الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد ذمّ القرآن هذين النوعين في الرجال والنساء، ورغّبَ عنهما الشارع. فالسفاح والمخادنة من البغاء. ويدخلان في الأنكحة الباطلة والمحرّمة. وهي التي تخالطها المذام، أو تحفّ بها آثار قبيحة (2).
وإنما عنيت الشريعة بأمر النكاح وحده دون بقية العلاقات التي حُكمُها الهجرُ والبطلان، فجعل من غايتها قَصْرَ الأُمَّةِ عليه لكونه أسمى مقاصدها؛ ولأن النكاح جِذم نظام العائلة. والقصدُ الشرعي من اعتباره هو جَعْلُه العلاقة الوحيدة الموثوق بها في اختصاص الرجل بالمرأة أو بنساءٍ هُنَّ قرارات نسله حتى يثق من جراء ذلك الاختصاص بثبوت انتساب نسلها إليه (3).
آصرة النكاح:
والنكاح الشرعي هو الذي تنبني على أساسه العائلة. وقد صوّر لنا ذلك الإمام الأكبر بقوله: هو أصل تكوين النسل، وتفريع القرابة بفروعها وأصولها. واستتبع ذلك ضبطَ نظام الصهر. فلم يلبث أن كان لذلك الأثرُ الجليل في تكوين نظام العشيرة فالقبيلة فالأمة. فَمِن نظام النكاح تتكون الأمومة والأبوة والبنوة. ومن هذا تتكون الأخوة وما دونها من صور العصبة. ومن امتزاج رابطة النكاح برباط النسب
(1) سورة المائدة، الآية:5.
(2)
المقاصد: 422 - 423.
(3)
المقاصد: 424.
تحدث رابطة الصهر. وهكذا جاءت شريعة الإسلام مهيمنة على جميع الشرائع. فكانت الأحكام التي شرعها الله للعائلة أعدلَ الأحكام وأوثقَها وأجلَّها (1).
ويتم النكاح بالعقد ويزيده هذا تشريفاً وتنويهاً، إذ المقصد الديني منه، حُرمتُه في نفوس الأزواج، وفي نظر الناس عامة. ينطق بهذا المقصد الشريف قوله سبحانه:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (2). وكذا الإيجاب والقبول فهما أساس العقد الذي يشهد "بالتعبير" عن رضا المرأة ورضا أهلها بذلك القِران، والحرصُ على تحقيقِ حُسن قصدِ الرجل مع زوجته، بما يُترجم عنه سلوكهُ وعمله على دوام المعاشرة، وعلى إخلاص المحبّة بين الطرفين.
ولتقرير العقد وإعطائه ما يستحقّه من الثبوت والدوام اشترط جمهور فقهاء الأمصار أن يتولّى أمره الوليّ. وورد من الأحاديث الشريفة: "لا نكاح إلا بولي"(3).
وصرّح جمعٌ من الفقهاء بأن الآيات وكذلك السُّنن التي جرت العادة بالاحتجاج بها في هذا المقام مُحتمِلةٌ كلُّها لم يثبت منها سوى حديث ابن عباس: "الأيم أحقُّ بنفسها من وليّها، والبكر تستأمر في نفسها، وإذنها صماتها"(4).
ويتم النكاح ويُبَرمُ عَقدُه بشرطِ أن يبذل الرجل لزوجته مهراً يسمّيه لها. ولا يُعتبر المهر عوضاً عن البضع. فهو ليس ثمناً كما كان
(1) المقاصد: 420.
(2)
سورة الروم، الآية:21.
(3)
دَ: 2/ 568؛ تَ: 3/ 407؛ دَي: 2/ 459.
(4)
الشوكاني. نيل الأوطار: 6/ 252.
