المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من صفات الشريعة رفع خلط الاعتبارات بالأوهام: - مقاصد الشريعة الإسلامية - جـ ٢

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌بَيْنَ عِلْمَيِّ أصُوْل الْفِقْهومَقَاصِد الشَّرِيْعَةِ الإسْلاميَّةِ

- ‌المقدمة

- ‌التمهيد لمقاصد الشريعة

- ‌الباب الأولقضايا ذات صلة بالفقه وبعلمي أصول الفقه ومقاصد الشريعة الإسلامية

- ‌الفصل الأول: بين الفقه وأصول الفقه ومقاصد الشريعة

- ‌ الفقه

- ‌علم أصول الفقه:

- ‌علم مقاصد الشريعة:

- ‌الفصل الثاني: قضايا أصولية وكلامية

- ‌قطعيّة أدلةِ علم أصول الفقه وظنّيّتها:

- ‌من أسباب ظنّية علم الأصول:

- ‌أ - الأحوال العارضة للنصوص:

- ‌اختلاف أنواع الدلالة:

- ‌أنواع المفاهيم:

- ‌تباين المحكم والمتشابه:

- ‌خبر الآحاد:

- ‌الإجماع وأنواعه:

- ‌ب -‌‌ التعليل، والعلة، والتعبّدي:

- ‌ التعليل

- ‌العلَّة:

- ‌شروط العلة:

- ‌التعليل عند المتكلمين:

- ‌رد الشيخ ابن عاشور على الأشاعرة:

- ‌الوجوب والغرض:

- ‌رد الجويني على الأشاعرة:

- ‌الأصوليون والتعليل:

- ‌العول:

- ‌أهميّة التعليل:

- ‌إصرار ابن حزم على رأيه واستدلاله على صحّة موقفه:

- ‌التعبّدي:

- ‌حكم القياس:

- ‌العمل بالقياس:

- ‌القياس بين المثبتين والنُّفاة:

- ‌مجالات الإثبات والإنكار للقياس:

- ‌القياس عند الظاهرية:

- ‌حجية القياس: أدلة المثبتين:

- ‌أدلة نفاة القياس:

- ‌الباب الثانيمع روّاد علم أصول الفقه وعلم مقاصد الشريعة

- ‌الفصل الأول: من طلائع الأصوليين وعلماء المقاصد

- ‌1 - الجويني: البرهان:

- ‌2 - الغزالي: شفاء الغليل، المنخول، المستصفى:

- ‌3 - العز بن عبد السلام: القواعد:

- ‌4 - القرافي: الفروق:

- ‌الفصل الثاني: موضوعات من علم المقاصد في كتب جماعة من الفقهاء

- ‌(1) المقاصد وكتاب الفروق للإمام القرافي:

- ‌الموضع الأول: انتصاب الشارع للتشريع:

- ‌الموضع الثاني: الحقوق وإسقاطها:

- ‌الموضع الثالث: نوط الأحكام الشرعية بمعانٍ وأوصاف لا بأسماء وأشكال:

- ‌الموضع الرابع: سدّ الذرائع:

- ‌الموضع الخامس: نفوذ الشريعة:

- ‌(2) المقاصد وكتاب نفائس الأصول:

- ‌(3) المقاصد وكتاب تنقيح الفصول:

- ‌الشاطبي وكتاب الموافقات:

- ‌ رأي ابن عاشور في عمل الشاطبي

- ‌تأييد ابن عاشور للشاطبي في بيان قصد الشارع من التكليف:

- ‌انصباب تكاليف الشريعة على العبادات والمعاملات والعادات:

- ‌مناقشة الشاطبي قوله بقطعيّة الأدلة:

- ‌تعريف الشيخ ابن عاشور بأنواع المصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا:

- ‌تقسيم التكاليف إلى عزائم ورخص:

- ‌التحيّل:

- ‌الفصل الثالث: المقاصد العامة والمصالح

- ‌الفطرة:

- ‌السماحة:

