الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول: مقدمات في الاجتهاد
الاجتهاد عبارة عن بذل الفقيه جهده في استنباط حكم شرعي عملي من دليله التفصيلي الشرعي على وجه يحس معه من نفسه العجز عن المزيد.
والمراد بالفقيه هنا مَن يُمكنه استنباط الأحكام العملية من الأدلة الشرعية. وذهب المتأخرون إلى أن الفقيه يطلق على المجتهد، وعلى كل من يحفظ المسائل الفقهية في مذهب من المذاهب، ويعلم عامها من خاصها، ومطلقها من مقيدها، ومشكلها من مجملها (1).
وربما احتيج إلى شيء من الدقة في التعريفين ليُتخلّص قدَر الطاقة من الاضطراب الحاصل للأصوليين. فإنهم اختلفوا اختلافاً واسعاً في إصابة المجتهد من عدمها في اجتهاده على أقوال منها:
° إن المصيب واحد فيما اختلف فيه اجتهاد المجتهدين في المعقولات، وقواعد العقائد، والباقون على الزلل والخطأ.
° خالف في ذلك العدل الحافظ الأديب المفسر أبو زكريا يحيى العنبري بقوله: إن كل مجتهد مصيبٌ في المعقولات والمظنونات جميعاً. وردَّ هذا الرأي إمام الحرمين بما أورده في
(1) د/ بدران أبو العينين بدران. أصول الفقه الإسلامي: 401.
البرهان من قوله: وهذا لا بد أن نتكلف له مَحْمَلاً، ونبين له وجهاً. ثم نزيّفه، إذ لا يُظَنُّ بذي عقل أن يقول: الاجتهادات الواقعة في أصل الملل والنحل، كالاجتهادات الواقعة في المظنونات حتى يصوّب فيه كل مجتهد. وفي هذا انسلال من الدين بالكلية، وكيف يعتقد ذلك والعلم بأحد الجانبين أو ما يعارضه جهل، فكيف يعتبر الجاهل مصيباً؟. والقول الحق في هذه القضية أن مَطالِب الخلقِ الوصول إلى الحق، ولكن اكتفي منهم بعقدٍ هم عليه مصمّمون. فإذا خاضوا في طلب الحق، ولم يحتمل عقلهم إلا ما اعتقدوه فيُعذرون على اعتقادهم. والذي يُستند إليه في نهاية هذا التقرير: أن الأعراب في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يسألون. والرسول صلى الله عليه وسلم يعلمهم تفاصيل أحكام الشريعة. ولم يطالبوا وراء ذلك بأعمال الفكر والنظر، فيتبين من مجموع ذلك أن الخطأ في أمر لم يكلف بأصله سهل المدرك، وهكذا يكون المصيب واحداً في المعقولات.
° واختُلف في المظنونات. والحق أن المصيب واحد، لأن في القول بتصويب المجتهدين كلهم سَفسطة في أوله وزندقة في آخره. وهذا هو المشهور من كلام الشافعي (1).
° وانقسم القائلون بالتصويب فريقين: الأول: هم المقتصدون الذين يعتبرون الوقائع العريَّة عن النصوص والإجماع ليس لله فيها حكم معين، ولكنها موكولة إلى الطلب والاجتهاد. فإذا غلب على ظن المجتهد أمر فحكم الله فيه اتباع غلبة ظنه وموجبه.
الثاني: الغلاة وهم القائلون بأن الناس غير مطالبين بالاجتهاد فلا اجتهاد. ويفعل المكلف ما يختار أيَّ الطرفين يشاء (2).
(1) البرهان: 1219، عدد 1462.
(2)
البرهان: 1220، عدد 1464.
وانقسم القائلون بأن المصيب واحد إلى مقتصدين وغلاة أيضاً. فالمقتصدون يرون أن من أصاب منهم فله أجران، والمخطئ معذور (1).
وقال الغلاة: المخطئ آثم معاقب معاتب (2).
وفصّل القرافي في هذا القول.
وعقب الجويني على ما تقدم بقوله: إن الأشبه الذي هو شوف الطالبين فيما عدم النص فيه، كالنص في محل وجوده فيخرج منه أن الذي أخطأ النصَ والشوفَ مصيب من جهة العمل، مخطئ من حيث إنه لم ينته إلى نهاية الشوف. ولا فرق بين قصور النظر عن الأشبه، أو درك النص فيما فيه الكلام. وإن كان النص يفيد ركون النفس، ولا يفيد الأشبه إلا غلبة الظن (3).
فإذا حصرنا الاجتهاد بصفة مجملة في إدراك حكم الله في أفعال العباد، وفي التعرّف على الأدلة التي تُستقى منها الأحكام، يكون لزاماً علينا أن ننبّه:
أولاً: إلى أن من الأحكام ما هو تشريع إلهي محضٌ. وذلك كالذي ثبت من تواتر أو بحديث نبوي قولي أو فعلي أو تقريري.
