الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وذكر الشاطبي في المسألة الثالثة من الطرف الأول من كتاب الأدلة أن الدليل الظنّي إمّا أن يرجع إلى أصل قطعي مثل: "لا ضرر ولا ضِرار"، وإما إلى قواعد كليّة. وذكّر الشيخ ابن عاشور، بأن خبر الآحاد لا يكون قطعياً (1). كما ذكر بأن النهي عن الاعتداء على الغير بشتى الأشكال المادية يقتضي اعتبار المنهي عنه من الجنايات. وهذا في غاية العموم في الشريعة. وهو مما لا شك فيه ولا مراء (2).
ومن أهم ما أكد عليه الإمام من الحقائق أن القصد من عرض القول في قطعيّة علم الأصول التنوّر بأضواء وأفهام سلفنا، لنعلم إمكان استخلاص قواعد تحصل بالقطع أو بالظن القريب من القطع، وإن كانت قليلة.
وأن طلب هذا الغرض الأساس من القطعيّة إنما يحصل بعلم مقاصد الشريعة.
وأن المطلوب والغاية من النظر في هذا كله هو جمع ثلة من القواعد القطعيّة يُرجع إليها عند الاختلاف بين الفقهاء والدارسين، لوضع حد للجدل والمكابرة.
وكذلك نبّه إلى أن لاحتمال قيام المعارضات لشواهد استقراء الفقه أثراً بيّناً في مقدار قوّة ظن المعارض وضعفه، كما هو مقرر في علم الحكمة (3).
المقاصد الأصلية والمقاصد التابعة:
والمقاصد نوعان: أصلية وتابعة.
(1) المقاصد: 146.
(2)
المقاصد: 146.
(3)
المقاصد: 140.
فأما الأصلية فهي التي لا حَظَّ فيها للمكلّف. وهي الضروريات الخمس المعتبرة في كل ملّة، التي بها القيام بمصالح عامة مطلقة. وهذه على ضربين: عينية وكفائية.
فالأولى وهي العينية واجبة على كل مكلف في نفسه. فهو مأمور بحفظ دينه اعتقاداً وعملاً. وذلك بتعلّم ما يدفع به عن نفسه الشُبه التي تُورد عليه، وبحفظ نفسه قياماً بضروريات حياته. وذلك بأن يُجَنّبها ما يُرديها من أسباب الهلاك كالانتحار بأي صورة من الصور، وبحفظ عقله صوناً لمورد الخطاب من ربّه، بتوقّي الأسباب الموجبة لذهابه أو غيابه، وبحفظ نسله حرصاً على بقاء عوضه وخَلَفِه في عمارة هذه الدار، وذلك بعدم وضعه في مضيعة اختلاط الأنساب. ويتوقّى ذلك بصون شهوته بألّا يضعها إلا فيما أذن الله به، وبحفظ ماله استعانة على القيام بتلك الأوجه الأربعة، وذلك بألا يتلفه فيما لا يعود عليه بالنفع إطلاقاً.
وقد نبَّه الشاطبي إلى أن هذه المقاصد الأصلية مسلوب منها حظ المرء لكونه محكوماً عليه في نفسه، كان صار فيها له حظ، فمن جهة ثانية تابعة لهذا المقصد الأصلي (1).
والثانية وهي الكفائية تعني القيام بالمصالح العامة لجميع الخلق. فبها استقامة نظام الأمة وحماية الضروريات. فالمكلف من هذه الجهة مأمور بما لا يعود عليه من جهته تخصيص؛ لأنه لم يؤمر إذ ذاك بخاصة نفسه فقط، بل بإقامة الوجود. ومما يدلّ على كون المقصد الأصلي الكفائي معرىً من الحظ شرعاً، الأمر لمن يقوم به بعدم استجلاب الحظوظ لنفسه كِفاء ما قام به من ذلك. ويفصَّلُ
(1) الموافقات: (3) 2/ 176 - 177.
الشاطبي هذا المعنى بقوله: فلا يجوز لوالٍ أن يأخذ أجرة ممّن تولّاهم على ولايته عليهم، ولا لقاضٍ أن يأخذ من المقضي عليه أو له أجرة قضائه، ولا لحاكم على حكمه، ولا لمفتٍ على فتواه، ولا لمحسن على إحسانه، ولا لمقرض على قرضه، ولا ما أشبه ذلك من الأمور العامة التي للناس فيها مصلحة عامة. ولذلك امتنعت الرشاوى والهدايا المقصود بها نفس الولاية؛ لأن استجلاب المصلحة هنا مؤدًّ إلى مفسدة عامة تضاد حكمة التشريع في نصب هذه الولايات، وعلى هذا يجري العدل بين جميع الأنام ويصلح النظام (1).