- ‌ المساواة

- ‌موانع المساواة:

- ‌الحرية:

- ‌تشوف الشارع للحرية:

- ‌تعريف المصلحة والمفسدة:

- ‌المصلحة والمفسدة محضتان خالصتان ومشوبتان مختلطتان:

- ‌الفصل الرابع: ضوابط المقاصد وأقسامها

- ‌القسم الأول من المقاصد:

- ‌المقاصد بين كلية وجزئية:

- ‌المقاصد بين قطعيّة وظنيّة:

- ‌المقاصد الأصلية والمقاصد التابعة:

- ‌المقاصد والوسائل:

- ‌الفصل الخامس: بحث المقاصد في أطراف الكتاب

- ‌الباب الثالثفي إثبات مقاصد التشريع الإسلامي وحاجة الفقهاء إلى معرفتها والوقوف عليها

- ‌توطئة

- ‌الفصل الأول: منهج السلف في طلب مقاصد الشرع من الأحكام

- ‌الفصل الثاني: الأنحاء الخمسة لتصرّفات الفقهاء في طلب المقاصد

- ‌الفصل الثالث: من طرق إثبات المقاصد الشرعية

- ‌الفصل الرابع: في القواعد الشرعية

- ‌الكليات:

- ‌الطريق الممهِّدة للتعرّف الدقيق على المقاصد وتعيينها:

- ‌القواعد والضوابط لمعرفة الأحكام وتعيين المقاصد:

- ‌الباب الرابعأمثلة للمقاصد مستخرجة من كتب المؤلف:

- ‌الفصل الأول: أمثلة للمقاصد الشرعية المستخرجة من التحرير والتنوير

- ‌المثال الأول: النبي الأمي صلى الله عليه وسلم

- ‌الْمَعْرُوفِ}

- ‌الطيبات:

- ‌الرحمة:

- ‌المثال الثاني: ضرب المرأة:

- ‌المثال الثالث: الطلاق ثلاثاً بلفظ واحد:

- ‌المثال الرابع: مثال من كتاب النظر الفسيح: حديث الوصيّة

- ‌المثال الخامس: مثال من كتاب كشف المُغطَّى: حديث بيع الخيار

- ‌الباب الخامسمنهجية الشيخ ابن عاشور في كتاب المقاصد

- ‌الفصل الأول: أسس النظر في المقاصد والأحكام

- ‌الإسلام حقائق لا أوهام:

- ‌من صفات الشريعة رفع خلط الاعتبارات بالأوهام:

- ‌الخطاب الشرعي أو النصوص التشريعية:

- ‌الفصل الثاني: منهج الشيخ ابن عاشور في تقريراته وفي تناوله لبعض متممات الخطاب

- ‌التفصيل والتقسيم:

- ‌الضوابط والشروط:

- ‌التقرير والتقعيد:

- ‌الأسباب:

- ‌إعمال النظر الشرعي طلباً لتحديد الأحكام:

- ‌الاستدلال:

- ‌المقام والسياق:

- ‌الاستقراء:

- ‌تنوُّع الأحكام بين التعبّدي والمُعلَّل:

- ‌تعقيبات الإمام ابن عاشور ومناقشاته:

- ‌الفصل الثالث: مع فقهاء الشريعة الإسلامية

- ‌1 - التضييق في الرخص:

- ‌2 - تعارض الروايات:

- ‌3 - الإجماعُ:

- ‌4 - اختلاف الفقهاء:

- ‌5 - من صور اختلاف الفقهاء:

- ‌توجيه وتنبيه:

- ‌التنبيهات:

- ‌6 - المقادير:

- ‌7 - المصطلحات الشرعية:

- ‌من المصطلحات:

- ‌المنهج:

- ‌المسائل والأحكام في "مقاصد الشريعة الإسلامية

- ‌القواعد والمقاصد باعتبار ما ينبني عليها، أو ما تدعو إليه من ترتيبات وتصرفات:

- ‌القسم الأول: يتضمن جملة من القواعد والمقاصد:

- ‌القسم الثاني: استنباط الأحكام من القواعد العامة:

- ‌القضاء بالعوائد:

- ‌الأوصاف الطردية:

- ‌ترجيح المصلحة الكبرى:

- ‌العمل بالمصلحة المرسلة:

- ‌القسم الثالث: موضوعات ذات صلة بالأصول والمقاصد للإمام عليها ملاحظات أو له بشأنها اقتراحات:

- ‌الباب السادسمصادر التشريع

- ‌الكتاب:

- ‌السُّنة:

- ‌الإجماع:

- ‌القياس:

- ‌أنواع القياس:

- ‌أقيسة الاستدلال:

- ‌جريان القياس:

- ‌المصلحة المرسلة:

- ‌الاستحسان:

- ‌سدّ الذرائع:

- ‌الحيلة:

- ‌أركان الحيلة:

- ‌أنواع التحيّل:

- ‌الباب السابعتوجه الأحكام التشريعية إلى المعاملات وتعيين الحقوق لأنواع مستحقيها

- ‌توطئة

- ‌الفصل الأول: الحقوق وأنواعها

- ‌تعيين مستحقي الحقوق يرفع أسباب النزاع:

- ‌أصحاب الاستحقاق:

- ‌حقوق العمال:

- ‌القواعد العامة لقيام المجتمعات الإنسانية:

- ‌الفصل الثاني: مقاصد العائلة في الشريعة

- ‌آصرة النكاح:

- ‌ آصرة النسب

- ‌آصرة الصهر:

- ‌طرق انحلال الأواصر الثلاث:

- ‌الفصل الثالث: الأموال

- ‌ تعريف المال:

- ‌ أنواع المال:

- ‌ أقسام المال في الملكية:

- ‌ الفوارق بين الأموال العينية والنقدية:

- ‌ المقايضة

- ‌النقود

- ‌من النقود السلعية إلى النقود المعدنية:

- ‌رأي الغزالي والمقريزي في النقدين:

- ‌النقود عند ابن القيم وابن عابدين:

- ‌أنواع النقود:

- ‌النقود المساعدة:

- ‌الفصل الرابع: مقاصد التصرّفات المالية ونظر الشريعة في أهمية الأموال

- ‌من مقاصد المعاملات المالية

- ‌أ - مصارف المال: البرّ، والصدقات، والزكاة:

- ‌الزكاة:

- ‌ب - التملُّك والتكسُّب:

- ‌1 - الأسباب المشروعة وغير المشروعة للتملك:

- ‌2 - أصول التكسّب:

- ‌ الأرض

- ‌ العمل:

- ‌ أنواع العمل:

- ‌ اختيار المسؤولين والعمال:

- ‌ج - رأس المال:

- ‌د - مجالات التكسب:

- ‌ التجارة

- ‌ الفلاحة:

- ‌ الصناعة:

- ‌ الاحتكار:

- ‌ الرواج:

- ‌استنفادُ بعض الثروة:

- ‌من أحكام المعاوضات:

- ‌توسيع الدراسات الفقهية:

- ‌الفصل الخامس: العقود

- ‌المجموعة الأولى: عقود التمليك:

- ‌التبرعات:

- ‌الرهن:

- ‌الوقف:

- ‌الهبة:

- ‌المجموعة الثانية: عقود المعاوضات:

- ‌البيع:

- ‌الإجارة:

- ‌السَّلَم:

- ‌المجموعة الثالثة: عقود المشاركة أو الشركات القائمة على عمل الأبدان:

- ‌ المضاربة

- ‌المساقاة:

- ‌المزارعة:

- ‌المغارسة:

- ‌تحريم المعاملات الربوية كلها:

- ‌العقود المنهي عنها:

- ‌بيع حاضرٍ لبادٍ ممن لا يعرف الأسعار، ومن كل وارد على مكان وإن كان من مدينة:

- ‌تلقي الركبان

- ‌البيع وقت النداء لصلاة الجمعة:

