المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القياس بين المثبتين والنفاة: - مقاصد الشريعة الإسلامية - جـ ٢

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌بَيْنَ عِلْمَيِّ أصُوْل الْفِقْهومَقَاصِد الشَّرِيْعَةِ الإسْلاميَّةِ

- ‌المقدمة

- ‌التمهيد لمقاصد الشريعة

- ‌الباب الأولقضايا ذات صلة بالفقه وبعلمي أصول الفقه ومقاصد الشريعة الإسلامية

- ‌الفصل الأول: بين الفقه وأصول الفقه ومقاصد الشريعة

- ‌ الفقه

- ‌علم أصول الفقه:

- ‌علم مقاصد الشريعة:

- ‌الفصل الثاني: قضايا أصولية وكلامية

- ‌قطعيّة أدلةِ علم أصول الفقه وظنّيّتها:

- ‌من أسباب ظنّية علم الأصول:

- ‌أ - الأحوال العارضة للنصوص:

- ‌اختلاف أنواع الدلالة:

- ‌أنواع المفاهيم:

- ‌تباين المحكم والمتشابه:

- ‌خبر الآحاد:

- ‌الإجماع وأنواعه:

- ‌ب -‌‌ التعليل، والعلة، والتعبّدي:

- ‌ التعليل

- ‌العلَّة:

- ‌شروط العلة:

- ‌التعليل عند المتكلمين:

- ‌رد الشيخ ابن عاشور على الأشاعرة:

- ‌الوجوب والغرض:

- ‌رد الجويني على الأشاعرة:

- ‌الأصوليون والتعليل:

- ‌العول:

- ‌أهميّة التعليل:

- ‌إصرار ابن حزم على رأيه واستدلاله على صحّة موقفه:

- ‌التعبّدي:

- ‌حكم القياس:

- ‌العمل بالقياس:

- ‌القياس بين المثبتين والنُّفاة:

- ‌مجالات الإثبات والإنكار للقياس:

- ‌القياس عند الظاهرية:

- ‌حجية القياس: أدلة المثبتين:

- ‌أدلة نفاة القياس:

- ‌الباب الثانيمع روّاد علم أصول الفقه وعلم مقاصد الشريعة

- ‌الفصل الأول: من طلائع الأصوليين وعلماء المقاصد

- ‌1 - الجويني: البرهان:

- ‌2 - الغزالي: شفاء الغليل، المنخول، المستصفى:

- ‌3 - العز بن عبد السلام: القواعد:

- ‌4 - القرافي: الفروق:

- ‌الفصل الثاني: موضوعات من علم المقاصد في كتب جماعة من الفقهاء

- ‌(1) المقاصد وكتاب الفروق للإمام القرافي:

- ‌الموضع الأول: انتصاب الشارع للتشريع:

- ‌الموضع الثاني: الحقوق وإسقاطها:

- ‌الموضع الثالث: نوط الأحكام الشرعية بمعانٍ وأوصاف لا بأسماء وأشكال:

- ‌الموضع الرابع: سدّ الذرائع:

- ‌الموضع الخامس: نفوذ الشريعة:

- ‌(2) المقاصد وكتاب نفائس الأصول:

- ‌(3) المقاصد وكتاب تنقيح الفصول:

- ‌الشاطبي وكتاب الموافقات:

- ‌ رأي ابن عاشور في عمل الشاطبي

- ‌تأييد ابن عاشور للشاطبي في بيان قصد الشارع من التكليف:

- ‌انصباب تكاليف الشريعة على العبادات والمعاملات والعادات:

- ‌مناقشة الشاطبي قوله بقطعيّة الأدلة:

- ‌تعريف الشيخ ابن عاشور بأنواع المصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا:

- ‌تقسيم التكاليف إلى عزائم ورخص:

- ‌التحيّل:

- ‌الفصل الثالث: المقاصد العامة والمصالح

- ‌الفطرة:

- ‌السماحة:

- ‌ المساواة

- ‌موانع المساواة:

- ‌الحرية:

- ‌تشوف الشارع للحرية:

- ‌تعريف المصلحة والمفسدة:

- ‌المصلحة والمفسدة محضتان خالصتان ومشوبتان مختلطتان:

- ‌الفصل الرابع: ضوابط المقاصد وأقسامها

- ‌القسم الأول من المقاصد:

- ‌المقاصد بين كلية وجزئية:

- ‌المقاصد بين قطعيّة وظنيّة:

