المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول: مقدمات في الاجتهاد - مقاصد الشريعة الإسلامية - جـ ٢

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌بَيْنَ عِلْمَيِّ أصُوْل الْفِقْهومَقَاصِد الشَّرِيْعَةِ الإسْلاميَّةِ

- ‌المقدمة

- ‌التمهيد لمقاصد الشريعة

- ‌الباب الأولقضايا ذات صلة بالفقه وبعلمي أصول الفقه ومقاصد الشريعة الإسلامية

- ‌الفصل الأول: بين الفقه وأصول الفقه ومقاصد الشريعة

- ‌ الفقه

- ‌علم أصول الفقه:

- ‌علم مقاصد الشريعة:

- ‌الفصل الثاني: قضايا أصولية وكلامية

- ‌قطعيّة أدلةِ علم أصول الفقه وظنّيّتها:

- ‌من أسباب ظنّية علم الأصول:

- ‌أ - الأحوال العارضة للنصوص:

- ‌اختلاف أنواع الدلالة:

- ‌أنواع المفاهيم:

- ‌تباين المحكم والمتشابه:

- ‌خبر الآحاد:

- ‌الإجماع وأنواعه:

- ‌ب -‌‌ التعليل، والعلة، والتعبّدي:

- ‌ التعليل

- ‌العلَّة:

- ‌شروط العلة:

- ‌التعليل عند المتكلمين:

- ‌رد الشيخ ابن عاشور على الأشاعرة:

- ‌الوجوب والغرض:

- ‌رد الجويني على الأشاعرة:

- ‌الأصوليون والتعليل:

- ‌العول:

- ‌أهميّة التعليل:

- ‌إصرار ابن حزم على رأيه واستدلاله على صحّة موقفه:

- ‌التعبّدي:

- ‌حكم القياس:

- ‌العمل بالقياس:

- ‌القياس بين المثبتين والنُّفاة:

- ‌مجالات الإثبات والإنكار للقياس:

- ‌القياس عند الظاهرية:

- ‌حجية القياس: أدلة المثبتين:

- ‌أدلة نفاة القياس:

- ‌الباب الثانيمع روّاد علم أصول الفقه وعلم مقاصد الشريعة

- ‌الفصل الأول: من طلائع الأصوليين وعلماء المقاصد

- ‌1 - الجويني: البرهان:

- ‌2 - الغزالي: شفاء الغليل، المنخول، المستصفى:

- ‌3 - العز بن عبد السلام: القواعد:

- ‌4 - القرافي: الفروق:

- ‌الفصل الثاني: موضوعات من علم المقاصد في كتب جماعة من الفقهاء

- ‌(1) المقاصد وكتاب الفروق للإمام القرافي:

- ‌الموضع الأول: انتصاب الشارع للتشريع:

- ‌الموضع الثاني: الحقوق وإسقاطها:

- ‌الموضع الثالث: نوط الأحكام الشرعية بمعانٍ وأوصاف لا بأسماء وأشكال:

- ‌الموضع الرابع: سدّ الذرائع:

- ‌الموضع الخامس: نفوذ الشريعة:

- ‌(2) المقاصد وكتاب نفائس الأصول:

- ‌(3) المقاصد وكتاب تنقيح الفصول:

- ‌الشاطبي وكتاب الموافقات:

- ‌ رأي ابن عاشور في عمل الشاطبي

- ‌تأييد ابن عاشور للشاطبي في بيان قصد الشارع من التكليف:

- ‌انصباب تكاليف الشريعة على العبادات والمعاملات والعادات:

- ‌مناقشة الشاطبي قوله بقطعيّة الأدلة:

- ‌تعريف الشيخ ابن عاشور بأنواع المصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا:

- ‌تقسيم التكاليف إلى عزائم ورخص:

- ‌التحيّل:

- ‌الفصل الثالث: المقاصد العامة والمصالح

- ‌الفطرة:

- ‌السماحة:

- ‌ المساواة

- ‌موانع المساواة:

- ‌الحرية:

- ‌تشوف الشارع للحرية:

- ‌تعريف المصلحة والمفسدة:

- ‌المصلحة والمفسدة محضتان خالصتان ومشوبتان مختلطتان:

- ‌الفصل الرابع: ضوابط المقاصد وأقسامها

- ‌القسم الأول من المقاصد:

- ‌المقاصد بين كلية وجزئية:

- ‌المقاصد بين قطعيّة وظنيّة:

- ‌المقاصد الأصلية والمقاصد التابعة:

- ‌المقاصد والوسائل:

- ‌الفصل الخامس: بحث المقاصد في أطراف الكتاب

- ‌الباب الثالثفي إثبات مقاصد التشريع الإسلامي وحاجة الفقهاء إلى معرفتها والوقوف عليها

- ‌توطئة

- ‌الفصل الأول: منهج السلف في طلب مقاصد الشرع من الأحكام

- ‌الفصل الثاني: الأنحاء الخمسة لتصرّفات الفقهاء في طلب المقاصد

- ‌الفصل الثالث: من طرق إثبات المقاصد الشرعية

- ‌الفصل الرابع: في القواعد الشرعية

- ‌الكليات:

- ‌الطريق الممهِّدة للتعرّف الدقيق على المقاصد وتعيينها:

- ‌القواعد والضوابط لمعرفة الأحكام وتعيين المقاصد:

- ‌الباب الرابعأمثلة للمقاصد مستخرجة من كتب المؤلف:

- ‌الفصل الأول: أمثلة للمقاصد الشرعية المستخرجة من التحرير والتنوير

- ‌المثال الأول: النبي الأمي صلى الله عليه وسلم

- ‌الْمَعْرُوفِ}

- ‌الطيبات:

- ‌الرحمة:

- ‌المثال الثاني: ضرب المرأة:

- ‌المثال الثالث: الطلاق ثلاثاً بلفظ واحد:

- ‌المثال الرابع: مثال من كتاب النظر الفسيح: حديث الوصيّة

- ‌المثال الخامس: مثال من كتاب كشف المُغطَّى: حديث بيع الخيار

- ‌الباب الخامسمنهجية الشيخ ابن عاشور في كتاب المقاصد

- ‌الفصل الأول: أسس النظر في المقاصد والأحكام

- ‌الإسلام حقائق لا أوهام:

- ‌من صفات الشريعة رفع خلط الاعتبارات بالأوهام:

- ‌الخطاب الشرعي أو النصوص التشريعية:

- ‌الفصل الثاني: منهج الشيخ ابن عاشور في تقريراته وفي تناوله لبعض متممات الخطاب

- ‌التفصيل والتقسيم:

- ‌الضوابط والشروط:

- ‌التقرير والتقعيد:

- ‌الأسباب:

- ‌إعمال النظر الشرعي طلباً لتحديد الأحكام:

- ‌الاستدلال:

- ‌المقام والسياق:

- ‌الاستقراء:

- ‌تنوُّع الأحكام بين التعبّدي والمُعلَّل:

- ‌تعقيبات الإمام ابن عاشور ومناقشاته:

- ‌الفصل الثالث: مع فقهاء الشريعة الإسلامية

- ‌1 - التضييق في الرخص:

- ‌2 - تعارض الروايات:

- ‌3 - الإجماعُ:

- ‌4 - اختلاف الفقهاء:

- ‌5 - من صور اختلاف الفقهاء:

- ‌توجيه وتنبيه:

- ‌التنبيهات:

- ‌6 - المقادير:

- ‌7 - المصطلحات الشرعية:

- ‌من المصطلحات:

- ‌المنهج:

- ‌المسائل والأحكام في "مقاصد الشريعة الإسلامية

- ‌القواعد والمقاصد باعتبار ما ينبني عليها، أو ما تدعو إليه من ترتيبات وتصرفات:

- ‌القسم الأول: يتضمن جملة من القواعد والمقاصد:

- ‌القسم الثاني: استنباط الأحكام من القواعد العامة:

- ‌القضاء بالعوائد:

- ‌الأوصاف الطردية:

- ‌ترجيح المصلحة الكبرى:

- ‌العمل بالمصلحة المرسلة:

- ‌القسم الثالث: موضوعات ذات صلة بالأصول والمقاصد للإمام عليها ملاحظات أو له بشأنها اقتراحات:

- ‌الباب السادسمصادر التشريع

- ‌الكتاب:

- ‌السُّنة:

- ‌الإجماع:

- ‌القياس:

- ‌أنواع القياس:

- ‌أقيسة الاستدلال:

- ‌جريان القياس:

- ‌المصلحة المرسلة:

- ‌الاستحسان:

- ‌سدّ الذرائع:

- ‌الحيلة:

- ‌أركان الحيلة:

- ‌أنواع التحيّل:

- ‌الباب السابعتوجه الأحكام التشريعية إلى المعاملات وتعيين الحقوق لأنواع مستحقيها

- ‌توطئة

- ‌الفصل الأول: الحقوق وأنواعها

- ‌تعيين مستحقي الحقوق يرفع أسباب النزاع:

- ‌أصحاب الاستحقاق:

- ‌حقوق العمال:

- ‌القواعد العامة لقيام المجتمعات الإنسانية:

- ‌الفصل الثاني: مقاصد العائلة في الشريعة

- ‌آصرة النكاح:

- ‌ آصرة النسب

- ‌آصرة الصهر:

- ‌طرق انحلال الأواصر الثلاث:

- ‌الفصل الثالث: الأموال

- ‌ تعريف المال:

- ‌ أنواع المال:

- ‌ أقسام المال في الملكية:

- ‌ الفوارق بين الأموال العينية والنقدية:

- ‌ المقايضة

- ‌النقود

- ‌من النقود السلعية إلى النقود المعدنية:

- ‌رأي الغزالي والمقريزي في النقدين:

- ‌النقود عند ابن القيم وابن عابدين:

- ‌أنواع النقود:

- ‌النقود المساعدة:

- ‌الفصل الرابع: مقاصد التصرّفات المالية ونظر الشريعة في أهمية الأموال

- ‌من مقاصد المعاملات المالية

- ‌أ - مصارف المال: البرّ، والصدقات، والزكاة:

- ‌الزكاة:

- ‌ب - التملُّك والتكسُّب:

- ‌1 - الأسباب المشروعة وغير المشروعة للتملك:

- ‌2 - أصول التكسّب:

- ‌ الأرض

- ‌ العمل:

- ‌ أنواع العمل:

- ‌ اختيار المسؤولين والعمال:

- ‌ج - رأس المال:

- ‌د - مجالات التكسب:

- ‌ التجارة

- ‌ الفلاحة:

- ‌ الصناعة:

- ‌ الاحتكار:

- ‌ الرواج:

- ‌استنفادُ بعض الثروة:

- ‌من أحكام المعاوضات:

- ‌توسيع الدراسات الفقهية:

- ‌الفصل الخامس: العقود

- ‌المجموعة الأولى: عقود التمليك:

- ‌التبرعات:

- ‌الرهن:

- ‌الوقف:

- ‌الهبة:

- ‌المجموعة الثانية: عقود المعاوضات:

- ‌البيع:

- ‌الإجارة:

- ‌السَّلَم:

- ‌المجموعة الثالثة: عقود المشاركة أو الشركات القائمة على عمل الأبدان:

- ‌ المضاربة

- ‌المساقاة:

- ‌المزارعة:

- ‌المغارسة:

- ‌تحريم المعاملات الربوية كلها:

- ‌العقود المنهي عنها:

- ‌بيع حاضرٍ لبادٍ ممن لا يعرف الأسعار، ومن كل وارد على مكان وإن كان من مدينة:

- ‌تلقي الركبان

- ‌البيع وقت النداء لصلاة الجمعة:

- ‌البيع والشرط وهو ما يسميه الفقهاء بيع الثُّنْيَا وبيع الوفاء:

