الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واقتضى النظر الشرعي، في مثل هذه المعاملات، تصرّفاً حراً لرب المال في ماله: يوصى بالمقدار المحدّد منه لمن شاء حسب اختياره وغيرَ مضار. وقد جاءت السُّنة النبولهة الشريفة بمراعاة الحقّين. فأبقت حقّ الوصية محترماً يعود فيه الأمر إلى رب المال، فلا يبذله لوارث، وجعلت حق القرابة محترماً أيضاً فلم تأذن في الوصيّة بأكثر من الثلث.
وفي هذه الخلاصة جمع بين الأدلة من الكتاب والسُّنة، ومناقشة لبعض الأدلة الأخرى، وتحليل للأحكام الشرعية المتعلّقة بالوصية والمفصِّلة لمقاصدها وأهدافها التشريعية.
* * *
المثال الخامس: مثال من كتاب كشف المُغطَّى: حديث بيع الخيار
روى مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه، ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار". قال مالك: وليس لهذا عندنا حد محدود ولا أمر معمول به (1).
وهذا الحديث من أكثر أحاديث أبواب المعاملات دوراناً على الألسنة. أشبعه العلماء بحثاً، وتداولوه نظراً وتفقّهاً. وهو ليس بحاجة إلى الدرس أو البحث لولا المراد منه عند المالكية قد خَفِي. وبخاصة مقالة الإمام مالك فيه: ليس لهذا عندنا حد محدود ولا أمر معمول به.
وهذه الجملة آذنت بأن في الأمر اختلافاً في الفهم، وأن قول الإمام مالك "عندنا" فيه تنظير، بل مقابلة لما عليه الأمر عند غيره ممّن حمل معنى الافتراق على المراد منه. وقد أشكل هذا. ومن ثَمّ
(1) طَ: 31 كتاب البيوع، 38 باب بيع الخيار: 2/ 671، 79؛ الكشف:280.
تعلّق غرض الشيخ ابن عاشور بالكشف عن المراد بالافتراق فردّه إلى ما قاله الفقهاء بشأنه.
وفيه عند طائفة إثبات حق الخيار لكل من المتعاقدين في المجلس. وقال آخرون: لا يمكن أن يقال بهذا الخيار ومحلّه المجلس، والمجلس غير واضح ولا منضبط.
وإلى تأييد الوجه الثاني ذهب القاضي ابن العربي مصرّحاً بعدم صحّة الخيار. قال في شرح القَبَس: إن المجلس المشار إليه مجهول المدة. ولو شَرَط الخيار مدّة مجهولة لبطل إجماعاً. وحجّته في ذلك أن ثبوت الحكم بالشرع لا يتم إذا كان شرطه غير جائز شرعاً.
وذهبت طائفة ثانية من المالكية إلى أن الإمام أخذ بعمل أهل المدينة. وردّ عليه القاضي أشنعَ ردّ، متّهماً أصحاب هذا الرأي بقصور الفهم، وبأن تفسير مقالة الإمام إنما هي ما كشف عنه هو، وبرهن عليه.
والذي يفسّر كلام القاضي هذا أن الحديث رواه ابن عمر وحكيم بن حزام فيما تعمّ به البلوى. وأن الناس قد حملوه محملاً غير بيّن لأن المجلس المذكور في الحديث غير بيّن. وهكذا دفع الشيخ ابن عاشور مقولة هؤلاء قائلاً: إن شأن التشريع في الحقوق أن يكون مضبوطاً. وبدون انضباطه لا يتمكن المُتَعامِلُون من المطالبة بالحقوق، ولا يتسنّى للقضاة فصل القضاء. وهذا من باب نقض أدلة الخصم، إبقاءً على الوجه الذي يرتضيه شرعاً في مثل هذه القضايا (1). ومضياً في ذلك، وتأكيداً له قال: إن الحديث محل النظر ورد مجملاً، لا يصحبه ما يبيّنه من عمل. ولذلك علّل الإمام مالك عدم الأخذ به بقوله:"ولا أمر معمول به". والأدلة المجملة لا تكون أدلّة تفقّه،
(1) كشف المغطى: 280 - 281.
