّ الذرائع:

- ‌الموضع الخامس: نفوذ الشريعة:

- ‌(2) المقاصد وكتاب نفائس الأصول:

- ‌(3) المقاصد وكتاب تنقيح الفصول:

- ‌الشاطبي وكتاب الموافقات:

- ‌ رأي ابن عاشور في عمل الشاطبي

- ‌تأييد ابن عاشور للشاطبي في بيان قصد الشارع من التكليف:

- ‌انصباب تكاليف الشريعة على العبادات والمعاملات والعادات:

- ‌مناقشة الشاطبي قوله بقطعيّة الأدلة:

- ‌تعريف الشيخ ابن عاشور بأنواع المصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا:

- ‌تقسيم التكاليف إلى عزائم ورخص:

- ‌التحيّل:

- ‌الفصل الثالث: المقاصد العامة والمصالح

- ‌الفطرة:

- ‌السماحة:

- ‌ المساواة

- ‌موانع المساواة:

- ‌الحرية:

- ‌تشوف الشارع للحرية:

- ‌تعريف المصلحة والمفسدة:

- ‌المصلحة والمفسدة محضتان خالصتان ومشوبتان مختلطتان:

- ‌الفصل الرابع: ضوابط المقاصد وأقسامها

- ‌القسم الأول من المقاصد:

- ‌المقاصد بين كلية وجزئية:

- ‌المقاصد بين قطعيّة وظنيّة:

- ‌المقاصد الأصلية والمقاصد التابعة:

- ‌المقاصد والوسائل:

- ‌الفصل الخامس: بحث المقاصد في أطراف الكتاب

- ‌الباب الثالثفي إثبات مقاصد التشريع الإسلامي وحاجة الفقهاء إلى معرفتها والوقوف عليها

- ‌توطئة

- ‌الفصل الأول: منهج السلف في طلب مقاصد الشرع من الأحكام

- ‌الفصل الثاني: الأنحاء الخمسة لتصرّفات الفقهاء في طلب المقاصد

- ‌الفصل الثالث: من طرق إثبات المقاصد الشرعية

- ‌الفصل الرابع: في القواعد الشرعية

- ‌الكليات:

- ‌الطريق الممهِّدة للتعرّف الدقيق على المقاصد وتعيينها:

- ‌القواعد والضوابط لمعرفة الأحكام وتعيين المقاصد:

- ‌الباب الرابعأمثلة للمقاصد مستخرجة من كتب المؤلف:

- ‌الفصل الأول: أمثلة للمقاصد الشرعية المستخرجة من التحرير والتنوير

- ‌المثال الأول: النبي الأمي صلى الله عليه وسلم

- ‌الْمَعْرُوفِ}

- ‌الطيبات:

- ‌الرحمة:

- ‌المثال الثاني: ضرب المرأة:

- ‌المثال الثالث: الطلاق ثلاثاً بلفظ واحد:

- ‌المثال الرابع: مثال من كتاب النظر الفسيح: حديث الوصيّة

- ‌المثال الخامس: مثال من كتاب كشف المُغطَّى: حديث بيع الخيار

- ‌الباب الخامسمنهجية الشيخ ابن عاشور في كتاب المقاصد

- ‌الفصل الأول: أسس النظر في المقاصد والأحكام

- ‌الإسلام حقائق لا أوهام:

- ‌من صفات الشريعة رفع خلط الاعتبارات بالأوهام:

- ‌الخطاب الشرعي أو النصوص التشريعية:

- ‌الفصل الثاني: منهج الشيخ ابن عاشور في تقريراته وفي تناوله لبعض متممات الخطاب

- ‌التفصيل والتقسيم:

- ‌الضوابط والشروط:

- ‌التقرير والتقعيد:

- ‌الأسباب:

- ‌إعمال النظر الشرعي طلباً لتحديد الأحكام:

- ‌الاستدلال:

- ‌المقام والسياق:

- ‌الاستقراء:

- ‌تنوُّع الأحكام بين التعبّدي والمُعلَّل:

- ‌تعقيبات الإمام ابن عاشور ومناقشاته:

- ‌الفصل الثالث: مع فقهاء الشريعة الإسلامية

- ‌1 - التضييق في الرخص:

- ‌2 - تعارض الروايات:

- ‌3 - الإجماعُ:

- ‌4 - اختلاف الفقهاء:

- ‌5 - من صور اختلاف الفقهاء:

- ‌توجيه وتنبيه:

- ‌التنبيهات:

- ‌6 - المقادير:

- ‌7 - المصطلحات الشرعية:

- ‌من المصطلحات:

- ‌المنهج:

- ‌المسائل والأحكام في "مقاصد الشريعة الإسلامية

- ‌القواعد والمقاصد باعتبار ما ينبني عليها، أو ما تدعو إليه من ترتيبات وتصرفات:

- ‌القسم الأول: يتضمن جملة من القواعد والمقاصد:

- ‌القسم الثاني: استنباط الأحكام من القواعد العامة:

- ‌القضاء بالعوائد:

- ‌الأوصاف الطردية:

- ‌ترجيح المصلحة الكبرى:

- ‌العمل بالمصلحة المرسلة:

- ‌القسم الثالث: موضوعات ذات صلة بالأصول والمقاصد للإمام عليها ملاحظات أو له بشأنها اقتراحات:

- ‌الباب السادسمصادر التشريع

- ‌الكتاب:

- ‌السُّنة:

- ‌الإجماع:

- ‌القياس:

- ‌أنواع القياس:

- ‌أقيسة الاستدلال:

- ‌جريان القياس:

- ‌المصلحة المرسلة:

- ‌الاستحسان:

- ‌سدّ الذرائع:

- ‌الحيلة:

- ‌أركان الحيلة:

- ‌أنواع التحيّل:

- ‌الباب السابعتوجه الأحكام التشريعية إلى المعاملات وتعيين الحقوق لأنواع مستحقيها

- ‌توطئة

- ‌الفصل الأول: الحقوق وأنواعها

- ‌تعيين مستحقي الحقوق يرفع أسباب النزاع:

- ‌أصحاب الاستحقاق:

- ‌حقوق العمال:

- ‌القواعد العامة لقيام المجتمعات الإنسانية:

- ‌الفصل الثاني: مقاصد العائلة في الشريعة

- ‌آصرة النكاح:

- ‌ آصرة النسب

- ‌آصرة الصهر:

- ‌طرق انحلال الأواصر الثلاث:

- ‌الفصل الثالث: الأموال

- ‌ تعريف المال:

- ‌ أنواع المال:

- ‌ أقسام المال في الملكية:

- ‌ الفوارق بين الأموال العينية والنقدية:

- ‌ المقايضة

- ‌النقود

- ‌من النقود السلعية إلى النقود المعدنية:

- ‌رأي الغزالي والمقريزي في النقدين:

- ‌النقود عند ابن القيم وابن عابدين:

- ‌أنواع النقود:

- ‌النقود المساعدة:

- ‌الفصل الرابع: مقاصد التصرّفات المالية ونظر الشريعة في أهمية الأموال

- ‌من مقاصد المعاملات المالية

- ‌أ - مصارف المال: البرّ، والصدقات، والزكاة:

- ‌الزكاة:

- ‌ب - التملُّك والتكسُّب:

- ‌1 - الأسباب المشروعة وغير المشروعة للتملك:

- ‌2 - أصول التكسّب:

- ‌ الأرض

- ‌ العمل:

- ‌ أنواع العمل:

- ‌ اختيار المسؤولين والعمال:

- ‌ج - رأس المال:

- ‌د - مجالات التكسب:

- ‌ التجارة

- ‌ الفلاحة:

- ‌ الصناعة:

- ‌ الاحتكار:

- ‌ الرواج:

- ‌استنفادُ بعض الثروة:

- ‌من أحكام المعاوضات:

- ‌توسيع الدراسات الفقهية:

- ‌الفصل الخامس: العقود

- ‌المجموعة الأولى: عقود التمليك:

- ‌التبرعات:

- ‌الرهن:

- ‌الوقف:

- ‌الهبة:

- ‌المجموعة الثانية: عقود المعاوضات:

- ‌البيع:

- ‌الإجارة:

- ‌السَّلَم:

- ‌المجموعة الثالثة: عقود المشاركة أو الشركات القائمة على عمل الأبدان:

- ‌ المضاربة

- ‌المساقاة:

- ‌المزارعة:

- ‌المغارسة:

- ‌تحريم المعاملات الربوية كلها:

- ‌العقود المنهي عنها:

- ‌بيع حاضرٍ لبادٍ ممن لا يعرف الأسعار، ومن كل وارد على مكان وإن كان من مدينة:

- ‌تلقي الركبان

- ‌البيع وقت النداء لصلاة الجمعة:

- ‌البيع والشرط وهو ما يسميه الفقهاء بيع الثُّنْيَا وبيع الوفاء:

- ‌الفصل السادس: مسائل مختلفة

- ‌تصرّفات المكلفين وأفعالهم، وما يترتب عليها من تشاريع وأحكام تناط بها أغراض الشارع ومقاصده

- ‌أثر المقاصد والمصالح في التشاريع والأحكام التي تحكم تصرّفات المكلفين:

- ‌جواز كراء الأرض بالخارج منها:

- ‌الفصل السابع: بيان طرق الاستدلال على مقاصد الشريعة

- ‌طرق التعرف إلى المقاصد:

- ‌دلالات المقاصد:

- ‌الرخصة:

- ‌الإصلاح والمصلحة:

- ‌الباب الثامنمقاصد أحكام القضاء والشهادة

- ‌توطئة

- ‌تولية القاضي:

- ‌عزل القاضي:

- ‌الباب التاسعالغرض من مقاصد الشريعة

- ‌مع علم مقاصد الشريعة:

- ‌النزوع إلى التجديد عند ابن عاشور وغيره من العلماء:

- ‌أول المجددين للدين في نظر صاحب المقاصد هو الإمام مالك بن أنس:

- ‌إمام الحرمين:

- ‌التطوّر والتجديد:

- ‌التجديد بين اتجاهين تحيط بهما محاذير:

- ‌المحاذير من التجديد:

- ‌التراث عروبة وإسلام:

- ‌تصورات للتجديد:

- ‌الباب العاشرالاجتهاد

- ‌الفصل الأول: مقدمات في الاجتهاد

- ‌واجب الاجتهاد:

- ‌إعادة النظر في قضايا اجتهادية:

- ‌الإجراءات الشرعية:

- ‌الفصل الثاني: عالميّة الشريعة والعمل بها

- ‌عالمية الشريعة وأسباب العمل بها:

- ‌العمل بالشريعة:

- ‌الفصل الثالث: بعض ما يحتاج إلى إعادة النظر فيه من الأحكام

- ‌مسائل بيع الطعام:

- ‌المُقاصّة:

- ‌بيوع الآجال:

- ‌كراء الأرض بما يخرج منها:

- ‌الشفعة في خصوص ما يقبل القسمة:

- ‌الفصل الرابع: الدعوة إلى إقامة مجمع للفقه الإسلامي

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌الخطاب الشرعي أو النصوص التشريعية:

وعلى هذا الأساس ألغَى الإجماعُ رضاعةَ الكبير. ولا بدع في هذا. فالتشريعات في أول إقامتها يكتفى فيها بما يؤذن بحرمة التشريع تهيئة لعمل الناس بها في المستقبل (1).

‌الخطاب الشرعي أو النصوص التشريعية:

أبرز ما يصوّر هذا الموضوع في القسم الأول من كتاب المقاصد فصلان السادس والسابع المتواليان. فبعد تفصيل المؤلف القول في إثبات أن للشريعة مقاصدَ من التشريع في الجملة، واستنادِه في ذلك إلى أدلة كثيرة من الكتاب والسُّنة (2)، وبعد تنبيهه على احتياج الفقيه إلى معرفة مقاصد الشريعة، وتوجيهه الدارسين إلى طرق إثبات تلك المقاصد عند الأصوليين وغيرهم من علماء السلف (3)؛ انتهى إلى محورين أساسيين في علم المقاصد يتناولان مسائل كثيرة الفائدة، عظيمة الأهمية، نلمس من خلالهما بحثاً عن أدلة الشريعة اللفظية، وعن عدم استغنائها عن معرفة المقاصد الشرعية، وعما يعرض للرسول صلى الله عليه وسلم من أحوال وظروف مختلفة تُدْعى مقامات. وهي التي يتكيّف خطابه بحسبها فتتمايز بها أقواله وأفعاله تبعاً لذلك، وتحمل من المعاني والإشارات ما يخفى إدراكه على كثير من الناس بسبب انصرافهم عن ملاحظة أسباب القول ودواعيه وحافاته. فالنظر في نصوص السُّنة مثلاً يقتضي التفريق بين ما له اتصال بمقام التشريع كالتبليغ والقضاء والفتوى، وبين ما لا صلة له بذلك مثل مقامات الإرشاد والهدي والنصيحة وغيرها.

وقد دعت هذه الآثار في ذاتها وباختلاف مناهجها إلى تقرير

(1) المقاصد: 77، 331، 332.

(2)

المقاصد: 35 - 39.

(3)

المقاصد: 40 - 78.

ص: 215

حقيقة علمية هي التي افتتح بها الشيخ ابن عاشور الفصل السادس المومى إليه أعلاه، إذ قال: إن الكلام لم يكن في لغة من لغات البشر، ولا كان نوع من أنواعه وأساليبه في اللغة الواحدة بالذي يكفي في الدلالة على مراد اللافظ دلالة لا تحتمل شكاً في مقصده من لفظه (1). ومن أجل هذا احتاج المتكلمون والمستمعون إلى الاستعانة على الفهم الصحيح بالقرائن المقالية والحالية التي تحفُّ بالكلام، وبما يقتضيه السياق في توجه الكلام، ويحدده المقام من غرض الخطاب.

ولبيان هذه الحقيقة أورد الشيخ ابن عاشور صوراً من الخطاب الشرعي قصدَ إثبات تفاوت دلالتها فيما بينها، فيقول: ولذلك تجد الكلام الذي شافه به المتكلم سامعيه أوضح دلالة على مراده من الكلام الذي بلّغه عنه مبلّغ. وهذه الصورة وإن كانت أقلّ وضوحاً وأكثر احتمالاً من الأولى، فإن ما يكون من الكلام عن طريق الكتابة هو أقل وضوحاً من الصورتين السابقتين لفقده دلالة البيان، ولغياب ملامح المتكلم عنه، وإن كانت هذه الصورة الأخيرة من الكلام أضبط من جهة انتفاء التحريف والسهو والتصرّف في التعبير عن المعنى عند سوء الفهم (2).

وكل هذا يجب أن تُصرف فيه الجهود لتخلَص من الشك والاحتمالات، وما تقتضيه معميّات الكلام من خلط واضطراب. وإن أدقّ مقام في الدلالة وأحوجه إلى الاستعانة عليها هو مقام التشريع، لما يلزم من أعمال ما ينبغي أن يتخذ من الحيطة في هذا المحل (3).

(1) المقاصد: 79.

(2)

المقاصد: 80 - 81.

(3)

المقاصد: 81.

ص: 216

فلا يلجأ بعض العلماء إلى الخطأ حين الاقتصار على اعتصار الألفاظ قصد التوصل إلى استنباط أحكام الشريعة، ويضعف اعتقادهم بأن للفظ وحده أهمية بالغة ودوراً كبيراً في الكشف عن المعنى المراد المنصوص عليه (1).

وبالحرص الكبير على اختيار أنجع الطرق لفهم النصوص الشرعية أبطل الشيخ ابن عاشور مقالات أهل الأهواء الذين أرادوا حمل أتباعهم على الشك في مدلولات النصوص من الكتاب والسُّنة بما أذاعوه بينهم من الاحتمالات العدمية العشرة.

