الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المصلحة المرسلة:
تعرض كثير من الفقهاء والأصوليين عند حديثهم عن المصالح إلى اعتبارها ثلاثة أنواع: معتبرة وملغاة ومرسلة. فالمعتبرة والمُلغاة واضحتان لا تحتاجان منا إلى بيان. أما المصلحة المرسلة فهي التي لم يقم دليل من الشرع على اعتبارها أو إلغائها. قال زكي الدين شعبان في تعريفها: هي عبارة عن المعاني التي يحصل من ربط الحكم بها وبنائه عليها جلبُ منفعة أو دفع مفسدة عن الخلق (1)، وتعرف عند بعض الأصوليين بالاستصلاح.
ويظهر لنا من تعريفها هذا أنها في واقع الأمر تلك التي سكت الشارع عن بيان حكمها، وليس لها أصل تقاس عليه، غير أنها يوجد فيها معنى يصلح أن يكون علّة ومناطاً لحكم شرعي يحكم به، بناء على ذلك المعنى المناسب.
ولكونها أصلاً يعمل به وحجّة يصح الاستناد إليها. جعلها الشيخ ابن عاشور نوعاً من أنواع القياس، إذ القياس المعروف في علم الأصول والمعتمد عليه عند الأئمة، كما قدمنا، هو قياس العلّة. والمصلحة المرسلة قياس ثان هو قياس الجنس. وإذا كنا نقول بحجيّة القياس الذي هو إلحاق جزئي حادث لا يعرف له حكم في الشرع بجزئي ثابتٍ حكمهُ في الشريعة بآخر للمماثلة بينهما في العلّة المستنبطة، وهي مصلحة جزئية ظنّية غالباً لقلّة صور العلّة المنصوصة، فَلأَنْ نقول بحجيّة قياس مصلحة كلّية حادثة في الأمة، لا يعرف لها حكم على كلّية ثابتٍ اعتبارُها في الشريعة باستقراء أدلة الشريعة الذي هو قطعي أو ظنّي قريب من القطعي، أولى بنا وأجدرُ بالقياس، وأَدخَلُ في الاحتجاج الشرعي (2).
وعقّب الشيخ ابن عاشور على المنكرين للمصلحة المرسلة
(1) أصول الفقه الإسلامي: 182.
(2)
المقاصد: 245.
بقوله: وإني لأعجب فرطَ العجب من إمام الحرمين على جلالة علمه ونفاذ فهمه كيف تردّد في هذا المقام؟! وأما الغزالي فأقبل وأدبر فلحق مرّة بطرف الوفاق لاعتباره المصالح المرسلة، ومرّة بطرف رأي الجويني، إذ تردّد في مقدار المصلحة (1).
واشترطوا للعمل بالمصلحة المرسلة شروطاً أربعة:
(1)
أن تكون المصلحة من المصالح التي لم يقم عليها دليل شرعي يلزم منه إلغاؤها. وذلك كالتي تقتضي جواز المساواة في الميراث بين الذكر والأنثى.
(2)
أن تكون المصلحة من المصالح المحقّقة. وذلك كتسجيل العقود فإنه يقلّل من شهادة الزور. فإن كانت المصلحة متوهَّمة لم يَجُزْ العمل بها.
(3)
أن تكون المصلحة من المصالح العامة. فلا يصح تشريع الحكم لقاء المصلحة الخاصة. وهذا ما اقتضى بطلان فتوى يحيى بن يحيى بوجوب الصوم في كفارة الإفطار عمداً دون الإعتاق، وهو من القادرين عليه. أنكر ذلك الفقهاء وقالوا: إنها فتوى تخالف النصّ.
(4)
أن تكون المصلحة معقولة في ذاتها غير جارية في الأمور التعبّدية أو العقوبات. وهي التي تدرك العقول معناها المناسبَ من تشريعها.
وقد عمل الصحابة بالمصلحة وبَنَوا كثيراً من الأحكام عليها.
ومعلوم أن التشريع الإسلامي قام على مراعاة مصالح الناس وتحقيقها للجميع.
ومما اعتمد الحكم فيه على العمل بالمصلحة مسائل كثيرة، نذكر منها:
(1) المقاصد: 245، 246.
° جمع القرآن في المصحف. وقد أمر به أبو بكر وانشرح له صدره، ورضيه عمر، ووافق عليه زيد بن ثابت، وأجمع على اعتباره الصحابة (1).
° إجماع السلف على جعل حد شارب الخمر ثمانين جلدة. وأصل هذا التحديد ما ارتآه عبد الرحمن بن عوف، أو علي بن أبي طالب. وحَدُّهُ عند الشافعي وأبي ثور وداود وأهل الظاهر أربعون. ثم أصبح الحد ثمانين مجمعاً عليه. وذلك ما حكاه النووي بقوله: هو أربعون، وللإمام أن يرقى به إلى الثمانين، وما دونها، تعزيراً إن رأى ذلك (2).
