الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: الأنحاء الخمسة لتصرّفات الفقهاء في طلب المقاصد
النحو الأول في اعتبار شيخنا: هو وقوف الفقيه على المراد من الخطاب الشرعي الذي لا يختلف في الأصل عن الخطاب اللغوي. وإن تميّز عن هذا بما يختص به من مصطلحات، وما يعتمده الفقيه فيه من قواعد لفظية وأصول يستخدمها عند الاستدلال الفقهي، ويستعين بها على تحقيق الفهم الدقيق للخطاب الشرعي، والإحاطة بدلالته، بالرجوع إلى الآثار من السُّنة ودراستها، والاعتبار بأقوال الصحابة والسلف من الفقهاء.
النحو الثاني: هو إيقان الفقيه بسلامة الأدلة التي يعتمدها في استنباط الأحكام الشرعية، وبيان ما يقابلها أو يعارضها من الأدلة للاستدلال بها: إما باعتقاد صحّتها أو نسخها، أو بالركون إلى الترجيح بينها؛ وإما بما تحمل عليه الأدلة المعارضة من تخصيص أو تقييد، أو باتضاح فساد الاجتهاد. ذلك أن الدليل المعارض ينفي مدلول الدليل الأول بإقامة آخر يدل على خلاف مدلوله. وزاد المؤلف بيان وجه التصرّف في مثل هذه الصورة قائلاً: فإذا استيقن أن الدليل سالم عن المعارض أَعمَلَه، وإذا ألفى له معارضاً نظر في كيفية العمل بالدليلين معاً، أو بالراجح منهما على الآخر.
النحو الثالث: يكون بإدراك الفقيه علل التشريعات الثابتة بطريق
من طرق مسالك العلّة، يتمكن بها من قياس ما لم يَرِد حكمُه في أقوال الشارع على حكم ما ورد منه فيها.
النحو الرابع: هو كما عرّفه الشيخ ابن عاشور: إعطاء حكم لفعل أو حادث حدث للناس لا يعرف حكمه ولا له نظير يقاس عليه. وقد جاء في بيان هذا المسلك بتعريف الأصوليين للمصلحة بقولهم: هي التي تعرف علِّيَّتها، أي بدون شهادة الأصول، بمجرد الإخالة، أي بمجرد كونها مخيلة، أي مُوقعة في القلب العلَّيةَ والصحة، ولم يشهد الشرع لها بالاعتبار ولا بالإبطال (1).
وقال صاحب الضياء اللامع في التعريف بهذا المسلك: هو ما لم يشهد له الشرع بالاعتبار ولا بالإهدار، ولكن على ما تقتضيه سُنن المصالح أو تتلقاه العقول بالقبول وهو المرسل (2).
واعتبر المؤلف النحو الأول من موضوعات علم أصول الفقه.
وحرّر بعد هذا قضيةَ التعارض بين الأدلة بذكر المهمّ منها، والتنبيه على وجه تصرّف الفقيه فيها، مورداً أمثلة على ذلك. منها:
ردُّ مالك على شُريح إنكارَه صحَّة الحُبس.
وردُّه حديث خيار المجلس، وإن أَثبتَ الإمام مالك نصَّه في الموطأ.
وتركُ استلام الركنين اللذين هما من البيت.
وتوقُّفُ عمر في حديث الاستئذان.
(1) التهانوي. كشاف اصطلاحات الفنون: 821.
(2)
محمد الأمين الشنقيطي. المصالح المرسلة: 13.
وحكم أخذ الجزية من المجوس.
وقصر النحو الثالث على القياس. وهو ما يحتاج فيه الفقيه إلى معرفة مقاصد الشريعة كما في المناسبة. وهي ما يكون بين الوصف والحكم من ملاءمة بحيث يترتّب تشريع الحكم، بناء عليها، فتتحقّق المصلحة المقصودة للشارع من تشريع الحكم. وهي جلب منفعة للعباد أو دفع مفسدة عنهم (1). قال ابن عاشور في المناسبة: هي معنى في عمل من أعمال الناس يقتضي وجوب ذلك العمل، أو تحريمه، أو الإذن فيه شرعاً. وذلك المعنى وصف ظاهر منضبط يحكم العقل بأولاً ترتُّبَ الحكم الشرعي عليه مناسب لمقصد الشرع من الحكم (2).
وأشار في النحو الرابع إلى قول الأئمة بمراعاة الكليات الشرعية الضرورية والحاجية والتحسينية ولقبُوها كلها بالمناسب. وأثبت الإمام مالك حجية المصلحة المرسلة. وعلى هذا النحو أخذَ أهل الرأي بالاستحسان.
وعقّب المؤلف على هذا كله بإيراد مسائل تقدمت الإشارة إليها في النحو الأول، منبّهاً إلى مواضع طلبها، ذاكراً جملة من أمثلتها.
من ذلك عدم أخذ عمر بخبر فاطمة بنت قيس في نفقة المعتدّة.
وردّ عائشة قبول حديث عمر: "إن الميّت يعذب ببكاء أهله عليه".
ومن تفصيل القول في الأنحاء الأربعة المتقدمة تتبيّن لنا طرق الاستنباط لذكر ما يعتمد عليه فيها من علّة أو وصف أو حِكمة.
(1) زكي شعبان. أصول الفقه الإسلامي: 152.
(2)
المقاصد: 47 تع 1.
وفي النحو الخامس رأى المؤلف أن الأحكام الصادرة عن الشارع فيه غير معلّلة، ولا هي ممّا عرفت حكمة التشريع في تشريعها. وقد وصفها بقوله: وهذا النوع من الأحكام يسمّى التعبّدي.
والتعبّدي عند الفقهاء مقصور على العبادات وعلى ما هو نسك، لعدم بحثهم فيه عن علّة لأنّه ممّا لا قياس فيه، ولأنّه مما لا تظهر فيه للمجتهد من الأحكام علّة ولا حِكمة إلا على وجه الإجمال. فالتعبّدي هو الذي يتّهم الفقيه فيه نفسه بالقصور عن إدراك حِكمة الشارع منه، ويستضعف علمه في جنب سعة الشريعة. وهو موجب حيرة يمكن أن تزول تدريجياً، بمقدار ما يستحصل من مقاصد الشريعة في هذا النوع من الأحكام، وما يستكثر مما حصل في علمه منها (1).
وعلل الشيخ ابن عاشور وجود هذه الأحكام التعبّدية بين الفقهاء بأخذهم فيها بظاهر اللفظ أو بالوصف الوارد عند التشريع، دون المقصد منها (2). وفي هذا ما فيه من تعطيل لملكة الفهم، وتوقّف عن طلب الأسباب. ودعا أئمةَ الفقه إلى ألا يساعدوا على وجود الأحكام التعبّدية في تشريع المعاملات، وإلى تفحّص الأحكام التي خفيت عِللُها أو دقتْ، فلا يعاني الناس من جرائها متاعب جمّة في معاملاتهم (3).
والمكلفون بحاجة إلى معرفة المقاصد، وليس ذلك على إطلاقه. وإنما هي وظيفة العلماء. فهم الذين يجب عليهم بذل الجهد لمعرفة المقاصد، وإن كان في هذا الأمر تفاوت في تقدير المقاصد بقدر القرائح والفهوم (4).
(1) المقاصد: 40 - 51.
(2)
المقاصد: 151 - 152.
(3)
المقاصد: 155.
(4)
المقاصد: 51.