الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ظناً: {ومَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (1)، ودعته هوى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} (2)، وجعلته تمنّياً لمصادفته الرغبة الشخصية الذاتية وبُعدِه عن شرع الله وما اقتضته حكمته عز وجل من الأمر. قال تعالى:{إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى} (3).
من صفات الشريعة رفع خلط الاعتبارات بالأوهام:
وبعد التحليل الملاحظ في الأقسام المتقدّمة انتقل الإمام إلى الحديث عن التقرير والتغيير في التشريع الإسلامي.
فالتقرير هو ما تناول الحقائق الثابتة التي فطر الله خلقَه عليها فجعلها منهج إرشاد، وأساسَ تعامل الإنسان مع نفسه ومع من حوله.
والتغيير هو ما جاء عن الشارع من نقضٍ للأوضاع، ورَدًّ للمنكرات، وتفريق بحن ما هو حق وما هو باطل.
فحَمَى المرأة من أن تُطَلَّق ثلاثاً، مرّة بعد مرّة، من غير أن يراجعها زوجها بعد صدور الطلاق منه في كل مرّة حتى تشرف على انقضاء عدّتها، إمعاناً في مضارَّتها، وإطالةً وتمديداً لأيام عدّتها:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} (4). وهكذا أبطل الشارع واقعاً ذميماً ودعا إلى اعتبار الحكمة والقصد من تشريع العدّة وهو استبراء للرحم، وانتظار لندامة المطلَّق.
(1) سورة يونس، الآية:36.
(2)
سورة القصص، الآية:50.
(3)
سورة النجم، الآية: 23 - 24.
(4)
سورة البقرة، الآية:231.
قال سبحانه: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (1).
وكان فَهْمُ الناس لعدّة الوفاة أربعةَ أشهر وعشراً فهماً خاطئاً حين جعلوا العدّة حُزناً على فقدان الزوج، وصرفاً إلى اعتداد المرأة عدة الوفاة.
وبيان ذلك أن المرأة إذا وضعت حملها إثر وفاة بعلها وبَرِئَت رحمُها يكون لها أن تتزوج في التوّ وهذا خلاف ما قاله أبو السنابل، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لسبيعة حين جاءت تشكو أمرها:"قد حللت حين وضعت حملك فانكحي إن شئت"(2). ويدل هذا على أن العلة الحقيقية لعدة الوفاة كانت لأجل ما عسى أن يظهر من الحمل.
أما ما ورد من نهي أهل الكتاب عن مذامًّ يأتونها؛ كمؤاخذته جل وعلا لليهود بقوله: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} (3) فهو من أجل تحذير المسلمين من الوقوع في مثله.
وكان الناس يعتدّون بالفوارق بين الذوات المتساوية: بين الرجال والنساء، وبين الأحرار والعبيد بصفة مطّردة. فأبطلت الشريعة ذلك، واعتبرت جميع الأحكام المتعلّقة بذوات متساوية في الوصف الواردِ لأجله الحكم، يجب أن تكون متساوية في الحكم.
وممّا لم يقرّه الشرع وإن كان واقعاً في الجاهلية وصدر الإسلام التبنّي. أبطله تعالى بقوله: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ
(1) سورة الطلاق، الآية:1.
(2)
خَ: 6/ 182؛ مَ: 2/ 1122 - 1123؛ طَ: 2/ 589.
(3)
سورة البقرة، الآية:85.
بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} (1).
وخالطت الأوهامُ الحقائق في المعارف والعادات شرعيها وعقليها، فكان متفشياً بين الناس اعتقاد أن الشمس تخسف إنذاراً بحوادث تقع في البشر، فردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الاعتقاد، وقال حين خسفت الشمس عند وفاة ابنه إبراهيم عليه السلام:"إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله؛ لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته"(2).
وكان الناس يتوهّمون عند وضع الطفل مختلفاً لونه عن لون أبويه أنه من سفاح؛ فينكرونه. وجاء فزارة (ضمضم بن قتادة)، وشكا لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الحالة. فبيّن صلى الله عليه وسلم له خطأه، واستلَّ منه وهمه بردِّه إلى واقع مشاهد، إذ قال له:"هل لك من إبل"؟، قال: نعم. قال: "ما لونها"؟ قال: حُمْرٌ. قال: "هل فيها من أورق"؟، قال: نعم. قال: "فأنّى ذلك"؟، قال: لعله نَزَعَهُ عِزق. قال: "فلعل ابنك هذا نزعه عِرْق"(3).
