الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خلدون في الصناعات. وسكت عنهما الاقتصاديون من بعده إلى أن جاء آدم سميث فاعتبر الخدمة عامل إنتاج لما تؤدي إليه من صناعة أشياء مادية (1).
وهذه الأعمال بأنواعها تحتاج إلى دراسة وتنظيم يكون بهما الإنطلاق إلى نهضة ملموسة وتنمية فعلية عملية ينكبّ عليها الأخصائيون في شتى البلاد في كل ميدان.
فالأول من تلك الأصول أو الأعمال تحكمه الفطرة وتميل إليه النفس الكريمة الطيبة. فلا يتكلف المرء معه ما يرهقه أو ينوء به من تبعات النشاط، كما لا يسند إليه فيه من الأعمال ما لا يقدر عليه أو لا يُحسنه فتلحق مضرة ذلك بالمجتمع كله، وتحول تلك العوارض دون تحقيق المراد من التكوين والاستخلاف والتثمير والإنتاج.
°
الاحتكار:
عرّفه الإمام أبو حنيفة بقوله: كل ما أضرّ حبسه فهو احتكار.
وقيل: هو حبس ما يتضرر الناس بحبسه تربصاً للغلاء.
وهو من أشدّ الظلم، وسببُ إفساد العمران والدولة. والحكر هو الجمع والإمساك. والاحتكار حبس السلع عن البيع، والحُكرة: الاحتكار. ويكون الاحتكار بمعناه العام بالتسلط على أموال الناس بشراء ما بين أيديهم بأبخس الأثمان، ثم فرض البضائع عليهم بأرفع الأثمان على وجه الغصب والإكراه في الشراء والبيع.
وهو من أكل أموال الناس بالباطل. وليس البيع والشراء
(1) ابن خلدون. المقدمة: 364، 384؛ د/ محمد عبد المنعم الجمال. موسوعة الاقتصاد الإسلامي:90.
كالاحتكار، فالأولان يقومان على المكايسة، وهذا النوع الأخير من التعامل يقوم على الفرض والقسر والإكراه والغصب.
وعلّة تحريم الاحتكار إلحاق الضرر بالناس من فساد الأسواق، ومنع الطعام من الرواج بها، وبطلان معاش الرعايا، وغلاء الأسعار، والزيادة في المكوس والضرائب، وانتشار الفقر والجوع، وقيام شركات الاحتكار، وإلغاء التعامل الحرّ.
وقد واجهت الشريعة هذا التصرّف المقيت بإجراءات وقائية كمنع تلقي الركبان وبيع الحاضر للبادي. وهدفها من ذلك قطع السبل على المحتكرين. وأخرى بطرق علاجية كالسيطرة على المال المحتكر، وتعزير المحتكرين، وجبرهم على البيع، وتسعير البضائع عليهم، ومنافستهم في البيع.
ومن قواعد الشريعة الإسلامية أنه "لا يحتكر إلا خاطئ"(1) أي آثم. وأن "الجالب مرزوق والمحتكر ملعون"(2). وتمتد الحرمة الشديدة إلى محتكري البضاعة الضرورية. وهذا ما حمل فقهاء الملة على مقاومة الاحتكار، وجَعَلهم يحاربونه ولا يسمحون بوجوده، معلنين أنّه من الضروري والواجب إبطاله في الطعام. وصدع عمر بن الخطاب بأن لا حكرة في أسواقنا. وقال مقاوماً لهذه الظاهرة، متعقباً من يعتمدها في تجارته: "لا يعمد رجال في أيديهم فضول من أذهاب إلى رزق من رزق الله نزل بساحتنا فيحتكرونه علينا،
(1) مَ: 2/ 1165.
(2)
الحديث مروي من طريق علي بن سالم بن ثوبان. قال البخاري: لا يتابع حديثه. وأنكر المنذري علي بن سالم هذا وعده في المجهولين. جَه. السنن: 2/ 728.
ولكن أيّما جالب جلب على عمود كبده في الشتاء والصيف فذلك ضيف عمر. فليبع كيف شاء وليمسك كيف شاء" (1).
وهكذا نظرت الشريعة الإسلامية إلى الاحتكار من زاوية المصلحة العامة للناس. وجعلت منه محرّماً ومذموماً. نهت عنه وحرّمته على الفرد والدولة، لما فيه من تضييق على الناس في معيشتهم وإضرارٍ بهم. وأباح النظام الرأسمالي الاحتكار للفرد، وبنى عليه نظامه، وأباحته الاشتراكية للدولة (القطاع العام) توفيراً لمواردها المالية ومداً لخزائنها بما تحتاج إليه من موارد (2).
هذا وإن في الاحتكار لَمَا يحمل على الهرج والمرج والفتنة. يثير القُوى الشعبيةَ والأفرادَ على تتبع أصحاب هذا العدوان بما ينشرونه من ظلم وكيد. فهو يفضي إلى الخلل والفساد. وبين القصد من البيع والشراء، والقصد من الاحتكار في المعاملات والتجارات وردت الأحكام مشجعة على ضروب الخير في التعامل، ومقاومةِ التصرّفات الظالمة لما تُلحقه بالخاصة والعامة من أضرار.
