الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5 - من صور اختلاف الفقهاء:
(1)
فالصورة الأولى يشهد لها ما نقله الشيخ ابن عاشور عن القرافي في فروقه، من اختلاف العلماء في تصرّفات الرسول صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله. وذلك كقوله صلى الله عليه وسلم:"من أحيا أرضاً ميتة فهي له". فهذا التصرّف التشريعي الذي يفيد إسناد شيء إلى أي أحد من الأفراد لتوفر الشروط فيه، انقسم حوله كبار الأئمة، فبعضهم وهو الإمام أبو حنيفة قال: هذا من التصرّف بالإمامة. فلا يجوز لأحد أن يحيي أرضاً إلا بإذن الإمام؛ لأن الفيئ لا يختص به أحد دون الإمام كالغنائم والإقطاعات. ولقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه".
وخالفه صاحباه وقالا بما قال به مالك والشافعي من أن هذا التصرّف بالفتوى. فيجوز لكل أحد أن يُحيي أرضاً ولو لم يأذن له الإمام. ولم يستثن من ذلك الإمام مالك إلا ما قرب من العمران من أراضي الموات؛ لأن هذه الأراضي تحتاج قبل إحيائها إلى النظر في تحرير حريم البلد. وكل ما كان هذا شأنه يحتاج إلى نظر وتحرير. فلا بد فيه من أحكام (1).
(2)
واختلفوا أيضاً في قوله صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة: "خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف" أهو من قبيل التصرُّف بالفتوى، فيجوز لكل من ظفر بحقه أو بجنسه أن يأخذه بغير علم خصمه به؟ أم هو تصرّف بالقضاء، فلا يجوز لأحد أن يأخذ جنس حقّه أو حقّه إذا تعذّر أخذه من الغريم إلا بقضاء قاضٍ. وأكثر الشافعية يعتبرون هذا من قبيل الإفتاء، لأن القضاء على الغائب لا يصح حتى يكون غائباً
(1) انتصاب الشارع للتشريع. المقاصد: 91 - 92.
عن البلد أو مستتراً لا يقدر عليه. ولم يكن هذا الشرط في أبي سفيان موجوداً. وجعل المالكية في مشهور مذهبهم تصرّف الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة تصرّفاً بالقضاء، ورجّح منهم الأخذ بالحديث اللخميُّ وابن يونس وابن رشد والمازري (1).
(3)
ومثل هذا اختلافهم في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلاً فله سلَبه" فمنهم من جعله من التصرّف بالإمامة. وقال: لا يكون ذلك لأحد بغير إذن الإمام، ولا يكون ذلك من الإمام إلا على وجه الاجتهاد. وقال مالك: لم يبلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يوم حنين. وقال ابن حجر: ذهب الجمهور إلى أن القاتل يستحق السلب سواء قال أمير الجيش قبل ذلك أو لم يقل. وأن هذا فتوى من النبي صلى الله عليه وسلم وإخبار عن الحكم الشرعي (2).
(4)
وكان الاختلاف كبيراً بين العلماء في الاحتجاج بقضايا الأعيان، وبأخبار الآحاد، إذا خالفت القواعد أي الكليات اللفظية أو المعنوية، أو خالفت القياس، أو خالفت عمل أهل المدينة. وهذا من موجبات التحرّي في العمل بخبر الواحد، وبخاصة بعد انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى. واستمر الخلاف بعد ظهور الأئمة المجتهدين وقيام المدارس والمذاهب الفقهية. فكان فريق منهم يأخذ بالاستنباط من ذلك، قاضياً بتحكيم القواعد العامة في التشريع، راداً على ما خالفها من السُّنة، وفريق كان من احتياطه في الأمر عدم التساهل برد الحديث بمجرد عدم موافقته للأصول العامة (3).
(1) انتصاب الشارع للتشريع. المقاصد: 93 - 94.
(2)
انتصاب الشارع للتشريع. المقاصد: 94 - 95.
(3)
عموم شريعة الإسلام. المقاصد: 266.