- ‌الفصل السادس: مسائل مختلفة

- ‌تصرّفات المكلفين وأفعالهم، وما يترتب عليها من تشاريع وأحكام تناط بها أغراض الشارع ومقاصده

- ‌أثر المقاصد والمصالح في التشاريع والأحكام التي تحكم تصرّفات المكلفين:

- ‌جواز كراء الأرض بالخارج منها:

- ‌الفصل السابع: بيان طرق الاستدلال على مقاصد الشريعة

- ‌طرق التعرف إلى المقاصد:

- ‌دلالات المقاصد:

- ‌الرخصة:

- ‌الإصلاح والمصلحة:

- ‌الباب الثامنمقاصد أحكام القضاء والشهادة

- ‌توطئة

- ‌تولية القاضي:

- ‌عزل القاضي:

- ‌الباب التاسعالغرض من مقاصد الشريعة

- ‌مع علم مقاصد الشريعة:

- ‌النزوع إلى التجديد عند ابن عاشور وغيره من العلماء:

- ‌أول المجددين للدين في نظر صاحب المقاصد هو الإمام مالك بن أنس:

- ‌إمام الحرمين:

- ‌التطوّر والتجديد:

- ‌التجديد بين اتجاهين تحيط بهما محاذير:

- ‌المحاذير من التجديد:

- ‌التراث عروبة وإسلام:

- ‌تصورات للتجديد:

- ‌الباب العاشرالاجتهاد

- ‌الفصل الأول: مقدمات في الاجتهاد

- ‌واجب الاجتهاد:

- ‌إعادة النظر في قضايا اجتهادية:

- ‌الإجراءات الشرعية:

- ‌الفصل الثاني: عالميّة الشريعة والعمل بها

- ‌عالمية الشريعة وأسباب العمل بها:

- ‌العمل بالشريعة:

- ‌الفصل الثالث: بعض ما يحتاج إلى إعادة النظر فيه من الأحكام

- ‌مسائل بيع الطعام:

- ‌المُقاصّة:

- ‌بيوع الآجال:

- ‌كراء الأرض بما يخرج منها:

- ‌الشفعة في خصوص ما يقبل القسمة:

- ‌الفصل الرابع: الدعوة إلى إقامة مجمع للفقه الإسلامي

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌الفصل الأول: مقدمات في الاجتهاد

‌الفصل الأول: مقدمات في الاجتهاد

الاجتهاد عبارة عن بذل الفقيه جهده في استنباط حكم شرعي عملي من دليله التفصيلي الشرعي على وجه يحس معه من نفسه العجز عن المزيد.

والمراد بالفقيه هنا مَن يُمكنه استنباط الأحكام العملية من الأدلة الشرعية. وذهب المتأخرون إلى أن الفقيه يطلق على المجتهد، وعلى كل من يحفظ المسائل الفقهية في مذهب من المذاهب، ويعلم عامها من خاصها، ومطلقها من مقيدها، ومشكلها من مجملها (1).

وربما احتيج إلى شيء من الدقة في التعريفين ليُتخلّص قدَر الطاقة من الاضطراب الحاصل للأصوليين. فإنهم اختلفوا اختلافاً واسعاً في إصابة المجتهد من عدمها في اجتهاده على أقوال منها:

° إن المصيب واحد فيما اختلف فيه اجتهاد المجتهدين في المعقولات، وقواعد العقائد، والباقون على الزلل والخطأ.

° خالف في ذلك العدل الحافظ الأديب المفسر أبو زكريا يحيى العنبري بقوله: إن كل مجتهد مصيبٌ في المعقولات والمظنونات جميعاً. وردَّ هذا الرأي إمام الحرمين بما أورده في

(1) د/ بدران أبو العينين بدران. أصول الفقه الإسلامي: 401.

