الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
°
الفلاحة:
هي أقدم الصنائع وهي إثارة الأرض وازدراعها وعلاج نباتها وتعهده بالسقي (1). فثمرة الفلاحة إنماء الأقوات والحبوب إلى بلوغ حصاد سنبله، واستخراج حبه من غلافه، وإحكام الأعمال لذلك وتحصيل أسبابه ودواعيه.
والفلاحة وإن اختصت بالبدو قديماً لهي ذات أهمية كبرى، لأنها محصلة للقوت المكمل لحياة الإنسان غالباً" (2).
ومن ثم نجد في القرآن الإيماء إلى جملة من أنواعها والتنويه بها، كما في قوله عز وجل:{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (3)، وقال جل وعلا:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (4)، وقال جل جلاله:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (5). فالفلاحة بأنواعها والأشجار والزروع، وما تحتاجه من عمل وجهد بالحرث والسقي وحصاد الزرع وجني الثمار، وما خلقه سبحانه لنا في هذا الكون كالليل والنهار والسبات والنشور والرياح اللواقح الرخية، والماء الطهور الذي أنزله تعالى علينا من السماء، وأجراه ينابيع في الأرض لآيات تدل على قدرة الله سبحانه
(1) ابن خلدون. المقدمة: 406.
(2)
المصدر السابق نفسه.
(3)
سورة الأنعام، الآية:141.
(4)
سورة الأعراف، الآية:96.
(5)
سورة الفرقان، الآية: 47، 48.
وخالقيته ووحدانيته وتوجيهه لعباده ليعمروا الأرض التي استخلفهم فيها. ولن يكون منهم ذلك إلا بالعمل والمثابرة عليه والإتقان له.
وتطورت الفلاحة في العصور الأخيرة، وخصّت بالدراسات الكثيرة. وتعدّدت أنواعها، وتضاعفت أهميتها وأصبحت مورداً مدراراً من موارد الرزق خصوصاً بعد ما دخلتها الصناعة. فوفّرت تلك الموارد، مع ما حققته من جودة في الزروع والغراسات، وما قامت به من جهود لحمايتها من الأمراض والعوارض المفسدة لها، وما تخيّرته من مشاتل ومركّبات نوعية لها، عملت على مزاحمتها في الأسواق لكثير من البضائع الأخرى، وجعلتها من أجود ما يقتنى. وهي في عصرنا الحاضر تتطلب جهوداً كبرى مع ما يقبل عليه الناس وتقتضيه الفلاحة بأنواعها الفصلية من حراثة وسماد وجهد غير قليل. وإن البال لمنشغل بها، ويداوم التفكير في تطويرها لمضاعفة الإنتاج. وهكذا أصبحت الفلاحة في هذا العصر تحتاج إلى العديد من الخبراء والعمال الذين يُعنَون بها، وينصرفون إليها طمعاً في الكسب الجيد والرزق الواسع الحسن الذي لا ينقطع بفضل التربة الخصبة وأيدي المهرة من العمال، وأصحاب الخبرة في هذا المجال.
والذي تتأكد ملاحظته في ميدان الفلاحة في بلادنا العربية ثلاثة أشياء هي:
أولاً: أن مساحة الأرض عندنا تأتي ثانية بعد مساحة الاتحاد السوفييتي سابقاً، وأن الأراضي المزدرعة عندنا تبلغ فقط 47،3 مليون هكتار أي نحو 3 % من جملة مساحة أرضنا وهي نحو 3،2 % من كل المساحة الزراعية على وجه البسيطة.
ثانياً: أن الأرض الزراعية من قديم كانت تمثل العمود الفقري
للاقتصاد العربي فيما عدا معظم الأقطار النفطية. وهي، وكأنها قد نشأت بالبلاد العربية، وانتشرت منها إلى بلاد العالم، تشهد لِذلك السدود والقنوات القديمة في بلادنا: بمصر وبلاد الرافدين وديار الشام واليمن السعيد وليبية وأنحاء متفرقة من الجزيرة العربية. وهي اليوم بسبب التحولات والعوارض الطبيعية من جفاف وتصحُّر وأمطار إعصارية ونحوها فقدت نضارتها وتدنَّت ثروتها.