ولفت النظر إلى ما أورده البخاري في كتاب الاعتصام من صحيحه من ضرورة الرجوع إلى المقام، وإلى أحوال الحرمين ومشاهد النبي صلى الله عليه وسلم وأحوال المهاجرين والأنصار لفهم الحديث فهماً صحيحاً، وإبطال الشكوك والأوهام العارضة له (2). ومما يشهد لهذا حديثُ عاصم. قال لأنس بن مالك:"أَبَلَغَك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا حلف في الإسلام؟ قال أنس: قد حَالف النبي صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داري التي بالمدينة". يشير بهذا إلى إبطال الحديث المروي عن أم سَلَمة، وعن جبير بن مطعم وعن ابن عباس. وفي هذا ما يحرر مقدار الاعتبار بمذاهب الصحابة فيما طريقه النقل والعمل. فقد كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عرضت لهم الاحتمالات، ويشاهدون من الأحوال ما يبصّرهم بمقصد الشارع (3).

ولاستقصاء النظر في الأدلة وحُسن التعامل معها نبّه الشاطبي في أكثر من مناسبة إلى أن الأدلة العقلية إذا استعملت في هذا العلم

(1) المقاصد: 81.

(2)

المقاصد: 82.

(3)

المقاصد: 83 - 86.

ص: 217

فإنها تستعمل مركبة على الأدلة السمعية، أو مُعِينة فى طريقها، أو محققة لمناطها، أو ما أشبه ذلك، لا مستقلة بالدلالة (1).

ويؤكد ما ذهب إليه هنا بقوله: الأدلة المعتبرة، المستقرأة من جملة أدلة ظنيّة تضافرت على معنى واحد فأفادت فيه القطع، ذلك لأن للاجتماع من القوة ما ليس في الافتراق (2).

ويزيد هذا تفصيلاً وبياناً بقوله: إن من الكلام ما يدل على مقصده دلالة أصلية، ولكنّه مع ذلك يحتاج إلى مكمّلات ومتمَّمات. وهذه هي الجهة الثانية من الدلالة على مقاصد الكلام. وهي تابعة للأولى مثل الوصف لها (3).

ومضى الشيخ ابن عاشور على السَّنن نفسه في قوله، يصور النظم القرآني ونسجه: إنك لتمر بالآية الواحدة فتتأملها وتتدبّرها فتنهال عليك معانٍ كثيرة يسمح بها التركيب على اختلاف الاعتبارات في أساليب الاستعمال العربي. وقد تتكاثر عليك فلا تكُ من كثرتها في حَصَر، ولا تجعل الحمل على بعضها منافياً للبعض الآخر إن كان التركيب سمْحاً بذلك (4).

وقال أيضاً: إن نظم القرآن مبني على وفرة الإفادة وتعدد الدلالة. فجمل القرآن لها دلالتها الوضعية التركيبية التي يشاركها فيها الكلام العربي، ولها دلالتها البلاغية التي يشاركها في مجملها كلام البلغاء، ولا يصل شيءٌ من كلامهم إلى مبلغ بلاغتها. ويتميز نظم القرآن ببلوغه منتهى ما تسمح به اللغة العربية من الدقائق واللطائف لفظاً ومعنى بأقصى ما يراد بلاغه إلى المرسل إليهم (5).

(1) الموافقات: (3) 1/ 35.

(2)

الموافقات: (3) 1/ 36.

(3)

الموافقات: (3) 2/ 67 - 68.

(4)

التحرير والتنوير: 1/ 97.

(5)

التحرير والتنوير: 1/ 110.

ص: 218

ولكون القرآن بعموماته وديموماته جاء خطاباً إلهياً إلى الأمة قاطبة في جميع الأقطار والعصور، أُنزِل بلسان عربي للبشر؛ لأن تلك اللغة أوفر اللغات عبارة، وأقلها حروفاً، وأفصحها لهجة، وأكثرها تصرفاً في الدلالة على أغراض المتكلم. فكان القرآن جامعاً لأكثر ما يمكن أن تتحمله اللغة العربية في نظم تراكيبها من المعاني في أقل ما يسمح به نظمُ تلك اللغة (1).