وأما المقاصد التابعة فهي التي روعي فيها حظ المكلف من استجابة لفعل الشهوات، والاستمتاع بالمباحات، وسدّ الخلاف، واكتساب ما يحتاجه من ذلك كله. وبهذا الاعتبار تصير المقاصد التابعة خادمة للمقاصد الأصلية ومكملة لها.
وكما رغّبنا سبحانه في حقوقه الواجبة علينا بوعد حَظِيًّ لنا، وعجَّل لنا من ذلك حظوظاً كثيرة نستمتع بها في طريق ما كلفنا به. وهكذا تكون المقاصد الأصلية راعية لما تقتضيه معاني العبودية، وتكون المقاصد التابعة مما اقتضاه لطف المالك بالعبيد (2).
وممّا أوردوا من أمثلة للمقاصد الأصلية والمقاصد التابعة في العبادات والعادات جعلُهم من الأول الذي ليس فيه حظ عاجل مقصود فروضَ الأعيان كالعبادات البدنية والمالية من طهارة وصلاة وصيام وزكاة وما أشبه ذلك.
وجعلُهم من فروض الكفايات الولاية العامة وما تشمله من
(1) الموافقات: (3) 2/ 176 - 179.
(2)
الموافقات: (3) 2/ 178 - 179.
خلافة، ووزارة، ونقابة، وقضاء، وإمامة الصلاة، والجهاد، والتعليم، وغيرها مما شُرع لمصالح عامة.
والقصد الأول من هذه التكاليف العينيّة الكفائية الامتثال لأمر الله والاستجابة لدعوته. وتترتّب على ذلك كلّه مقاصد تابعة. صوّرها لنا الشاطبي بقوله: ففي الصلاة يكون المقصد الأصلي منها إظهار الخضوع لله بإخلاص التوجّه إليه، والانتصاب على قدم الذلّة والصغار بين يديه، وتذكير النفس بذكره. قال تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (1)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن المصلّي يناجي ربه"(2).
ومن المقاصد التابعة ما يشير إلى تطهر المؤمن المصلي من الأدناس بقيامه بفريضة الصلاة لقوله عز وجل: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (3).
ومنها الاستراحة من أنكاد الدنيا لقوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (4)، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أرحنا بها يا بلال"(5).
وكذلك طلب الرزق لقوله جل جلاله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} (6).
وترتفع المقاصد التابعة في المرتبة فتلتحق بالأصليّة متى كانت وسيلة إليها، أو مقارنة لها غير منفكّة عنها.
(1) سورة طه، الآية:14.
(2)
حَم: 2/ 67، 4/ 344.
(3)
سورة العنكبوت، الآية:45.
(4)
سورة الإسراء، الآية:79.
(5)
دَ: 5/ 262؛ حَم: 5/ 364، 371.
(6)
سورة طه، الآية:132.
وممّا فرّقوا به بين المقاصد الأصلية والتابعة جملة من الاعتبارات منها:
(1)
أن الأولى يقتضيها محض العبودية، والثانية يقتضيها لطف المالك بالعبيد.
والضروريات ضربان: ما يؤكدّ الطلب فيه لمخالفته حظّ النفس كالعبادة، والنظر في مصالح الغير.
والضرب الثاني لا يؤَكَّد الطلب فيه لما للمكلّف فيه من حظ عاجل مقصود كقيام الإنسان بمصالح نفسه وعياله في الاقتيات واتخاذ السكن والمسكن واللباس وما يلحق بها من المتمّمات كالبيوع والإجارات والأنكحة وغيرها من وجوه الاكتساب التي تقوم بها الهياكل الإنسانية (1).
(2)
والمقاصد الأصلية إذا رُوعيت كانت أقرب إلى إخلاص المكلّف في عمله، وتجعل من العمل عبادة، تبعده عن مشاركة الحظوظ فلا تدعها تغيِّرُ وجه محضِ العبودية، بخلاف مراعاة المقاصد التابعة؛ فإن المكلّف، وإن كان عمله فيها موافقاً لقصد الشارع لم يخالفه، إلا أنه لم يراعِ ذلك في عمله حتى يكون خارجاً عن داعية هواه. ومقتضى هذا أنه لم يفعل ما فعله التفاتاً لمقتضى خطاب الشارع بل لمجرد حاجته، وداعية شهوته، بقطع النظر عن الخطاب.
(3)
المقاصد الأصلية تكون راجعة إما إلى مجرد الأمر والنهي من غير نظر في شيء سوى ذلك، وإما إلى ما يفهم من الأمر من أنه
(1) الموافقات: (5) 2/ 137 - 139.