ص: 535

البرهان من قوله: وهذا لا بد أن نتكلف له مَحْمَلاً، ونبين له وجهاً. ثم نزيّفه، إذ لا يُظَنُّ بذي عقل أن يقول: الاجتهادات الواقعة في أصل الملل والنحل، كالاجتهادات الواقعة في المظنونات حتى يصوّب فيه كل مجتهد. وفي هذا انسلال من الدين بالكلية، وكيف يعتقد ذلك والعلم بأحد الجانبين أو ما يعارضه جهل، فكيف يعتبر الجاهل مصيباً؟. والقول الحق في هذه القضية أن مَطالِب الخلقِ الوصول إلى الحق، ولكن اكتفي منهم بعقدٍ هم عليه مصمّمون. فإذا خاضوا في طلب الحق، ولم يحتمل عقلهم إلا ما اعتقدوه فيُعذرون على اعتقادهم. والذي يُستند إليه في نهاية هذا التقرير: أن الأعراب في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يسألون. والرسول صلى الله عليه وسلم يعلمهم تفاصيل أحكام الشريعة. ولم يطالبوا وراء ذلك بأعمال الفكر والنظر، فيتبين من مجموع ذلك أن الخطأ في أمر لم يكلف بأصله سهل المدرك، وهكذا يكون المصيب واحداً في المعقولات.

° واختُلف في المظنونات. والحق أن المصيب واحد، لأن في القول بتصويب المجتهدين كلهم سَفسطة في أوله وزندقة في آخره. وهذا هو المشهور من كلام الشافعي (1).

° وانقسم القائلون بالتصويب فريقين: الأول: هم المقتصدون الذين يعتبرون الوقائع العريَّة عن النصوص والإجماع ليس لله فيها حكم معين، ولكنها موكولة إلى الطلب والاجتهاد. فإذا غلب على ظن المجتهد أمر فحكم الله فيه اتباع غلبة ظنه وموجبه.

الثاني: الغلاة وهم القائلون بأن الناس غير مطالبين بالاجتهاد فلا اجتهاد. ويفعل المكلف ما يختار أيَّ الطرفين يشاء (2).

(1) البرهان: 1219، عدد 1462.

(2)

البرهان: 1220، عدد 1464.

ص: 536

وانقسم القائلون بأن المصيب واحد إلى مقتصدين وغلاة أيضاً. فالمقتصدون يرون أن من أصاب منهم فله أجران، والمخطئ معذور (1).

وقال الغلاة: المخطئ آثم معاقب معاتب (2).

وفصّل القرافي في هذا القول.

وعقب الجويني على ما تقدم بقوله: إن الأشبه الذي هو شوف الطالبين فيما عدم النص فيه، كالنص في محل وجوده فيخرج منه أن الذي أخطأ النصَ والشوفَ مصيب من جهة العمل، مخطئ من حيث إنه لم ينته إلى نهاية الشوف. ولا فرق بين قصور النظر عن الأشبه، أو درك النص فيما فيه الكلام. وإن كان النص يفيد ركون النفس، ولا يفيد الأشبه إلا غلبة الظن (3).

فإذا حصرنا الاجتهاد بصفة مجملة في إدراك حكم الله في أفعال العباد، وفي التعرّف على الأدلة التي تُستقى منها الأحكام، يكون لزاماً علينا أن ننبّه:

أولاً: إلى أن من الأحكام ما هو تشريع إلهي محضٌ. وذلك كالذي ثبت من تواتر أو بحديث نبوي قولي أو فعلي أو تقريري.

وكذلك ما سنَّه المجتهدون في عصورهم المختلفة من قوانين من عموم استنباط النصوص، ومن روح التشريع وأهدافه العامة بواسطة الأمارات التي جعلها الشارع منهجاً وطريقاً لمعرفة الحكم

(1) البرهان: 1320، عدد 1465. وورد بلفظ معذور مأجور. انظر النفائس: 9/ 879.

(2)

البرهان: 1320، عدد 1465.

(3)

البرهان: 2/ 1329، عدد 1481.

ص: 537

الشرعي. وهذا القسم هو الغالب في أحكام الشريعة. وهو سماوي إلهي باعتبار الأصل والأساس، وهو تشريعي وصفي بالنظر إلى جهود المجتهدين في استمداد الأحكام واستنباطها.