وفي هذه الحقائق وأمثالها المفصّلة في التحرير والتنوير ما ينهض دليلاً على صحة ما أورده صاحب المقاصد عن مدى وفاء اللغة والاستعمالات اللغوية بما تتضمنه من معانٍ هي في حاجة إلى كمال البلاغ وتمام الإيحاء بها إلى المخاطبين. وذلك بحسب ما يحفُّ بالكلام من إشارات مقالية أو حالية.

وإنا إذا ما أعدنا النظر في كلام الإمام ابن عاشور نجده متشعّباً إلى سبعة جوانب أو مسائل. واختصاراً للقول في ذلك نرد المسائل السبع التي تُستلهم من دراسته وبحثه إلى ثلاث قضايا:

° الأولى منها: تتعلّق بالخطاب، لغوياً كان أم شرعياً.

° والثانية: تتعلّق بدرجات أنواع الكلام.

° والثالثة: ترتبط بمقام التشريع، وما يتطلبّه من عمق التصور لدلالات الخطاب، تمكيناً للمجتهدين من القيام بدورهم على الوجه الأكمل.

فالقضية الأولى، وهي الخطاب ودلالته، تفترض في المجال اللغوي وجود متكلم ومخاطب، وموضوع خطاب. وهي كذلك

(1) التحرير والتنوير: 1/ 98.

ص: 219

بالنسبة للخطاب الشرعي تقتضي وجود من يصدر عنه الخطاب وهو المشرّع، ووجود مخاطب به وهو المجتهد أو المكلف. ووجود خطاب وهو الأحكام الشرعية التي جاءت بها النصوص الشرعية الأصولية من جعل الخطابات الشرعية الواردة بها الأدلة متنوعة بين ما هو غير واضح وهو: الخفي والمُشكل والمجمل والمتشابه. وتقابل وجوه الخفاء هذه وجوه البيان وهي: الظاهر والنص والمؤول (أو المفسَّر) والمُحكم.

ونفي الاحتمالية عن النص غيرُ قائم عند علماء البلاغة.

أوضح ذلك الإمام عبد القاهر الجرجاني في قوله:

"اعلم أنه إذا كان بيّناً في الشيء أنه لا يحتمل إلا الوجه الذي هو عليه، حتى لا يُشكل، وحتى لا يحتاج في العلم بأن ذلك حقه وأنه الصواب، إلى فكر وروية فلا مزية. وإنما تثبت المزية ويجب الفضل إذا احتمل في ظاهر الحال من الكلام وجهٌ آخر غير الوجه الذي جاء عليه ثم رأيت النفس تنبو عن ذلك الوجه الآخر، ورأيت للذي جاء حسناً وقبولاً تعدِمُها إذا أنت تركته إلى الثاني (1).

وفي قوله: الكلام على ضربين: ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، وضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحدَه ولكن يدلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة. ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض.

وإذ قد عرفت هذه الجملة فهاهنا عبارة مختصرة، وهي أن تقول

(1) عبد القاهر الجرجاني. دلائل الاعجاز. 286.

ص: 220

"المعنى" و"معنى المعنى"، تعني بالمعنى المفهومَ من ظاهر اللفظ والذي تصل إليه بغير واسطة، وبمعنى المعنى أن تعقل من اللفظ معنى ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر. ومدارُ هذا الأمر على الكناية والاستعارة والتمثيل (1). واحتمالية النص في الخطاب الشرعي غير مدفوعة بالقطع عند طائفة من الأصوليين. فهو، وإن وجب العمل به لقطعيته، يحتمل التأويل. ولا يقدح فيه ذلك ما دام الاحتمال الذي يتطرّقه غير ناشئ عن دليل.

ويؤكّد هذا المعنى قول السكاكي عند تنويهه بأهمية مقام الكلمات داخل مقام المقال: ثم إذا شرعت في الكلام فلكل كلمة مع صاحبتها مقام، ولكل واحد ينتهي إليه الكلام مقال (2).

* * * * *

(1) عبد القاهر الجرجاني. دلائل الإعجاز: 262 - 263.

(2)

مفتاح العلوم: 80.

ص: 221