° وضع دواوين العطاء: أول من فعل ذلك عمر بن الخطاب. رتب الناسَ فيها، وقدّر الأعطيات بعد مشاورته الصحابة. وتفرق ديوان العطاء بعد ذلك إلى ديوان الجند، وكان خاصاً بضبط ما ينوب الجند من العطاء، وديوان الخراج لمعرفة ما يرد إلى بيت المال، وما يفرض لكل مسلم من العطاء. وكان ذلك عندما أكثر الناس، وجُبيت الأموال، وفرضت الأعطيات (3).
° ترك عمر قسمة الغنائم من أرض سواد العراق وقت الفتوح لتكون عُدّة لنوائب المسلمين (4).
° تدوين الحديث في زمن عمر بن عبد العزيز وقوله: تحدث الناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور (5).
(1) المقاصد: 249 - 250 - تع: 2.
(2)
شرح مسلم: 11/ 215 - 216.
(3)
الخزاعي. تخريج الدلالات: 237.
(4)
المقاصد: 251.
(5)
المقاصد: 251، 252.
° وأضاف الشيخ ابن عاشور إلى هذا كله ما أحدثه قضاة الإسلام وأئمته من أساليب المرافعات، وضرب الآجال، واستفسار الشهود، والسجن للملدّ عن الجواب، وإحداث يمين القضاء لمن أثبت لنفسه حقاً بالحجة على ميت أو غائب ونحو ذلك (1)
ونجد أمثلة أخرى للمصالح المرسلة عند الباحثين، فقد عدّوا منها:
° تضمين الصناع. والمصلحة في هذا ترجع إلى التيسير ورفع الحرج وحفظ الأموال (2).
° جواز العقاب بأخذ الأموال على بعض الجنايات (3).
° اختيار الأمثل للقضاء الإسلامي إذا فُرض خلو الزمان عن مجتهد يظهر بين الناس (4).
° جواز التعذيب بالتهمة (5).
° توظيف الإمام العدل الثقة الحصيف المأمون على شؤون المال (6).
(1) المقاصد: 253.
(2)
الشاطبي. الاعتصام: 2/ 119؛ د/ مصطفى زيد. المصلحة في التشريع الإسلامي: 31؛ البوطي. ضوابط المصلحة: 356.
(3)
الشاطبي. الاعتصام: 2/ 123، 124، 126، 127.
(4)
الشاطبي. الاعتصام: 2/ 120؛ البوطي. ضوابط المصلحة: 350.
(5)
الشاطبي. الاعتصام: 2/ 120 - 121؛ البوطي. ضوابط المصلحة: 191، 192، 335، 337، 340.
(6)
الشاطبي. الاعتصام: 2/ 121 - 122؛ البوطي. ضوابط المصلحة: 350.
° جواز قتل الجماعة بالواحد (1).
° تعيين الخليفة أو اختياره مثل ما فعل أبو بكر وعمر (2).
° إحداث عثمان أذاناً ثانياً يوم الجمعة بالسوق (3).
° اتخاذ وسائل للإعلام بالقدر الذي لا يتنافى مع أصل من أصول الشريعة أو أي نص من نصوصها (4).
وبناء على ما تقدّم وعلى ما ذكره صاحب المقاصد بشأن المصالح من قوله: لا يجوز الاختلاف في حجيتها إذا كانت مصالح محضة لا تعارضها مصالح أخرى ولا تخالطها مفاسد، نجد بعد التحليل موافقة جماعية على اعتماد المصالح مرّة بشروط كما هو الأمر عند الغزالي، ومرّة على الإطلاق.
ذكر ذلك عبد الوهاب خلّاف قائلاً: والذي خلص من أقوال العلماء في المصلحة المرسلة أنه لا خلاف بينهم في التشريع بها، وأنه لم يذهب واحد منهم إلى أنه لا تشريع إلا بناء على مصلحة اعتبرها الشارع بذاتها، لأن مصالح الناس تتجدّد. وقد تقتضي ضرورات الناس وحاجاتهم في عصر من العصور مصالح لم يكن لها نظائر في عصر التشريع، ولا بد من التقنين لها (5).
(1) الشاطبي. الاعتصام: 2/ 125 - 126؛ البوطي ضوابط المصلحة: 141 - 142، 147 - 150، 357؛ مصطفى زيد. المصلحة في التشريع الإسلامي:32.
(2)
مصطفى زيد. المصلحة في التشريع الإسلامي: 31.
(3)
عبد الوهاب خلاف. مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص منه: 88.
(4)
البوطي. ضوابط المصلحة: 350.
(5)
عبد الوهاب خلاف. مصادر التشريع الإسلامي: 175.