الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وختم الشيخ هذا البحث بذكر موقف داود الظاهري ومقاتل بأن الطلاق ثلاثاً بلفظ واحد لا يقع طلاقاً بالمرة لأن القرآن اقتصر على ذكر الطلاق المفرق. وردَّ هذا الموقف ووصفَه بالشذوذ والبطلان، وجعل من دلائل إبطاله إجماع المسلمين قاطبة على وقوع الطلاق به، خصوصاً وقد وقع التلفّظ به (1).
* * *
المثال الرابع: مثال من كتاب النظر الفسيح: حديث الوصيّة
حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: أوُصي بمالي كلِّه؟ قال: "لا"، قلت: فالشطر؟ قال: "لا"، قلت: فالثلث؟ قال: "فالثلث، والثلث كثير. إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالةً يتكفّفون الناس"(2). ورَوَى الحديث مالك عن ابن شهاب عن عامر بن سعد عن أبيه بلفظ: "جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجّة الوداع من وجع اشتدّ بي. فقلت: يا رسول الله قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي. أفأتصدّق بثلثي مالي؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا". فقلت: فالشطر؟ قال: "لا". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الثلثُ والثلث كثير. إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكفّفون الناس" (3).
ويتّضح من الروايتين الاختلاف في تقدير الوصية بدءاً والاتفاق عليها وسطاً وآخراً.
(1) التحرير والتنوير: 2/ 414 - 420.
(2)
النظر الفسيح: 108 - 109؛ خَ: كتاب الوصية، 2 باب أن يترك ورثته أغنياء:55.
(3)
طَ: 2/ 763.
ومن المناسب أن نذكّر هنا بأن النظر الفسيح وكشف المغطّى ليسا سوى ملاحظات وتقييدات على شروح صحيح البخاري وشروح موطأ الإمام مالك التي وقف عليها الشيخ ابن عاشور عند تدريسهما بجامع الزيتونة. فهي إفادات اقتضاها النظر، ودعت إلى إبرازها مهمّة التدريس. وإنا لنجده في عمله هذا يعني في أول ما يعني به بالأحكام المستنبطة من أحاديث ذينك المصدرين يحرّرها، ويذكر أدلّتها، ويتولّى نقدها وتصحيحها من أجل الاطمئنان إليها، والتوصل من وراء ذلك إلى إدراك مقاصد الأحكام الشرعية إدراكاً تاماً. وذلك على حسب ما وقع التنبيه إليه في مستهلّ حديثنا عن الخطاب الشرعي.
صدّر الشيخ تعليقه على هذا الحديث بذكر حكم الوصية الجائزة. وهو إجماع الفقهاء على رد ما زاد على الثلث. ولكنه أضاف إلى هذا مقولة ابن عباس التي أوردها البخاري. وهي: لو غضَّ الناسَ إلى الربع (1). ولعلّ ممّا حمل ابن عباس على استكثار الثلث جَعلُه أقصى ما يتصرّف فيه ذو المال بالوصية، وقوله صلى الله عليه وسلم:"والثلث كثير". وردَّ الشيخ ابن عاشور هذا الرأي، وإن نُسب إلى ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، واعتبر استدلاله به مشكلاً لانفراد حديث سعد بتقدير الثلث غايةً قصوى. وعدم ورود أثر آخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على تعميم التشريع في هذا الباب، ولإعلان حديث الباب ردّ ما زاد عن الثلث. ثم إن سبيل ورود هذا الحديث هو مقام الاستشارة في قضية عين، يدل على ذلك حطّ الرسول صلى الله عليه وسلم من الوصيّة بعد الحوار الذي كان بينه وبين سعد.
والحكمة من هذا التشريع - كما يظهر من النصّ نفسه -
(1) ابن حجر. الفتح: 5/ 369، ح 2743.
الحيلولةُ دون أن يُصبح الورثة بما حرموه عالة يتكفّفون الناس. وفي هذا إضرار بهم. وهو منهي عنه بصريح القرآن في قوله عز وجل: {غَيْرَ مُضَارٍّ} (1). وقد فصّل صاحب الكشف أنواع الإضرار بقوله: ويظهر أن ملاك جواز الوصية هو ما لا يضرّ بالورثة من تركهم في حاجة، أو قصدُ حرمانهم وإبعادهم عن ماله، كما يفعل بعض المغرضين، إلا أن ضبط ذلك ليس بالأمر السهل. فلعل عُسرَ انضباطه هو الذي حمل العلماء على المصير إلى إشارة النبي صلى الله عليه وسلم مع اعتبار المال في حالة المرض المخوف قد صار فيه حق الوارث. وسماح الوارث بحقه متفاوت بتفاوت سخاء النفوس.
ومن هذا الحديث نشأت أحكام أخرى هي:
أولاً: أن تكون الوصية بالثلث لا تزيد عليه جائزة في حال فقر الوارث، وهذا الحكم محل وفاق بين العلماء.
ثانياً: إذا كان الزائد على الثلث محتملاً ومتفاوتاً ألغى الفقهاء تفاوته وتفاوت أحوال الورثة لعسر الانضباط.
ثالثاً: اعتبار باب إجازة الوارث مفتوحاً يتحقق به مقدار سماح الوارث، غير أن الظاهرية قالت بإبطال ما زاد على الثلث. وهذا من الخطأ البيّن.
ومن المقاصد الشرعية في إجازة الوصيَّة ما هو معلوم عند الكافّة من أن النظام البشري قائم على أواصر كثيرة. أعلاها منزلة آصرة القرابة والزوجية. فكان هذا موجباً لانتقال مال الميت بعده إلى هذه العناصر من أسرته، تأكيداً لتلك الروابط ودعماً لها.
(1) سورة النساء، الآية:12.