فيجب التوقّف. ودعا في مثل هذه الحالة إلى الرجوع إلى القواعد الشرعية. فالأصل في البيوع الانضباط وطرح الغرر. وروي عن ابن عمر، الذي كان يرى العمل بخيار المجلس، أنه كان إذا رغب في انعقاد بيع شيء ابتاعه انصرف عن المجلس. وقد حمل سلوكه هذا غيرَه من بعده على إطالة البقاء في المجلس إذا كان يرغب في بقاء حق الرد.
ومهما يكن من رأي فإن مثل هذا التصرّف كان في نظر ابن عاشور مثاراً لعدم الانضباط وحصول الغرر، في حين أن الأصل في العقود اللزوم؛ لأن دلالة العقود القولية والفعلية تتطلّب تحصيل آثارها في المِلْك وغيره.
وتغليباً لمذهب المالكية يقول صاحب الكشف: إن الأظهر في هذا الحديث إرادة التفرّق بالأجساد. وهو التفرّق المعتاد الذي يحصل بين المتبايعين بعد إتمام إجراءات البيع من حصول التراضي ودفع الثمن وقبض السلعة. وهكذا يكون إجراء قوله صلى الله عليه وسلم: "ما لم يتفرقا" على الغالب. ويحصل المقصود الأساس من البيع وهو البتُّ والتحقق، أو يكون القصد من هذا التمهيدَ إلى ما بعد انبرام العقد وحصول نتائجه وهو ما استثناه صلى الله عليه وسلم بقوله:"إلا بيع الخيار".
* * *
وفي ختام هذا الفصل يتأكّد التنبيه إلى أن هناك فرقاً بين كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية وكُتب: التحرير والتنوير، والنظر الفسيح، وكشف المغطى. فالأول يتميز بقيامه على التعريف بالمقاصد وأنواعها، وتطوّرات النظر فيها، ودور الأئمة الرواد في الإشارة إليها، وبيان الطرق التي تُوَصّل إليها. فقد بحث الشيخ ابن عاشور الخطاب الشرعي وما يتصل به من مباحث، وأمعن النظر بصفة خاصة
في دراسة الأوامر والنواهي والمقاصد والمصالح وأنواع الحقوق، وضَبَط مستحقّيها، منتهياً إلى القواعد والأصول المتصلة بالحياة في سائر مجالاتها، غير تارك في ذلك المعاملات المادية والتصرّفات المالية والسلوكيات والآداب الإسلامية. وهذه كلها جوانب نظرية تأصيلية لقضايا علم المقاصد.
وإذا التفتنا إلى مصنّفاتِه الأخرى التي ذكرناها وجدناه ينهج فيها منهج التطبيق لتلك النظريات، والتوسع في التمثيل لها. وكأنّ كتاب المقاصد قد وضع قانوناً عاماً لعلم المقاصد تجتمع فيه أغراضه ومحاوره. وهو وإن كان قد اعتمد على الأصلين من الكتاب والسُّنة، وتعرّض للكثير من المسائل الفقهية والشرعية، فقد نبّه من خلال عرضه لها على المقاصد المتصلة بمسائل العبادات والأحوال الشخصية والمعاملات، فوفّاها حقها شرحاً وإيضاحاً، تحليلاً واستدلالاً، إبداعاً واكتشافاً لما لم يصل إليه الكثير من العلماء من التعليلات والنتائج التي لها ارتباط متين بمقاصد الشريعة وأسرار التشريع.
ولا تقف بنا الإشارة إلى ما قدمناه من بيان لمحتويات كتاب شيخنا في المقاصد، ولكننا نتجاوزه إلى المقالات والكتب الفقهية والشرعية التي نعتد بها عند بحثه للجانب التكميلي للمقاصد. وهو ما تضمنه كتاب أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، الذي أحال عليه غير مرّة في مقاصده (1). فلا نطيل الوقوف عنده بعد الذي عرفناه من خلال التفسير للذكر الحكيم والشرح والتحليل لجملة أحاديث من السُّنة النبوية. ولكننا نختصر الكلام فيه كما صنعنا مع تآليفه السابقة الذكر، مكتفين باستعراض مقال أو ذكر مثال.
(1) المقاصد: 29، 379.