الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: قضايا أصولية وكلامية
قطعيّة أدلةِ علم أصول الفقه وظنّيّتها:
يتحدّث الإمام الأكبر عن هذه القضيّة عند كلامه على إمام الحرمين عبد الملك الجويني وكتابه البرهان. ويُظنّ أن إمام الحرمين قد تأثّر فيما ذهب إليه بكلام أبي الحسين البصري. فكان الجويني من المتمسَّكين بقطعيّة أدلّة علم أصول الفقه، محتجّاً بأدلة كثيرة منها:"أن حظّ الأصولي إبانة القواطع في وجوب العمل بها، ولكن لا بد من ذكرها ليتبيّن المدلول ويرتبط بالدليل". وعقّب الشيخ ابن عاشور على هذا الاعتذار بكونه اعتذاراً واهياً قائلاً: "إنا لم نرَهُمْ دوّنوا في أصول الفقه أصولاً قواطعَ يمكن توقيف المخالف عند جريه على خلاف مقتضاها كما فعلوا في أصول الدين، بل لم نجد القواطع إلا نادرة مثل ذكر الكلّيات الضرورية. وما عدا ذلك فمعظم أصول الفقه مظنون"(1).
وتبع الإمامَ الجويني على رأيه الأبياري. وتصدّى ابن عاشور له، وأسقط دعواه التي يزعم فيها، نقلاً عن صاحب البرهان: أن مسائل الأصول قطعيّة، ولا يكفي فيها الظن، ومدركها قطعي، ولكنه ليس المسطورَ في الكتب، بل معنى قول العلماء إنها قطعيّة أن مَن
(1) المقاصد: 18.
كثر استقراؤه واطلاعه على أقضية الصحابة ومناظراتِهم وفتاواهم وموارد النصوص الشرعيّة ومصادرها حصل له القطع بقواعد الأصول. ومتى قصر عن ذلك لا يحصل له إلا الظنّ. وهذا الجواب باطل، لأنّنا بصدد الحكم على مسائل علم أصول الفقه لا على ما يحصل لبعض علماء الشريعة (1).
وأضاف صاحب المقاصد إلى النزاع في هذه القضية الخلافية بيانَ سبب اختلاف الأصوليين. فجعله الحيرة بين ما ألِفوه من أدلة الأحكام، وبين ما راموا أن يصلوا إليه من جعل أصول الفقه قطعيّة كأصول الدين (2).
والحقيقة التي نريد الانتهاء إلى تقريرها هي أن الأدلّة من علم أصول الفقه أمرُها معروف ومشهور عند طلاب العلم. فمجموع علماء الشريعة قائلون بحجية النصوص من القرآن والسُّنة لقوله صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي أبداً كتابَ الله وسُنَة نبيه"(3). ونصوص القرآن متواترة الرواية ظنيّة الدلالة، وكذلك نصوص السُّنة التي وإن كان أكثرها من خبر الآحاد. فقد جاء فيها عن الإمام أحمد قوله: لا يقدَّم عليها (على نصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم) توهُّم إجماعٍ، مَضمونُه عدمُ العلم بالمخالف (4). فلا اجتهاد مع النصّ، ولا رأيَ لأحد بجانب كتاب الله وسُنة رسوله. والحجة في الكتاب والسُّنة، وعلى الأئمة ترك أقوالهم لها.
(1) المقاصد: 20.
(2)
المقاصد: 22.
(3)
ورد الحديث بصيغ متقاربة. طَ: 2/ 899؛ جَهَ: 1/ 84، 1025؛ حَم: 3/ 26.
(4)
ابن القيم. إعلام الموقعين: 1/ 60.