وكذلك ما سنَّه المجتهدون في عصورهم المختلفة من قوانين من عموم استنباط النصوص، ومن روح التشريع وأهدافه العامة بواسطة الأمارات التي جعلها الشارع منهجاً وطريقاً لمعرفة الحكم
(1) البرهان: 1320، عدد 1465. وورد بلفظ معذور مأجور. انظر النفائس: 9/ 879.
(2)
البرهان: 1320، عدد 1465.
(3)
البرهان: 2/ 1329، عدد 1481.
الشرعي. وهذا القسم هو الغالب في أحكام الشريعة. وهو سماوي إلهي باعتبار الأصل والأساس، وهو تشريعي وصفي بالنظر إلى جهود المجتهدين في استمداد الأحكام واستنباطها.
ثانياً: إلى أن الدليل التفصيلي المقصود بالنظر فيه التوصّلُ إلى إدراك حكمٍ شرعي على سبل العلم أو الظن.
وقد اشتهر عند علماء الأصول أن من الأدلة ما هو قطعي يفيد القطع، ومنها ما هو ظني في دلالته على الحكم. وذهبت طائفة كما قدمنا إلى أن الدليل هو ما يتوصل بالنظر الصحيح فيه إلى إدراك حكم تشريعي على سبيل العلم والجزم فقط. واعتبروا ما يتوصل بالنظر فيه إلى إدراك حكم شرعي على سبيل الظنّ أمارةً لا دليلاً.
واختار الجويني أن الأمر مختلِف وكأنّه ملتَقَط من الطرفين، وهو يجمع المحاسن. فإن عنينا أنه لا يوجب العمل بمقتضى الظن، فهذا إنكار ما لا وجه لإنكاره، إذ المجتهد إذا غلب على ظنه أمر فأمر الله اتباع موجب ظنه، ولا يناط ظنه بظن آخر. فإن رأينا أن المجتهد كلف ما وراء غلبة الظن بتحصيل أمر آخر، فلا وجه له أيضاً إذ الأمر والاجتهاد ينضبط به وغلبة الظن حاصل (1).
ولعلنا بعد ما عرفناه في الطور الأول من الفقه في صدر الإسلام، وما وقفنا عليه بعد ذلك من فقه أصحاب المذاهب، نجد علماً متيناً وآراء ناضجة وتحقيقات وفتاوى بذل أصحابها أقصى ما يملكون من الجهد. وتبعت هذه الأطوار فترة طويلة من الاستقرار والجمود امتدت نحو خمسة قرون أو أكثر. وإنا لنلمس بحمد الله من
(1) الجويني. البرهان: 2/ 1323 - 1324. عدد 1471.
منتصف القرن الماضي نهضة جديدة بما ظهر من مظاهر اليقظة والانبعاث. وبعد أن انتشرت القوانين الوضعية الأجنبية والالتزام بالعمل بها قسراً عاد علماء الإسلام ورجال القضاء إلى الشريعة الإسلامية يلوذون بتراثهم الفقهي وأحكام شريعتهم، يحيونها مُراعين في ذلك مراحل التطور للخروج بالحكم الإسلامي من سيطرة الغرب إلى واقع معاش يرجع فيه الناس إلى حكم الله وحكم الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكانت الخطوة الأولى في التقنين، وإعطاء الفقه الإسلامي طابعه النظري الذي يجمع بين الأصول والاجتهادات المعاصرة. وهذه مجلة الأحكام العدلية شاهدة بذلك. صدرت سنة 1286، وبدأ العمل بها 1292، غير أن أحكامها كانت مقصورة على المذهب الحنفي. ورغم ذلك فقد اندفع علماء الفقه وأصوله إلى توسيع هذه النهضة وكتابة الفقه في مقالات ورسائل وكتب، وتكونت لجان الفتوى في كل مكان، وأُحدث مجمع البحوث الإسلامية ومجامع الفقه الإسلامي في بلاد كثيرة.
وفي 1920 خرجت الأحكام الشرعية في مصر عن الاقتصار طى المذهب الحنفي، وتجاوزت ذلك إلى الأخذ بالمذاهب الأربعة.
وفي 1929 تجاوز الأخذ بالأحكام في الأحوال الشخصية عن خصوص المذهب الحنفي إلى الأخذ ببعض المذاهب الفقهية الإسلامية الأخرى. وتجلّى ذلك بالخصوص في أحكام الوقف والمواريث والوصية. وذلك ما اقتضته مراعاة مصالح الناس ومسايرة التطور الاجتماعي.
واتسعت النظم بعد هذا إلى الأخذ بالقوانين الشرعية المختلفة تحقيقاً لمصالح الناس، ومسايرة لروح العصر وتطوراته، شرط ألا يخالف ذلك نصاً من القرآن أو السُّنة الصحيحة.