- ‌البيع والشرط وهو ما يسميه الفقهاء بيع الثُّنْيَا وبيع الوفاء:

- ‌الفصل السادس: مسائل مختلفة

- ‌تصرّفات المكلفين وأفعالهم، وما يترتب عليها من تشاريع وأحكام تناط بها أغراض الشارع ومقاصده

- ‌أثر المقاصد والمصالح في التشاريع والأحكام التي تحكم تصرّفات المكلفين:

- ‌جواز كراء الأرض بالخارج منها:

- ‌الفصل السابع: بيان طرق الاستدلال على مقاصد الشريعة

- ‌طرق التعرف إلى المقاصد:

- ‌دلالات المقاصد:

- ‌الرخصة:

- ‌الإصلاح والمصلحة:

- ‌الباب الثامنمقاصد أحكام القضاء والشهادة

- ‌توطئة

- ‌تولية القاضي:

- ‌عزل القاضي:

- ‌الباب التاسعالغرض من مقاصد الشريعة

- ‌مع علم مقاصد الشريعة:

- ‌النزوع إلى التجديد عند ابن عاشور وغيره من العلماء:

- ‌أول المجددين للدين في نظر صاحب المقاصد هو الإمام مالك بن أنس:

- ‌إمام الحرمين:

- ‌التطوّر والتجديد:

- ‌التجديد بين اتجاهين تحيط بهما محاذير:

- ‌المحاذير من التجديد:

- ‌التراث عروبة وإسلام:

- ‌تصورات للتجديد:

- ‌الباب العاشرالاجتهاد

- ‌الفصل الأول: مقدمات في الاجتهاد

- ‌واجب الاجتهاد:

- ‌إعادة النظر في قضايا اجتهادية:

- ‌الإجراءات الشرعية:

- ‌الفصل الثاني: عالميّة الشريعة والعمل بها

- ‌عالمية الشريعة وأسباب العمل بها:

- ‌العمل بالشريعة:

- ‌الفصل الثالث: بعض ما يحتاج إلى إعادة النظر فيه من الأحكام

- ‌مسائل بيع الطعام:

- ‌المُقاصّة:

- ‌بيوع الآجال:

- ‌كراء الأرض بما يخرج منها:

- ‌الشفعة في خصوص ما يقبل القسمة:

- ‌الفصل الرابع: الدعوة إلى إقامة مجمع للفقه الإسلامي

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌من صفات الشريعة رفع خلط الاعتبارات بالأوهام:

ظناً: {ومَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (1)، ودعته هوى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} (2)، وجعلته تمنّياً لمصادفته الرغبة الشخصية الذاتية وبُعدِه عن شرع الله وما اقتضته حكمته عز وجل من الأمر. قال تعالى:{إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى} (3).

‌من صفات الشريعة رفع خلط الاعتبارات بالأوهام:

وبعد التحليل الملاحظ في الأقسام المتقدّمة انتقل الإمام إلى الحديث عن التقرير والتغيير في التشريع الإسلامي.

فالتقرير هو ما تناول الحقائق الثابتة التي فطر الله خلقَه عليها فجعلها منهج إرشاد، وأساسَ تعامل الإنسان مع نفسه ومع من حوله.

والتغيير هو ما جاء عن الشارع من نقضٍ للأوضاع، ورَدًّ للمنكرات، وتفريق بحن ما هو حق وما هو باطل.

فحَمَى المرأة من أن تُطَلَّق ثلاثاً، مرّة بعد مرّة، من غير أن يراجعها زوجها بعد صدور الطلاق منه في كل مرّة حتى تشرف على انقضاء عدّتها، إمعاناً في مضارَّتها، وإطالةً وتمديداً لأيام عدّتها:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} (4). وهكذا أبطل الشارع واقعاً ذميماً ودعا إلى اعتبار الحكمة والقصد من تشريع العدّة وهو استبراء للرحم، وانتظار لندامة المطلَّق.

