الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ورغم أهمية القياس في التشريع واعتماده أصلاً من الأصول عند الأكثر، تباينت فيه بعض مواقف المتكلّمين وعلماء الأصول والفقهاء، وظهر ذلك في انقسامهم إلى مثبتين للعمل به، وإلى منكرين له مانعين منه.
فالمذهب الظاهري هو متمسَّك نفاة القياس. وهو القائل بشمول النصوص وإغنائها عن القياس. وإنما أخذ بالقياس أهل الرأي الذميم الذين بنوا أحكامهم على القول في دين الله بغير علم (1)، وظنّوا أن النصوص قاصرة عن بيان جميع الحوادث، وأنها غير وافية بالأحكام ولا شاملة لها، وهم لا يقدرون على استجلائها والاستنباط منها، فقطعوا على الله بالظن. وكلا الأمرين مما حرمه الله علينا. قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (2)، وقوله:{وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (3).
أما أهل الرأي السليم فهم الذين ناصروا المجتهدين كمناصرة المزني لجماعته المثبتين للقياس بقوله: إن الفقهاء من عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا وهلم جرّاً، استعملوا القياس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم .. وأجمعوا بأن نظير الحق حق، ونظير الباطل باطل، فلا يجوز لأحد إنكار القياس لأنه التشبيه والتمثيل.
إصرار ابن حزم على رأيه واستدلاله على صحّة موقفه:
أمعن ابن حزم في إنكار التعليل والقياس، وناقش مخالفيه في
(1) ابن القيم. إعلام الموقعين: 1/ 430 - 432؛ الأحكام: 7/ 929.
(2)
سورة الأعراف، الآية:32.
(3)
سورة النجم، الآية:28.
كتابه الإحكام في أصول الأحكام، وجعل الفعل أهمَّ دليلٍ له في الغرض لقوله تعالى:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (1). وخلاصة مذهبه قوله: أخبر تعالى بالفرق بيننا وبينه، وأن أفعاله لا يجري فيها لِمَ؟. وإذا لم يُحِلّ لنا أن نسأله عن شيء من أحكامه وأفعاله: لماذا كان هذا؟ فقد بطلت الأسباب جملة، وسقطت العلل البتة، إلا ما نص الله تعالى عليه أنه فعل أمر كذا لأجل كذا، وهذا أيضاً مما لا يُسأل عنه. فلا يحلّ لأحد أن يقول: لم كان هذا السبب لهذا الحكم، ولم يكن لغيره؟. ولا أن يقول: لِمَ جُعل هذا الشيء سبباً دون أن يكون غيره سبباً أيضاً؟ لأن في فعل هذا السؤال عصياناً لله، وإلحاداً في الدين، ومعارضة لقوله سبحانه:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} فمن سأل الله عما يفعل فهو فاسق. فوجب أن تكون العلل كلها منفية عن الله ضرورة (2).
ولم يتكلّف الشيخ ابن عاشور كبير جهد لإبطال الاستدلال بالآية، واكتفى بالتنبيه على أن سياق الآية هو إثباتُ التوحيد وتفنيدُ الشرك. وأنَّ تقَدُّمَ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} على {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} اقتضته مناسبة الحديث عن تنزهه سبحانه عن الشركاء. والسؤال هنا بمعنى المحاسبة، وطلب سبب بيان الفعل، وإبداء المعذرة عن فعل بعض ما يفعل، وتخلّص من ملام أو عتاب على ما يفعل (3). وعلى هذا لا يمكن تعميم عدم السؤال ليتوصّل إلى البحث عن علل الأحكام الشرعية.
وإنما اختلف العلماء بعد ذلك في القياس في الأمور الشرعية. فانصرف الجمهور إلى أن التعبّد بالقياس جائز عقلاً، واجبٌ العملُ به شرعاً.
(1) سورة الأنبياء، الآية:23.
(2)
ابن حزم. الإحكام: 8/ 102 - 103.
(3)
التحرير والتنوير: 17/ 45 - 46.