- ‌المقاصد الأصلية والمقاصد التابعة:

- ‌المقاصد والوسائل:

- ‌الفصل الخامس: بحث المقاصد في أطراف الكتاب

- ‌الباب الثالثفي إثبات مقاصد التشريع الإسلامي وحاجة الفقهاء إلى معرفتها والوقوف عليها

- ‌توطئة

- ‌الفصل الأول: منهج السلف في طلب مقاصد الشرع من الأحكام

- ‌الفصل الثاني: الأنحاء الخمسة لتصرّفات الفقهاء في طلب المقاصد

- ‌الفصل الثالث: من طرق إثبات المقاصد الشرعية

- ‌الفصل الرابع: في القواعد الشرعية

- ‌الكليات:

- ‌الطريق الممهِّدة للتعرّف الدقيق على المقاصد وتعيينها:

- ‌القواعد والضوابط لمعرفة الأحكام وتعيين المقاصد:

- ‌الباب الرابعأمثلة للمقاصد مستخرجة من كتب المؤلف:

- ‌الفصل الأول: أمثلة للمقاصد الشرعية المستخرجة من التحرير والتنوير

- ‌المثال الأول: النبي الأمي صلى الله عليه وسلم

- ‌الْمَعْرُوفِ}

- ‌الطيبات:

- ‌الرحمة:

- ‌المثال الثاني: ضرب المرأة:

- ‌المثال الثالث: الطلاق ثلاثاً بلفظ واحد:

- ‌المثال الرابع: مثال من كتاب النظر الفسيح: حديث الوصيّة

- ‌المثال الخامس: مثال من كتاب كشف المُغطَّى: حديث بيع الخيار

- ‌الباب الخامسمنهجية الشيخ ابن عاشور في كتاب المقاصد

- ‌الفصل الأول: أسس النظر في المقاصد والأحكام

- ‌الإسلام حقائق لا أوهام:

- ‌من صفات الشريعة رفع خلط الاعتبارات بالأوهام:

- ‌الخطاب الشرعي أو النصوص التشريعية:

- ‌الفصل الثاني: منهج الشيخ ابن عاشور في تقريراته وفي تناوله لبعض متممات الخطاب

- ‌التفصيل والتقسيم:

- ‌الضوابط والشروط:

- ‌التقرير والتقعيد:

- ‌الأسباب:

- ‌إعمال النظر الشرعي طلباً لتحديد الأحكام:

- ‌الاستدلال:

- ‌المقام والسياق:

- ‌الاستقراء:

- ‌تنوُّع الأحكام بين التعبّدي والمُعلَّل:

- ‌تعقيبات الإمام ابن عاشور ومناقشاته:

- ‌الفصل الثالث: مع فقهاء الشريعة الإسلامية

- ‌1 - التضييق في الرخص:

- ‌2 - تعارض الروايات:

- ‌3 - الإجماعُ:

- ‌4 - اختلاف الفقهاء:

- ‌5 - من صور اختلاف الفقهاء:

- ‌توجيه وتنبيه:

- ‌التنبيهات:

- ‌6 - المقادير:

- ‌7 - المصطلحات الشرعية:

- ‌من المصطلحات:

- ‌المنهج:

- ‌المسائل والأحكام في "مقاصد الشريعة الإسلامية

- ‌القواعد والمقاصد باعتبار ما ينبني عليها، أو ما تدعو إليه من ترتيبات وتصرفات:

- ‌القسم الأول: يتضمن جملة من القواعد والمقاصد:

- ‌القسم الثاني: استنباط الأحكام من القواعد العامة:

- ‌القضاء بالعوائد:

- ‌الأوصاف الطردية:

- ‌ترجيح المصلحة الكبرى:

- ‌العمل بالمصلحة المرسلة:

- ‌القسم الثالث: موضوعات ذات صلة بالأصول والمقاصد للإمام عليها ملاحظات أو له بشأنها اقتراحات:

- ‌الباب السادسمصادر التشريع

- ‌الكتاب:

- ‌السُّنة:

- ‌الإجماع:

- ‌القياس:

- ‌أنواع القياس:

- ‌أقيسة الاستدلال:

- ‌جريان القياس:

- ‌المصلحة المرسلة:

- ‌الاستحسان:

- ‌سدّ الذرائع:

- ‌الحيلة:

- ‌أركان الحيلة:

- ‌أنواع التحيّل:

- ‌الباب السابعتوجه الأحكام التشريعية إلى المعاملات وتعيين الحقوق لأنواع مستحقيها

- ‌توطئة

- ‌الفصل الأول: الحقوق وأنواعها

- ‌تعيين مستحقي الحقوق يرفع أسباب النزاع:

- ‌أصحاب الاستحقاق:

- ‌حقوق العمال:

- ‌القواعد العامة لقيام المجتمعات الإنسانية:

- ‌الفصل الثاني: مقاصد العائلة في الشريعة

- ‌آصرة النكاح:

- ‌ آصرة النسب

- ‌آصرة الصهر:

- ‌طرق انحلال الأواصر الثلاث:

- ‌الفصل الثالث: الأموال

- ‌ تعريف المال:

- ‌ أنواع المال:

- ‌ أقسام المال في الملكية:

- ‌ الفوارق بين الأموال العينية والنقدية:

- ‌ المقايضة

- ‌النقود

- ‌من النقود السلعية إلى النقود المعدنية:

- ‌رأي الغزالي والمقريزي في النقدين:

- ‌النقود عند ابن القيم وابن عابدين:

- ‌أنواع النقود:

- ‌النقود المساعدة:

- ‌الفصل الرابع: مقاصد التصرّفات المالية ونظر الشريعة في أهمية الأموال

- ‌من مقاصد المعاملات المالية

- ‌أ - مصارف المال: البرّ، والصدقات، والزكاة:

- ‌الزكاة:

- ‌ب - التملُّك والتكسُّب:

- ‌1 - الأسباب المشروعة وغير المشروعة للتملك:

- ‌2 - أصول التكسّب:

- ‌ الأرض

- ‌ العمل:

- ‌ أنواع العمل:

- ‌ اختيار المسؤولين والعمال:

- ‌ج - رأس المال:

- ‌د - مجالات التكسب:

- ‌ التجارة

- ‌ الفلاحة:

- ‌ الصناعة:

- ‌ الاحتكار:

- ‌ الرواج:

- ‌استنفادُ بعض الثروة:

- ‌من أحكام المعاوضات:

- ‌توسيع الدراسات الفقهية:

- ‌الفصل الخامس: العقود

- ‌المجموعة الأولى: عقود التمليك:

- ‌التبرعات:

- ‌الرهن:

- ‌الوقف:

- ‌الهبة:

- ‌المجموعة الثانية: عقود المعاوضات:

- ‌البيع:

- ‌الإجارة:

- ‌السَّلَم:

- ‌المجموعة الثالثة: عقود المشاركة أو الشركات القائمة على عمل الأبدان:

- ‌ المضاربة

- ‌المساقاة:

- ‌المزارعة:

- ‌المغارسة:

- ‌تحريم المعاملات الربوية كلها:

- ‌العقود المنهي عنها:

- ‌بيع حاضرٍ لبادٍ ممن لا يعرف الأسعار، ومن كل وارد على مكان وإن كان من مدينة:

- ‌تلقي الركبان

- ‌البيع وقت النداء لصلاة الجمعة:

- ‌البيع والشرط وهو ما يسميه الفقهاء بيع الثُّنْيَا وبيع الوفاء:

- ‌الفصل السادس: مسائل مختلفة

- ‌تصرّفات المكلفين وأفعالهم، وما يترتب عليها من تشاريع وأحكام تناط بها أغراض الشارع ومقاصده

- ‌أثر المقاصد والمصالح في التشاريع والأحكام التي تحكم تصرّفات المكلفين:

- ‌جواز كراء الأرض بالخارج منها:

- ‌الفصل السابع: بيان طرق الاستدلال على مقاصد الشريعة

- ‌طرق التعرف إلى المقاصد:

- ‌دلالات المقاصد:

- ‌الرخصة:

- ‌الإصلاح والمصلحة:

- ‌الباب الثامنمقاصد أحكام القضاء والشهادة

- ‌توطئة

- ‌تولية القاضي:

- ‌عزل القاضي:

- ‌الباب التاسعالغرض من مقاصد الشريعة

- ‌مع علم مقاصد الشريعة:

- ‌النزوع إلى التجديد عند ابن عاشور وغيره من العلماء:

- ‌أول المجددين للدين في نظر صاحب المقاصد هو الإمام مالك بن أنس:

- ‌إمام الحرمين:

- ‌التطوّر والتجديد:

- ‌التجديد بين اتجاهين تحيط بهما محاذير:

- ‌المحاذير من التجديد:

- ‌التراث عروبة وإسلام:

- ‌تصورات للتجديد:

- ‌الباب العاشرالاجتهاد

- ‌الفصل الأول: مقدمات في الاجتهاد

- ‌واجب الاجتهاد:

- ‌إعادة النظر في قضايا اجتهادية:

- ‌الإجراءات الشرعية:

- ‌الفصل الثاني: عالميّة الشريعة والعمل بها

- ‌عالمية الشريعة وأسباب العمل بها:

- ‌العمل بالشريعة:

- ‌الفصل الثالث: بعض ما يحتاج إلى إعادة النظر فيه من الأحكام

- ‌مسائل بيع الطعام:

- ‌المُقاصّة:

- ‌بيوع الآجال:

- ‌كراء الأرض بما يخرج منها:

- ‌الشفعة في خصوص ما يقبل القسمة:

- ‌الفصل الرابع: الدعوة إلى إقامة مجمع للفقه الإسلامي

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌القياس بين المثبتين والنفاة:

وهذا ما حمل ابن العربي على التعريض بها في أبيات منها:

قالوا: الظواهر أصل لا يجوز لنا

عنها العدول إلى رأي ولا نظرِ

إن الظواهر معدود مواقعها

فكيف تُحصي بيان الحكم في البشرِ

فالظاهرية في بطلان قولِهم

كالباطنية غَير الفرق في الصورِ (1)

وتبع ابنُ عاشور ابنَ العربي مقيماً الحُجة على الظاهرية بإبطال لازم دعواها في قوله: وأنت إذا نظرت إلى أصول الظاهرية تجدهم يوشكون أن ينفوا عن الشريعة نوط أحكامها بالحِكمة؛ لأنهم نفوا القياس والاعتبار بالمعاني. ووقفوا عند الظواهر فلم يتجاوزوها .. على أن أهل الظاهر يقعون في ورطة التوقف عن إثبات الأحكام فيما لم يرو فيه عن الشارع حكم من حوادث الأزمان. وهو موقف خطير يخشى على المتردّي فيه أن يكون نافياً عن شريعة الإسلام صلاحها لجميع العصور والأقطار (2).

‌القياس بين المثبتين والنُّفاة:

يستدلّ المثبتون للقياس العاملون به على مذهبهم بالكتاب؛ بقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} (3).

ويستدلّون أيضاً بالسُّنة على القول بالقياس والعمل به، وبما قاله معاذ بن جبل في حواره مع الرسول صلى الله عليه وسلم، المنتهي إلى الاعتصام بالرأي. وذلك قوله: حين يُفقد الدليل من الكتاب والسُّنة: أجتهد برأيي ولا آلو (4).

ومثل هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي حين دخله الشك في

(1) عارضة الأحوذي: 10/ 112.

(2)

المقاصد: 152 - 153.

(3)

سورة الحشر، الآية:2.

(4)

انظر المقاصد: 522.

ص: 62

انتساب ولده إليه لسمرته: فلعل ابنك هذا نزعةُ عرق (1). استدل ابن حجر به لصحة القياس. وقال الخطابي: هو أصل في قياس الشبه. وقال ابن العربي: فيه دليل على صحة القياس والاعتبار بالنظير (2).

ومما استدل به المثبتون للقياس قول البزدوي: وعملُ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومناظراتُهم في هذا الباب أشهر من أن يخفى على عاقل مميز. فإن طعن طاعن فيهم فقد ضلّ عن سواء السبيل ونبا عن الإسلام. ومن ادعى خصوصهم ادعى أمراً لا دليل عليه، بل الناس سواء في تكليف الاعتبار (3).

ومن استدلالهم بالنقل قولهم: إن القياس لا يترتّب على وقوعه محالٌ لذاته ولا لغيره. وكل ما كان كذلك كان جائزاً عقلاً. فالتعبّد بالقياس جائز عقلاً. ومن ذلك ما في التعبّد بالقياس من مصلحة لا تحصل بدونه. وكل ما كان كذلك فهو جائز عقلاً. فالتعبّد بالقياس جائز عقلاً وكان أبو الهذيل العلاف من أشد الناس انتصاراً للقياس، وإلى الاجتهاد بالرأي في الأحكام (4).