(1) سورة يونس، الآية:36.

(2)

سورة القصص، الآية:50.

(3)

سورة النجم، الآية: 23 - 24.

(4)

سورة البقرة، الآية:231.

ص: 210

قال سبحانه: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (1).

وكان فَهْمُ الناس لعدّة الوفاة أربعةَ أشهر وعشراً فهماً خاطئاً حين جعلوا العدّة حُزناً على فقدان الزوج، وصرفاً إلى اعتداد المرأة عدة الوفاة.

وبيان ذلك أن المرأة إذا وضعت حملها إثر وفاة بعلها وبَرِئَت رحمُها يكون لها أن تتزوج في التوّ وهذا خلاف ما قاله أبو السنابل، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لسبيعة حين جاءت تشكو أمرها:"قد حللت حين وضعت حملك فانكحي إن شئت"(2). ويدل هذا على أن العلة الحقيقية لعدة الوفاة كانت لأجل ما عسى أن يظهر من الحمل.

أما ما ورد من نهي أهل الكتاب عن مذامًّ يأتونها؛ كمؤاخذته جل وعلا لليهود بقوله: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} (3) فهو من أجل تحذير المسلمين من الوقوع في مثله.

وكان الناس يعتدّون بالفوارق بين الذوات المتساوية: بين الرجال والنساء، وبين الأحرار والعبيد بصفة مطّردة. فأبطلت الشريعة ذلك، واعتبرت جميع الأحكام المتعلّقة بذوات متساوية في الوصف الواردِ لأجله الحكم، يجب أن تكون متساوية في الحكم.

وممّا لم يقرّه الشرع وإن كان واقعاً في الجاهلية وصدر الإسلام التبنّي. أبطله تعالى بقوله: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ

(1) سورة الطلاق، الآية:1.

(2)

خَ: 6/ 182؛ مَ: 2/ 1122 - 1123؛ طَ: 2/ 589.

(3)

سورة البقرة، الآية:85.

ص: 211

بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} (1).

وخالطت الأوهامُ الحقائق في المعارف والعادات شرعيها وعقليها، فكان متفشياً بين الناس اعتقاد أن الشمس تخسف إنذاراً بحوادث تقع في البشر، فردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الاعتقاد، وقال حين خسفت الشمس عند وفاة ابنه إبراهيم عليه السلام:"إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله؛ لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته"(2).

وكان الناس يتوهّمون عند وضع الطفل مختلفاً لونه عن لون أبويه أنه من سفاح؛ فينكرونه. وجاء فزارة (ضمضم بن قتادة)، وشكا لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الحالة. فبيّن صلى الله عليه وسلم له خطأه، واستلَّ منه وهمه بردِّه إلى واقع مشاهد، إذ قال له:"هل لك من إبل"؟، قال: نعم. قال: "ما لونها"؟ قال: حُمْرٌ. قال: "هل فيها من أورق"؟، قال: نعم. قال: "فأنّى ذلك"؟، قال: لعله نَزَعَهُ عِزق. قال: "فلعل ابنك هذا نزعه عِرْق"(3).

ومن أوهامهم اعتبارهم الزمان أو الدهر يأتي بالحوادث العجيبة وبالمصائب. فكانوا يسبُّون الدهر. فنهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا تسبّوا الدهر فإن الله هو الدهر"(4). ذلك أنهم أضافوا ما يحدث لهم من قوارع إلى الزمان، وليس الزمان سوى أمر اعتباري تؤقّت به الحوادث فأخطؤوا في الاعتقاد، وما من خالق للحوادث غير الله.

وكانوا يتطيَّرون ويعتقدون أن الهامة طائر يتخيّلونه يخرج من

(1) سورة الأحزاب، الآية:4.

(2)

خَ: 2/ 24، 30، 31؛ مَ: 1/ 623، 630.

(3)

خَ: 6/ 178؛ مَ: 2/ 233.

(4)

مَ: 2/ 1763.