ومن أوهامهم اعتبارهم الزمان أو الدهر يأتي بالحوادث العجيبة وبالمصائب. فكانوا يسبُّون الدهر. فنهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا تسبّوا الدهر فإن الله هو الدهر"(4). ذلك أنهم أضافوا ما يحدث لهم من قوارع إلى الزمان، وليس الزمان سوى أمر اعتباري تؤقّت به الحوادث فأخطؤوا في الاعتقاد، وما من خالق للحوادث غير الله.
وكانوا يتطيَّرون ويعتقدون أن الهامة طائر يتخيّلونه يخرج من
(1) سورة الأحزاب، الآية:4.
(2)
خَ: 2/ 24، 30، 31؛ مَ: 1/ 623، 630.
(3)
خَ: 6/ 178؛ مَ: 2/ 233.
(4)
مَ: 2/ 1763.
رأس القتيل فلا يزال يصيح: اسقوني، حتى يؤخذ بثأر القتيل. كما كانوا يتشاءمون من شهر صفر ويخافون الكهنة، فنفى النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأوهام قائلاً:"لا عدوى ولا طيرة ولا صفر ولا هامة"(1)، "وإنما الطِّيَرَةُ على من تطيّر" (2). وردَّ على من سأل عن الكهنة فقال:"ليسوا بشيء"(3).
فأنشأ الإسلام بسداد شريعته وحكمته العالية أمة صالحة للاستخلاف في الأرض. ولولا ما أُدخل عليها من تحريف الأفهام وتصديع الأوهام لكانت تاجاً فوق جميع الهام.
ويحصل لمن لا يفقه الشريعة خلط الاعتبارات بالأوهام وهذا باطل. فلكل وصف من هذين موقع ومجال.
فمن الأمور الاعتبارية قوله صلى الله عليه وسلم: "المُصلي يناجي ربه"(4)، تقريباً وتقريراً وتقديراً لفعله. وهذا الأمر في الواقع غيرُ متحقّق؛ لأن الربّ موجود والتقرّب إليه مشروع، واستحضاره عسير لا بد فيه من المعونة بأمر محسوس، ومن الاعتبارات استحضار استقبال القبلة في الصلاة.
ومن هذا القبيل الحقائق التي لا ثبوت لها إلا في الذهن. وذلك ما حوّلته الشريعة إلى الاعتبار كالنية، وحُسن الظن بالمؤمن، ومقام الإحسان الذي صوَّره لنا الشارع بقوله صلى الله عليه وسلم:"أن تعبد الله كأنك تراه"(5). ودخل هذا في التشريعات الاعتبارية؛ لما يقارن هذه
(1) خَ: 7/ 27، 31؛ مَ: 2/ 1732 - 1743.
(2)
حَب: 7/ 642.
(3)
خَ: 7/ 28؛ مَ: 2/ 1750.
(4)
خَ: 1/ 106 - 107؛ مَ: 1/ 390.
(5)
مَ: 1/ 36 - 40.
الحالات من صفات تستقر في النفس فتوحي لمن تخالطه وتلازمه أنها حقائق. ومن الأمور ما تترتّب آثار خفيفة على اعتبارها فيقدر المعدوم كالموجود. ومثال ذلك مِلك المقتول حق القصاص من القاتل قبل وفاته ليصحّ عفوه عن قاتله.
ومن الأمور المعدودة في العادات من الأوهام، واصطلح عليها البشر في عوائدهم، ما أصبح من الفضائل، كستر العورة الذي أقرّه الإسلام وأوجبه. وفي الحديث قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تُحشرون حفاة عراة". فقالت عائشة: يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال: "الأمر أشدّ من أن يهمهم ذلك"(1).
ومن الأوهام والتخيّلات ما يكون جارياً في طرق الدعوة. وهو ليس من الحقائق التي تقتضيها الشريعة أو يطلبها التشريع. وهي وإن استعملت طريقاً لتحصيل علم أو عمل، فهي لا تبلغ في ذاتها أن تكون أمراً مقصوداً حصوله. ومثال هذا قول الله تعالى:{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} (2)، وقوله صلى الله عليه وسلم:"العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه"(3). وإنما ورد التخييل والتشبيه بقصد التشنيع والمبالغة في النهي.
ونَهَى الشرع عن العمل بالوهْم. ورد في الجامع الصحيح للبخاري: عن ابن عباس: أن الناس كانوا يستحيون أن يتخلّوا فيفضوا إلى السماء، فكانوا يثنون صدورهم يستحيون من الله، فأنزل الله فيهم:{أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور} (4).
(1) خَ: 7/ 195؛ مَ: 3/ 2194.
(2)
سورة الحجرات، الآية: 12
(3)
انظر المقاصد: 113/ تع 1.
(4)
سورة هود، الآية:5.