وأما المعارضون للعمل بالقياس فلم يكن داود الظاهري أوَّل من وقف موقفهم من المثبتين للقياس، بل سبقه إلى ذلك النظَّام. وهو وإن لم يكن ينكر أن الشريعة شرعت لأسباب ومقاصد لكنه ينكر على العقل البشري قدرَته على معرفة كنهها. وهو لا ينكر أن العلّة النصِّيَّة توجب الإلحاق، ولكن لا بطريق القياس بل بطريق اللفظ

(1) الحديث متفق عليه. وهو من أقيسةِ الرسول صلى الله عليه وسلم. خَ: 6/ 178؛ مَ: 2/ 233.

(2)

ابن حجر: الفتح: 9/ 444.

(3)

أصول البزدوي: 3/ 280 - 282.

(4)

فرغلي. بحوث في القياس: 283 - 285.

ص: 63

والعموم (1). وقد تبع النظَّامَ على مذهبه هذا بعضُ المعتزلة كبشر بن المعتمر، وإسحاق بن راهويه الذي كان على منهج المنكرين. وكان يقول معرضاً بخصومه: نبذوا كتاب الله وسُنة رسوله ولزموا القياس (2).

وحمل داودَ الظاهري على إنكار القياس ما رآه لدى المثبتين له من التطرّف والمغالاة.

فمنهم من قدّم القياس على الإجماع.

ومنهم من ردّ الحديث بالقياس.

ومنهم من أوّل الآيات وحاد بها عن معانيها اعتباراً منه للرأي واعتداداً بالقياس.

ويلخص داود الظاهري مذهبه بقوله: الحكم بالقياس لا يجب، والقول بالاستحسان لا يجوز (3). وهو ينفي القياس في التوحيد والأحكام. ويقول: إن الأصول هي الكتاب والسُّنة والإجماع فقط. ومنع أن يكون القياس أصلاً من الأصول (4).

وإنكاره للقياس كان عاماً مطلقاً للجلي والخفيّ، وإن كان عند الحاجة الماسة إليه لا يرفضه ويسمّيه دليلاً. وهنا يفترق شيخا الظاهرية داود وابن حزم، فالثاني يصرّ على ظاهريته. وقد اشتهر عند الخاصة والعامة بتمسّكه أشد التمسّك بنفي القياس.

(1) ابن قدامة. الروضة: 2/ 62، 63؛ الغزالي. المستصفى: 2/ 272.

(2)

ابن قتيبة. تأويل مختلف الحديث: 38.

(3)

ابن السبكي. طبقات الشافعية الكبرى: 2/ 46.

(4)

ابن عبد البر. الجامع: (1) 2/ 75.

ص: 64

وأساس تفكير الطائفة الظاهرية تمسكها بالظاهر دون الباطن. قال علماء الأصول: الظاهر هو اللفظ باعتبار دلالته على معنى متبادر منه، وليس مقصوداً أصلياً بسوق الكلام، مع احتماله للتفسير والتأويل وقبوله للنسخ في عهد الرسالة (1).

وكشف ابن حزم عن حقيقة الظاهر الذي انبنى عليه مذهبه بقوله: هو ظاهر اللفظ من ناحية اللغة، فلا يُصرَف اللفظ عن معناه اللغوي إلا لنص آخر أو إجماع. فإن نقل اللفظ عما اقتضاه ظاهره، وعما وضع له من دلالة في اللغة إلى معنى آخر بغير نص أو إجماع، فحكم ذلك النقل أنه باطل، ويعتبر تبديلاً لكلام الله عز وجل (2).

ومن هنا ينطلق ابن حزم إلى القول بأن استخدام القياس في الأحكام الاجتهادية عملية عقلية بحتة تتنافى مع جوهر العقيدة الإلهية. ولو كان الدين بالعقل لجرت أحكامه على خلاف ما أتى به الكتاب والسُّنة.

وكتبت طائفة من الأصوليين عن منكري القياس، فجعلت الرازي في مقدمة هؤلاء بزعمها أنه ينكر أن تكون أحكام الله معلّلة بعلّة البتة. قال الشوكاني: أحسب أن أهم من يصور هذا الاتجاه في الأصول هو داود الظاهري. وعنوَن الشيخ ابن عاشور لهذه المدرسة بمجدّدها ومدوّن مذهبها وواضع أصولها وقواعدها الإمام ابن حزم.

وتحدث أهل العلم كثيراً عن إنكار ابن حزم للتعليل قبل أن يعلن عن مناوأته للقياس عند أهل الرأي. فهو الذي يقول: الحكيم بيننا لا يفعل إلا لعلّة صحيحة، والصحيح هو الذي يفعل لا لعلّة،

(1) علي حسب الله. أصول التشريع: 232.