ثانياً: إلى أن الدليل التفصيلي المقصود بالنظر فيه التوصّلُ إلى إدراك حكمٍ شرعي على سبل العلم أو الظن.

وقد اشتهر عند علماء الأصول أن من الأدلة ما هو قطعي يفيد القطع، ومنها ما هو ظني في دلالته على الحكم. وذهبت طائفة كما قدمنا إلى أن الدليل هو ما يتوصل بالنظر الصحيح فيه إلى إدراك حكم تشريعي على سبيل العلم والجزم فقط. واعتبروا ما يتوصل بالنظر فيه إلى إدراك حكم شرعي على سبيل الظنّ أمارةً لا دليلاً.

واختار الجويني أن الأمر مختلِف وكأنّه ملتَقَط من الطرفين، وهو يجمع المحاسن. فإن عنينا أنه لا يوجب العمل بمقتضى الظن، فهذا إنكار ما لا وجه لإنكاره، إذ المجتهد إذا غلب على ظنه أمر فأمر الله اتباع موجب ظنه، ولا يناط ظنه بظن آخر. فإن رأينا أن المجتهد كلف ما وراء غلبة الظن بتحصيل أمر آخر، فلا وجه له أيضاً إذ الأمر والاجتهاد ينضبط به وغلبة الظن حاصل (1).

ولعلنا بعد ما عرفناه في الطور الأول من الفقه في صدر الإسلام، وما وقفنا عليه بعد ذلك من فقه أصحاب المذاهب، نجد علماً متيناً وآراء ناضجة وتحقيقات وفتاوى بذل أصحابها أقصى ما يملكون من الجهد. وتبعت هذه الأطوار فترة طويلة من الاستقرار والجمود امتدت نحو خمسة قرون أو أكثر. وإنا لنلمس بحمد الله من

(1) الجويني. البرهان: 2/ 1323 - 1324. عدد 1471.

ص: 538

منتصف القرن الماضي نهضة جديدة بما ظهر من مظاهر اليقظة والانبعاث. وبعد أن انتشرت القوانين الوضعية الأجنبية والالتزام بالعمل بها قسراً عاد علماء الإسلام ورجال القضاء إلى الشريعة الإسلامية يلوذون بتراثهم الفقهي وأحكام شريعتهم، يحيونها مُراعين في ذلك مراحل التطور للخروج بالحكم الإسلامي من سيطرة الغرب إلى واقع معاش يرجع فيه الناس إلى حكم الله وحكم الرسول صلى الله عليه وسلم.

وكانت الخطوة الأولى في التقنين، وإعطاء الفقه الإسلامي طابعه النظري الذي يجمع بين الأصول والاجتهادات المعاصرة. وهذه مجلة الأحكام العدلية شاهدة بذلك. صدرت سنة 1286، وبدأ العمل بها 1292، غير أن أحكامها كانت مقصورة على المذهب الحنفي. ورغم ذلك فقد اندفع علماء الفقه وأصوله إلى توسيع هذه النهضة وكتابة الفقه في مقالات ورسائل وكتب، وتكونت لجان الفتوى في كل مكان، وأُحدث مجمع البحوث الإسلامية ومجامع الفقه الإسلامي في بلاد كثيرة.

وفي 1920 خرجت الأحكام الشرعية في مصر عن الاقتصار طى المذهب الحنفي، وتجاوزت ذلك إلى الأخذ بالمذاهب الأربعة.

وفي 1929 تجاوز الأخذ بالأحكام في الأحوال الشخصية عن خصوص المذهب الحنفي إلى الأخذ ببعض المذاهب الفقهية الإسلامية الأخرى. وتجلّى ذلك بالخصوص في أحكام الوقف والمواريث والوصية. وذلك ما اقتضته مراعاة مصالح الناس ومسايرة التطور الاجتماعي.

واتسعت النظم بعد هذا إلى الأخذ بالقوانين الشرعية المختلفة تحقيقاً لمصالح الناس، ومسايرة لروح العصر وتطوراته، شرط ألا يخالف ذلك نصاً من القرآن أو السُّنة الصحيحة.

ص: 539