الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد أوضح الإمام الأكبر أن القصد الشرعي من عدم التبذير ومن عدم الإمساك والبخل أن تكون للأمة أموال هي عدّةٌ لها، وقوةٌ لابتناء أساس مجدها والحفاظ على مكانتها، حتى تكون مرهوبة الجانب، مرموقة بعين الاعتبار، غير محتاجة إلى من قد يستغل حاجتها، فيبتز منافعها، ويدخلها تحت نير سلطانه (1).
الزكاة:
من الواجب والفضل إنفاق المال في البر. وأول البر الزكاة.
والزكاة لغة: النماء والريع والزيادة. قال علي بن أبي طالب: المال يزكو بالإنفاق. وترد بمعنى الصلاح كما جاء في قوله تعالى: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً} (2)، وقوله سبحانه:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (3) بمعنى صلح ويصلح. وأطلقت أيضاً على ما يُخرج من حق الله في المال لكونها تطهيراً للمال مما اختلط به من حق الغير. وفي الحديث: زكاة الفطر طُهرة للصائم (4). كما وردت بمعنى التثمير والإصلاح والنماء بالإخلاف من الله تعالى. قال النسفي: سميت الزكاة زكاةً لأنه يزكو بها المال بالبركة ويطهّر بها المرء بالمغفرة (5). ولعل هذا مأخوذ من قوله سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (6).
(1) التحرير والتنوير: 15/ 79.
(2)
سورة الكهف، الآية:81.
(3)
سورة النور، الآية:21.
(4)
هو حديث ابن عباس: "فرض رسول الله زكاة الفطر طُهرة للصائم من اللغو والرفث". دَ: 2/ 262 - 263.
(5)
د/ نزيه حماد. معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء: 149.
(6)
سورة التوبة، الآية:103.
وفي الاصطلاح عرفها الماوردي بقوله: الزكاة عبارة عن أداء حق مخصوص من مال مخصوص، على أوصاف مخصوصة لطائفة مخصوصة. وهي فريضة من فرائض الإسلام وركن من أركانه. قَرَنَها الله بالصلاة في غير ما آية. فهي عبادة لله، وحق معلوم للمحاويج الذين ذكرهم سبحانه في كتابه. وهي محددة المقدار والوعاء والتوقيت والشروط.
وقد حذر الله من الإمساك عن أداء هذا الحق وأنزل في ذلك وعيده بقوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (1).
وفي بيان مصارف هذه الصدقة وتعيين مستحقيها يقول عز وجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (2). وكلمة "فريضة" هنا مصدر يفيد معنى فَرَضَ الله وأَوجب.
وتأتي بعد هذه البشرى للمنفقين المتصدّقين المزكّين الذين استجابوا لربهم: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (3).
ومن الدلائل على تنويه الشرع بالزكاة ورود ذكرها في القرآن الكريم فى نحو اثنتين وثمانين آية. وفي السُّنة في صحيح البخاري وحده سبعةٌ وثمانون باباً حوت نحو سبعة عشر ومائتي حديث.
(1) سورة التوبة، الآية: 34 - 35.
(2)
سورة التوبة، الآية:60.
(3)
سورة التوبة، الآية:101.
وفي سورة التوبة يقول جل وعلا: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1) وفي هذا بيان من الله للناس لما وعدهم به عند أمرهم بالزكاة من تنقية لقلوب المتصدّقين من الآثام، ومغفرة لهم، وشرح لصدورهم، وتنمية للخير بينهم، معقباً ذلك كله بأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالدعاء لهم بتسكين نفوسهم وملئِها طمأنينة وأمناً، واعداً بفيض من بركات الله ورحماته عليهم.
ولعلّ مما يوقع الناس في الضلال والغفلة موازنتُهم السطحية بين سلبية الزكاة المتمثلة فيما ينقص من أموالهم أو يقتطع منها بسببها، وبين إيجابيتها المتمثلة في الزكاء والنماء والطُّهرة والإخلاف والمثوبة من الله لمن بذلها وأدّاها، عن رضا وطواعية.
وقد أبدع في تصوير التعامل مع المال على وجه العموم الإمام الزَّبيدي في حديثه عن الساهين عن الحق الغافلين عن الواجب بقوله: "اعلم أن الله تعالى أوجد أعراض الدنيا بُلغة فاتخذها الناس عُقدة، وصيّر الدنيا مرتحلاً وممراً فصيروها موطناً ومقراً. ومِن وجهِ مِنحة مُنحت للإنسان لينتفع بها مدة ويذرَها لينتفع بها غيرُه من بعده، ومن وجه وديعة في يده رخّص له استعمالُها والانتفاع بها بعد ألا يسرف فيها، لكن الإنسان لجهله ونسيانه لَمَّا عُهد إليه اغترّ بها وظنّ أنها جعلت له هبة مؤبّدة. فركن إليها واعتمد عليها، ولم يؤدِّ أمانةَ الله فيها، ولَمَّا طولب بردّها تضرّر منه وضجر. فلم ينزع عنها إلا بنزع روحه أو كسر يده. وبعضهم - وهُم الأقلون - حفظوا ما عُهد إليهم بها. فتناولوها تناول العارية والمنحة والوديعة فأدّوا فيها الأمانة،
(1) سورة التوبة، الآية:103.
وعلموا أنها مسترجعة. فلما استردت منهم لم يغضبوا ولم يجزعوا، وردُّوها شاكرين لما نالوه، ومشكورين لأداء الأمانة فيها" (1).
هذا وإن الإسلام، الذي هو خاتمُ الشرائع وأكملُها، جاء مسوّياً بين أتباعه. فكلما وجدت ثغرة في بناء المجتمع الإسلامي أو تطرّق إليه خلل ما، وجدنا في هذه الشريعة ما يسدّ الثغرة ويصلح أمر المجتمع.
وفيما نشاهد ونرى في مجتمعاتنا من ضرورات عامة وخاصة ما يقتضي تشريع هذه الزكاة وتوفير الصدقات لعلاج أوضاعها. فالضرورة الحتمية الأولى والمزدوجة هي القضاء على البؤس والفقر، وتحرير الإنسان من عبودية المال بسب ما يعترض سبيله من حاجات لا يقوى على دفعها ولا على التخفيف من حدّتها. وقد شرع الله عز وجل الزكاة لنا. فهي أعظم مؤسسة للتضامن الاجتماعي، وإن في تأدية الزكوات على وجهها إصلاحاً للأوضاع والأخلال في المجتمع، من بطالة وبؤس وفقر ونوائب وكوارث وديون. كما تتمثل أبعاد مشروعيتها في ضمان حاجات الأفراد وضمان استقرار الحياة الإنسانية بينهم.
وإن الشريعة مع ذلك حين تضيّق على الفرد مداخله، وتقتطع من جهده وكسبه، لِتَجتزئ منه شيئاً لصالح إخوانه ينشأ عنه توسيع قاعدة التوزيع، وتحول دون بقاء المال محصوراً في جهة واحدة، وتأمر بأن تتداوله الأيدي فتقوى بذلك الأمة، وتحافظ على كيانها من عوادي الدهر. وما من شك في أن مقادير الزكاة في كل أوعية الصدقات تزيد بزيادة الكسب. وفي هذا دفع للنمو الاقتصادي وزيادةٌ
(1) الزبيدي. إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين: 4/ 4.