يتصوّره أهل الجاهلية في الأزمان القديمة البعيدة، لأن العقد في تصوّرهم شبه تمليك. وهو ليس أجراً للمنفعة المنضبطة عند الفقهاء. وتكون المنفعة المقصودة من العَقد غيرَ قابلة لتحديده، ولكنه العطيّة المحضة أو النِحلة كما سماها القرآن في قوله تعالى:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (1)، وقوله:{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (2). وفي هذه الآية تأكيد لما اشتهر بين الفقهاء من أن النكاح مبني على المكارمة، بخلاف البيع فهو مبني على المكايسة (3).
وعلّل الشيخ ابن عاشور هذا الشرط في العقد بألا تفقد المرأة خفرها، وتتولّى بذاتها الركون إلى الرجل دون علم ذويها. فالمرأة حين يتولّى وليُّها الأقربُ أو الأبعدُ، الخاص أو العام، تزويجَها يتّضح القصد الشرعي من اشتراط الولي في العقد، وهو أن يكون عوناً على حراسة جمالها وحصانتها، وأن تكون عشيرتُه وأنصاره وعائلته وجيرانُه عوناً له في الذبِّ عن ذلك (4).
وذهب أبو حنيفة دون صاحبيه إلى ذلك في نكاح الصغير والمجنون والرقيق لا في الحرّة البالغة بكراً كانت أو ثيّباً؛ لأن النكاح ينعقد برضاها، ولأن لها التصرّف في خالص حقها، وهي من
(1) سورة النساء، الآية:4.
(2)
سورة النساء، الآية:20.
(3)
المكايسة في اصطلاح الفقهاء: عَقد معاوضة على غير منافع ولا مُتعةِ لذَّةٍ، ذو مكايسة، أحدُ عوضيه غير ذهب ولا فضة، معيّنٌ غير العين فيه. الرصاع. حدود ابن عرفة: 1/ 326.
(4)
المقاصد: 426.
أهله. ورجع إلى رأي الإمام صاحبُه أبو يوسف وهو الصحيح، كما ذكر ذلك الإسبيجابي. ورُوي أيضاً رجوعُ محمد بن الحسن الشيباني إلى مقالة إمامه. قال ذلك المحبوبي والنسفي (1).
ومن المقاصد الشرعية ذكر المهور وتسميتها في العقد. فلا يُغفل عما كتبه الله للزوجات من حقوق. قال الشيخ ابن عاشور: إن محاسن المرأة نعمةٌ من الله منَّ بها عليها، وخوَّلَها حقَّ الانتفاع بها من أجل رغبات الرجال في استصفائها. ويتأكد هذا المقصد الشرعي بما نبهت عليه الشريعة من أن يكون صداق المرأة مناسباً لنفاستها. فجمال المرأة وخلقها هما من وسائل رزقها. ولهذا لم يكن للوصي ولا للسلطان تزويج اليتيمة بأقلّ من مهر مثلها (2).
واشترطوا لصحة النكاح الشهرة أو الإشهار تأكيداً لحصانة المرأة، ولأن الشهرة تحث الزوج نفسه على مزيد الحصانة لزوجه. ونكاح السرّ باطل في بعض المذاهب. وهو يقرِّب صاحبَه من الزنا، ويحول بين الناس وبين الذبّ عنه، ويعرّض النسل إلى اشتباه أمره، ويُنقص من معنى حصانة المرأة (3).
وحَرُم نكاحُ الشغار لخلوّه من المهر. ولا يلتبس عليك ما يشبهه من الصور الجائزة والنافذة شرعاً. وحَرُم نكاح المتعة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه يوم خيبر (4). وكذا كل عقد نكاح دخله التوقيت والتأجيل. فإن ذلك يقرّبه من عقود الإجارات والأكرية، ويخلع عنه المعنى المقدس الذي تطمئن له نفس الزوجة، من نية كليهما أن
(1) الميداني. اللباب في شرح الكتاب: 3/ 8.
(2)
المقاصد: 428.
(3)
المقاصد: 429.
(4)
خَ: 5/ 78، 6/ 129.