ثالثاً: أن الكثير من شعوبنا بسبب الفقر والجهل بالوسائل الحديثة ما يزال يعتمد الطرائق البدائية في الفلاحة، مبقياً على الزراعة التقلدية المتخلّفة، التي تقوم على الحيوان وعضلات الإنسان. فإن المزاحمةَ الصناعية تهدّدها، وعليها أن تطلب المخصّبات لزراعتها، وتحرص على إيجاد المدخلات الزراعية، وتنشئ من الآلات ما يوفر عليها الطاقة والإنتاج، وتهتم بمكافحة الحشرات الضارة، وتطبيق أحدث المبتكرات العلمية والتكنولوجية كما في البلاد المتطوّرة. وإنما يبدأ هذا بإصلاح الأراضي الزراعية، وإنشاء أطر فنية تكون عنواناً على مدى حضارة الفلاح وقدرته. فوجود الأرض وحدها لا يغني، ولكن رؤوس الأموال والبذل والتحديث والخبرة هي التي تحيي الموات، وتغير وجه الأرض وترفع من مداخيلها وريعها (1).
ولا بد أن نقتبس مما قدمنا توجيهاً وتنويراً. فإن العرب والمسلمين بتداول العصور واختلاف الأوضاع واختلالها أصبحوا عاجزين معدمين، سواء في ذلك أسرهم وأفرادهم، شعوبهم أو جماعاتهم. وقد تفشّى مع العوز والحاجة التشكي مما آلوا إليه. وقامت في وجوههم الصعاب والمشاكل المعقدة. وهذه لمن يشعر
(1) د/ محمد علي الفرا: 53 - 116.
بواجبه ويقدّر نعمة الله عليه بالاستخلاف في الأرض، من أسباب النهضة والحوافز لها، تجيش بذلك مشاعر الفلاح وعقيدته، فيكون هذا طريقاً للحفاظ على دينه وأمانته، ومخرجاً له من كل ضيق، خاصة إذا اتَّحدت القوى، وكان التنسيق، واستولت الإرادة على التدبير لصنع عالم ومجتمع جديدين.
ولعل من دواعي ذلك ما عليه العالم العربي والإسلامي بخاصة، والعالم المحيط به بعامة، من حرص على مضاعفة الإنتاج الغذائي. فإنه يحظى بمقدار أكبر من الاهتمام بجمع رؤوس الأموال في كثير من الأقطار، وتطوير الأرض تطويراً صالحاً ينمي مزارعها، ويمدها بما يحقق لها الخير والنماء. ويكون هذا من العمل الجليل لنفع الناس كافة، وسدّ حاجاتهم. وسبيل ذلك، كما دلت عليه البحوث المعاصرة في مجالات الفلاحة، يعتمد جملة وسائل:
أولاً: توسيع المساحات الزراعية بحُسن إعدادها ومدّها بما تحتاجه من مدخلات الزراعة تنهض بها وتثريها.
ثانياً: تكثيف الإنتاج والزيادة في المحاصيل واعتماد طرق الري الصناعي.
ثالثاً: توسيع المساحات السقوية ومضاعفة الإنتاج عن طريقها.
وفي هذا مقاومة للمجاعة في كثير من الأقطار الإفريقية، واضطلاع بواجبات تفضي إلى تحقيق المقاصد الضروريّة والحاجيّة لكثير من الناس.
ونحن ما نزال نسمع دعاة الأمن والسلم، يحذرون من الإفراط في الشح ومن الإعداد للصراعات والحروب الفتاكة، إذ بسبب ذلك تركت الميادين المحتاجة للإنفاق، بعيدة عن القيام بدورها في تغذية