الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتوسع جمهور الفقهاء فأطلقوه على ما يشمل الحقوق المقوّمة والمنافع جميعاً. فهو يطلق على كل ما له قيمة مادية بين الناس، وجائز الانتفاع به انتفاعاً مشروعاً حال السعة والاختيار (1). وهذا احترازاً من الخمر والنجاسات والخنزير.
وعرّفه الشيخ ابن عاشور بتعريفين خاصًّ وعامًّ. ذكر الأولى في تفسيره لقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (2) قال: هو ما بقدره يكون قدر إقامة نظامِ معاشِ أفرادِ الناس، في تناول الضروريّات والحاجيّات والتحسينيّات بحسب مبلغ حضارتهم، حاصلاً بكدْح (3). وذكر التعريف الثاني وهو العام الذي لا يتعلق بمداخيل الفرد فحسب، قائلاً والمال الذي يدال بين الآحاد هو على وجه الجملة حق للأمة عائد عليها بالغنى عن الغير. وبناء على هذا الاعتبار تكون للمال أنواع متعددة. فالمال الذي يقام به نظام المعاش ثلاثة أنواع على ما فصّله الإمام الأكبر (4).
°
أنواع المال:
منه ما تحصل به إقامة نظام المعاش بذاته دون توقّف على شيء آخر من غيره. وهذا كالحبوب والأطعمة والثمار. وكذلك الحيوان فيما أذن لنا بأكله، والانتفاع به: بصوفه وشعره، ولبنه وجلوده. قال تعالى:{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (5)، وقوله: {وَالْأَنْعَامَ
(1) د/ أحمد الحصري. السياسة الاقتصادية والنظم المالية في الفقه الإسلامي: 471.
(2)
سورة البقرة، الآية:188.
(3)
التحرير والتنوير: 2/ 187.
(4)
التحرير والتنوير: 2/ 188 - 189.
(5)
سورة الحج، الآية:28.
خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1)، وقوله:{يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (2).
وهذا النوع من الرزق هو أعلى أنواع الأموال وأثبتها. ومنافعه حاصلة به من غير توقف على أحوال المتعاونين على كسبه، ولا على ما جرى به اصطلاح التنظيم له بين الناس.
والنوع الثاني: ما يحصل ويكمل به نظام العيش. وهذا كالأرض للزرع وللبناء عليها، والنار للطبخ والإذابة، والماء لسقي الأشجار، وآلات الصناعات لصنع الأشياء من الخشب والصوف ونحو ذلك. وهذه الأشياء التكميلية قد تكون بأيدي أناس يضنُّون بها، وربما حالت دون نوالها موانع من حرب أو خوف أو وعورة طريق أو غير ذلك. وهي دون شك ذات أهمية بالغة. وإليها يرجع مَوْردان من الموارد المالية هما الفلاحة والصناعة.
والنوع الثالث: هو ما تحصل إقامة العيش به مما اصطلح البشر على جعله عوضاً عما يراد تحصيله. وهذا كالنقد والعملة مما هو متوافر اليوم، وكالمعاوضات التي كان يحصل بها التبادل والتعاون للاكتساب والتملك قديماً، كما تَبرز صورة ذلك في أنواع التجارات والمعاوضات التي ضبطتها الشريعة الإسلامية بقوانين فقهية وأحكام استنبطها العلماء من أئمة وفقهاء في كل عصر من مصادر التشريع الإسلامي المختلفة المتنوعة وهو ما أدّى بهم إلى تفصيل القول فيها
(1) سورة النحل، الآية: 5 - 8.
(2)
سورة النحل، الآية:11.
لإناطة الأحكام بها فيما اعتبره الشارع من المقاصد جالباً للمصالح ودارئاً للمفاسد.
ولا بدع في ذلك فإن المال جميعه، الذي بأيدي الناس، هبة من الله لهم، تقتضي شكرَ المنعم، والامتثالَ لمنهجه وأحكامه التي وَجَّه بها عباده للقيام بواجباتهم تحصيناً ووقاية للإنسان من الأمراض الخُلقية والسلوكية المزمنة. وبقدر ما تحدّث القرآن الكريم والسُّنة النبوية الشريفة عن الأنواع المختلفة للمال تكسباً وامتلاكاً في مجالي المعاوضات والتبرعات، فإن الإسلام يصرف المسلمين عن اتخاذ المال هدفاً لذاته، ويأمرهم بالسعي إلى تحقيق المقصد الشرعي منه بما سخره الله لنا في السموات والأرض، فنفيد منه ونستخدمه استخداماً صالحاً كريماً، من أجل إشباع حاجاتنا وحاجات مجتمعاتنا، ضمن الإطار الديني العام وتعاليم الإسلام، ووفقاً للمفهوم الأساس للاقتصاد الإسلامي الرشيد.
وفي الآيات الكريمة أحكام للمعاملات تنظم حياة الناس وتقيهم الظلم والعدوان في المكاسب.
من ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1)، وقوله سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (2).
وفي الآيتين تحذير للناس من التجرؤ على أكل المال بالباطل، أي ظلماً ومن غير وجه حق، إلا أن تكون الأموال عن تجارة. فإنه يُحصَل عليها بالتبادل بين الطرفين وعن طيب نفس، ولقصد المتصدّي
(1) سورة البقرة، الآية:188.
(2)
سورة النساء، الآية:29.