(2)

الإحكام في أصول الأحكام: 1/ 42.

ص: 65

فقاسوا ربهم تعالى على أنفسهم. وقالوا: إن الله لا يفعل شيئاً إلا لصالح عباده. وراموا بذلك إثبات العلل في الفترات. قال أبو محمد: وتكاد هذه القضية الفاسدة التي جعلوها عمدة لمذهبهم، وعقدة تنحل عنها فتاواهم أن تكون أصلاً لكل كفر في الأرض. وأما على التحقيق فهي أصل لقول الدهرية والمانوية وقول من قال بالتناسخ، ومن أبطل النبوات (1).

ومن شنيع قوله في ذلك تأويله لقول الله تعالى: {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (2) فيؤول الآية بقوله: فأخبر الله تعالى أن البحث عن علّة مرادِهِ ضلال؛ لأنه لا بد من هذا، أو من أن تكون الآية نهياً عن البحث عن المعنى المراد. وهذا خطأ لا يقوله مسلم، بل إن البحث عن المعنى الذي أراده الله تعالى فرض على كل طالب علم، وعلى كل مسلم فيما يخصه. فصح القول الثاني ضرورةً ولا بد (3).

وردّ كثير من العلماء بشدّة على إنكار ابن حزم التعليل والقياس (4)، ونقل إمام الحرمين عن المثبتين قولهم، وهو ما ذهب إليه ذوو التحقيق: إنا لا نعد منكري القياس من علماء الأمة وحملة الشريعة. فإنهم مباهتون أولاً على عنادهم فيما ثبت استفاضة وتواتراً، ومن لا يزعه التَّواتُرُ ولم يحتفل بمخالفته، لم يوثق بقوله ومذهبه (5).

ولما حدد ابن عاشور موقفه من المثبتين للقياس، ومن

(1) الإحكام: 8/ 120.

(2)

سورة المدثر، الآية:31.

(3)

الإحكام: 8/ 112.

(4)

يوسف العالِم. المقاصد العامة: 126.

(5)

البرهان: 2/ 819، ف 776.

ص: 66

المنكرين له كابن حزم، أعلن مجافاتَه للظاهرية ومخالفتَه لها. وحمل المتمسكون بالظواهر النافون للقياس كثيراً من أهل السُّنة على سلوك مسلكهم اعتباراً للتعبّد. ووقع لهم من الجمود في استنباط الأحكام ما يشهد بفقدان الحس بالمقاصد لديهم، وعدم الاعتداد بها في ضبط الأحكام كلياً. ودليل ذلك أن من بينهم من تمسك يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"كل شيء خطأ إلا السيف"(1) في قتل العَمد، وهذا لا يصحّ. فإن القتل العمد لا ينحصر في هذه الصورة. بل يحصل بعدة أسباب كالزهق بالخنق، والحرق بالنار، والذبح بقصب أو بما سواه. وهذه من الملحقات بالقتل بالسيف. وقد توقَّفَ بعضهم في الحكم بالقصاص في الصخرة تلقى من علُ على أحد المارة أو الجالسين على جنب الطريق قصداً فتقتلَه، وكذلك في ضرب الرأس بالدبوس، والإغراق مكتوفاً، والتجويع الأيام المتتالية. ويرجع تردّدهم في هذا الموقف إلى أخذ فقهائهم باللفظ أو بالوصف دون القصد، فيوشكون بتصرّفهم أن يبلغوا حد نفي الحِكْمة عن الشريعة التي أنيطت أحكامُها بها. وربما اضطرهم منهجهم الاجتهادي هذا إلى التوقّف عن إثبات الأحكام فيما لم يُروَ فيه من حوادث الزمان عن الشارع حكم. وفي هذا كل الخطر، وهو الإنكار لحقيقة ثابتة عن الشرع تقضي بأن شريعة الإسلام صالحة لكل زمان ومكان. وهذا ما ينطق به قول الله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وغيرُه من النصوص، وتشهد له العقول، أو تنتهي إليه، ويدركه ذوو الفهم بالحلال والحرام.

ولم يَسلَم هذا الحكم: حكم الإمام على الظاهرية من معارضة ونقاش؛ لأنه كان انبنى على نقاط أساسية معتبرة، يجد في العصر

(1) انظر المقاصد: 152.

ص: 67