ص: 212

رأس القتيل فلا يزال يصيح: اسقوني، حتى يؤخذ بثأر القتيل. كما كانوا يتشاءمون من شهر صفر ويخافون الكهنة، فنفى النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأوهام قائلاً:"لا عدوى ولا طيرة ولا صفر ولا هامة"(1)، "وإنما الطِّيَرَةُ على من تطيّر" (2). وردَّ على من سأل عن الكهنة فقال:"ليسوا بشيء"(3).

فأنشأ الإسلام بسداد شريعته وحكمته العالية أمة صالحة للاستخلاف في الأرض. ولولا ما أُدخل عليها من تحريف الأفهام وتصديع الأوهام لكانت تاجاً فوق جميع الهام.

ويحصل لمن لا يفقه الشريعة خلط الاعتبارات بالأوهام وهذا باطل. فلكل وصف من هذين موقع ومجال.

فمن الأمور الاعتبارية قوله صلى الله عليه وسلم: "المُصلي يناجي ربه"(4)، تقريباً وتقريراً وتقديراً لفعله. وهذا الأمر في الواقع غيرُ متحقّق؛ لأن الربّ موجود والتقرّب إليه مشروع، واستحضاره عسير لا بد فيه من المعونة بأمر محسوس، ومن الاعتبارات استحضار استقبال القبلة في الصلاة.

ومن هذا القبيل الحقائق التي لا ثبوت لها إلا في الذهن. وذلك ما حوّلته الشريعة إلى الاعتبار كالنية، وحُسن الظن بالمؤمن، ومقام الإحسان الذي صوَّره لنا الشارع بقوله صلى الله عليه وسلم:"أن تعبد الله كأنك تراه"(5). ودخل هذا في التشريعات الاعتبارية؛ لما يقارن هذه

(1) خَ: 7/ 27، 31؛ مَ: 2/ 1732 - 1743.

(2)

حَب: 7/ 642.

(3)

خَ: 7/ 28؛ مَ: 2/ 1750.

(4)

خَ: 1/ 106 - 107؛ مَ: 1/ 390.

(5)

مَ: 1/ 36 - 40.

ص: 213

الحالات من صفات تستقر في النفس فتوحي لمن تخالطه وتلازمه أنها حقائق. ومن الأمور ما تترتّب آثار خفيفة على اعتبارها فيقدر المعدوم كالموجود. ومثال ذلك مِلك المقتول حق القصاص من القاتل قبل وفاته ليصحّ عفوه عن قاتله.

ومن الأمور المعدودة في العادات من الأوهام، واصطلح عليها البشر في عوائدهم، ما أصبح من الفضائل، كستر العورة الذي أقرّه الإسلام وأوجبه. وفي الحديث قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تُحشرون حفاة عراة". فقالت عائشة: يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال: "الأمر أشدّ من أن يهمهم ذلك"(1).

ومن الأوهام والتخيّلات ما يكون جارياً في طرق الدعوة. وهو ليس من الحقائق التي تقتضيها الشريعة أو يطلبها التشريع. وهي وإن استعملت طريقاً لتحصيل علم أو عمل، فهي لا تبلغ في ذاتها أن تكون أمراً مقصوداً حصوله. ومثال هذا قول الله تعالى:{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} (2)، وقوله صلى الله عليه وسلم:"العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه"(3). وإنما ورد التخييل والتشبيه بقصد التشنيع والمبالغة في النهي.

ونَهَى الشرع عن العمل بالوهْم. ورد في الجامع الصحيح للبخاري: عن ابن عباس: أن الناس كانوا يستحيون أن يتخلّوا فيفضوا إلى السماء، فكانوا يثنون صدورهم يستحيون من الله، فأنزل الله فيهم:{أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور} (4).

(1) خَ: 7/ 195؛ مَ: 3/ 2194.

(2)

سورة الحجرات، الآية: 12

(3)

انظر المقاصد: 113/ تع 1.

(4)

سورة هود، الآية:5.

ص: 214