وواجهت هذا المنكر والتصرّف الخطير تشريعات إسلامية متنوعة. قضت بإبطال الاحتكار وإبطال ما يترتب عليه من نتائج، جاعلة المقصد الأعظم في المعاملات رواج الأموال، وحماية المجتمع
(1) يبدأ هذا الأثر بقول عمر: لا حكرة في سوقنا، وبدَل: فليبع كيف شاء وليملك كيف شاء: فليبع كيف شاء الله. وليمسك كيف شاء الله. وهو بلاغ وقع لمالك عن ابن الخطاب. 31 كتاب البيوع، 24 باب الحكرة والتربص. الحديث 56. طَ: 2/ 651.
(2)
د/ قحطان عبد الرحمن الدوري. الاحتكار في الإدارة المالية في الإسلام: 1/ 269 - 363. مآب.
والأفراد من عبث العابثين وكيد المحتكرين، ونشر الأمن الاجتماعي، وتوفير أسباب الراحة والسعة في الحياة الفردية والاجتماعية.
وتعددت صور الاحتكار في العصر الحاضر في الدول الرأسمالية، وبهذا انتشر الحيف والظلم في أقطار الأرض، وصار من سمات الأسواق العالَمية. وأصبحت مقاضاته والتحكم فيه أمراً محدوداً. ومن صور الاحتكار اليوم:
(1)
ما يعرف بـ Trust. يقول الدكتور محمد عبد الله العربي: هو أن تتألف هذه الصورة من هيئة أمناء. مهمتها اشتراء جميع السلع المطلوب احتكارها من السوق، بل ابتياع كمية من أسهم الشركات المنتجة لهذه السلع، أو لعناصر إنتاجها، كمية تمكنها من السيطرة الكاملة على عمليات هذه الشركات وعلى سياستها.
(2)
الشركة القابضة Holding company وهي هيئة الأمناء المذكورة في الصورة السابقة. تتولّى شراء أي كمية من أسهم الشركات الأعضاء، فتتمكن بذلك من السيطرة على هذه الشركات. وقد ظل هذا العمل مشروعاً طوال المدة فيما بين 1900 - 1914.
(3)
ولجأ المحتكرون بعد ذلك إلى صورة ثالثة، هي صورة الاندماجات Amalgamation Merger. والاندماج هو اتحاد شركتين أو أكثر تشتري إحداهما جميع أسهم الشركات الأخرى، بحيث لا يبقى من هذه الشركات سوى واحدة هي الداعية إلى الاندماج، أو تقوم شركة جديدة، تشتري جميع أسهم هذه الشركات وتحلُّها جميعها فتتحكم دونها في السوق.
وقد يفرض الوضع الاحتكاري تأسيس منشآت متعددة: Multiple-unit Monopoly. تستجيز الاحتكار في صورٍ متعددة:
(1)
ويكون ذلك باتفاقات الأثمان، كأن يتفق المنتجون على تحديد أثمان السلع فيما بينهم، أو أن يتفقوا على تحديد كمية الإنتاج. وغرضهم الحصول على أعظم الربح بالرغم من تعدد المنتجين.
(2)
وأخرى تقوم بقيادة الأثمان، فتتولى باعتبارها المنتج الصناعي الأكبر، تحديد ثمن البضاعة، فيتبعها سائر المنتجين الصغار. ثم تخفض الثمن الذي حددته لذلك الإنتاج المشترك لمدة معينة، فتلحق بالمزاحمين لها في السوق الخسائر الفادحة.
(3)
تجميع إمكانيات فئة من المنتجين يتماثل نشاطها الإنتاجي وإحصاء هذه الإمكانيات، ثم الاتفاق بينهم على نبذ الصراع التنافسي وتحديد الثمن، فيعود عليهم بأقصى ربح احتكاري عن منتجاتهم.
(4)
ومن صور الاحتكار "الكارتل" Cartle. وهو اتفاق المنتجين في الفرع الواحد من فروع الإنتاج على بعض المسائل ليتخلصوا من مضار المنافسة مع احتفاظ كل منهم باستقلاله في كل الأمور التي لا يتناولها الاتفاق. وللكارتل أنواع متعددة:
فمنه الضيّق، والواسع، والدولي.
ومن الأسف أن يساند هذه الصور والهيئات الاحتكارية في معاملاتها اليوم تطورُ أساليب الصناعة الحديثة من جهة، والاشتراكُ بين أقطاب الصناعة الحديثة وبين المصارف المالية الربوية من جهة ثانية (1).
واضطر برلمان الولايات المتحدة سنة 1890 إلى إصدار أول قانون يعرف بقانون شرمان. وتبعت ذلك تشريعات مماثلة، وأصدرت المحكمة العليا بولاية أوهايو أحكاماً تدين شركة البترول
(1) د/ محمد عبد المنعم الجمال. موسوعة الاقتصاد الإسلامي: 159 - 170.