الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تولية القاضي:
لعلو منزلة القضاء، وجعله أمانة في المجتمعات الإنسانية ولها، ولاعتبارهم القاضي أهم أركان القضاء، إذ في صلاحه وكماله صلاح بقية ما يحفّ به من أحوال كما قدمنا. تعرض أكثر الفقهاء في كتبهم، في أبواب القضاء والشهادات، وفي مصنفاتهم الخاصة بهذه المرتبة السنية وهي أدب القاضي، إلى ذكر جملة من الصفات أو الشروط التي يلتزمون بها في تولية القضاة.
فمن جملة النصوص المعرّفة بواجب الولاة في اختيار مَن يصلح لهذا المهم الذي يتوقّف عليه تبيين الحقوق وإسنادها إلى مستحقيها، قول الإمام ابن تيمية: يجب على ولي الأمر البحث عن المستحقين للولايات، من نوابه على الأمصار من الأمراء الذين هم نواب ذي السلطان والقضاة .. فيجب على كل من ولي شيئاً من أمر المسلمين، من هؤلاء وغيرهم أن يستعمل، فيما تحت يده في كل موضع، أصلحَ من يقدر عليه (1).
وقد تتبعنا أقوال الأئمة في كثير من المذاهب فوجدناها تشترط لولاية القضاء شروطاً صحيحة متفقاً عليها إجمالاً. وهي: الإسلام، والبلوغ، والعقل، وسلامة الحواس، والعلم بالأحكام الشرعية، والعدالة. وشروط مختلف فيها كالذكورة، والاجتهاد.
ولم يكن يعنينا في هذا المحل غير شرط العلم الذي يتعين تحريره لضبط الرأي الشرعي فيه. ولا يتم ذلك إلا بالنظر في أحوال المجتهد والعالم والمقلِّد، والعامي أو الجاهل.
(1) السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية: 2.
(1)
أما المجتهد فهو من يبذل الجهد في استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها بالنظر المؤدّي إليها. ورجّح ابن السمعاني، على هذا التعريف، قولَ بعضهم في الاجتهاد: هو طلب الصواب بالأمارات الدالة عليه. فهو أليق بكلام الفقهاء. ووضع علماءُ الأصول شروطاً للمجتهد منها: الإسلام، والعلم باللسان وبالكتاب، وبالناسخ والمنسوخ، وبالسُّنة، ومواضع الإجماع، وأن يتوافر له صحة الفهم وحُسن التقدير، وسلامة الاعتقاد، وإخلاص النية.
والاجتهاد بالنسبة للقضاء يُطلق على المسلك الذي يتبعه القضاة في أحكامهم، سواء منها ما يتعلق بنصوص الشرع، أم باستنباط الحكم الواجب تطبيقه عند عدم النص، وخاصة في البلاد التي لها قانون مدوّن جامع. وإنما يتقيّد الحاكم باجتهاد المحاكم العليا التي تتقيد بدورها باجتهادها السابق. وتُمثل في الواقع هذه الاجتهادات العرف العام (1).
وقال العطار محدداً وظيفة الاجتهاد: لا يقبل الاجتهاد من المجتهد أو من غيره إلا إذا اتفق مع قواعد هذا المهم. ويحصر أدلة هذا العلم في أدلّة الأحكام الشرعية ومصادرها في القرآن والسُّنة والإجماع والقياس والاستحسان والعرف والمصلحة المرسلة والذرائع والاستصحاب وشرع مَن قبلنا (2).
(2)
وأما العالم المقلِّد الذي يُعدّ في الدرجة الثانية بعد المجتهد، فهو ضد الجاهل. دليل ذلك قوله تعالى:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (3).
(1) د/ صبحي المحمصاني. فلسفة التشريع الإسلامي: 144.
(2)
عبد الناصر توفيق العطار. الوجيز في تاريخ القانون: 189 - 190.
(3)
سورة الزمر، الآية:9.
والعلم يُطلق على إدراك المسائل. ولهذا السبب قالوا: الفقه هو الفهم، ويُطلق على المسائل نفسها، وعلى الملكة الحاصلة للمتمرس به وبقضاياه. وعلى هذا النحو قالوا: العلم هو الوجود الذهني، إذ لا يعقل ما هو معدوم صِرف بحسب الخارج كالممتنعات (1).
واعتمد الماوردي على نفي مساواة العالم بغيره في الآية، لأنها وردت مورد الزجر، فأصبح الزجر أمراً في معنى الأمر بالعلم ونهياً عن الجهل.
وبحكم هذا التفسير أو الاتجاه في وصف القاضي يصبح المقصود من العلم العلمَ بأصول الأحكام التي نصّ عليها معاذ في حديث: "كيف قضيت"؟ (2).
وإذا كان العالِم المقلّد هنا هو الفقيه في اصطلاحاتنا الشرعية، فإن هذا الفقيه هو من يكون ذا علم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية، والفقه هو نفس هذه الأحكام التي نحتاج في معرفتها إلى التأمل والفهم، وبعضٍ من الاجتهاد وإعمال الرأي (3).
(3)
وأما العامي الذي يمكن اعتباره في الدرجة الثالثة بعد المجتهد والفقيه في بعض المذاهب، والذي قد تقتضي المصلحة وجودَه، فهو مَن لا يستطيع أن ينهض بأعباء القضاء على وجه قريب من المطلوب إلا بواسطة الاستشارة والجنوح إلى أقوال من سبقه من
(1) القنوجي: أبجد العلوم: 2، (21)، 1، 14.
(2)
الماوردي: أدب القاضي: 2/ 272.
(3)
د/ محمد سلام مدكور. مناهج الاجتهاد: 23 - 24.
الفقهاء والمفتين. وأكثر المذاهب لا تبيح تقليدَه خطة القضاء لأنها وإن صحّت نسبته إليها فإن جهله يحول دون قضائه بالحق، ويقع الحكم منه باطلاً من حيث لا يشعر. قال الماوردي: ويدخل في الوعيد لأنه قَضَى على جهل (1).
وبنظرة سريعة إلى المذاهب الأربعة يمكن التفريق بينها فى شأن العلم.
فالحنفية، وإن كانوا لا يعتبرون العلم شرطَ صحة في تولية القضاء بل شرطَ ندب واستحباب؛ منقسمون إلى فريقين:
الأول: يجيز تقليد العامي القضاء، لأنه قد يحكم بعلم غيره باعتماده في هذا المهم فتاوى وأحكام مَن تقدمه من القضاة فيقضي بها.
الثاني: لا يَقبل تقليدَ العامي القضاء بحال. فَتَوْلِيته وإن جازت شكلاً عند أصحاب الفريق الأول فلا ينبغي أن يتصرّف بحكم هذا التقليد في قضايا الناس، لما يترتب على تصرّفه هذا في الأحكام من إضرار بالمجتمع، وجور على الخلق. وهذا باطل شرعاً لا يقبل تبريراً، ولا يمكن القيام به لما فيه من ردٍّ وإبطال لحديث معاذ، ولمخالفته إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لمُعاذ، ورضاه بما ذكره من الأصول التي تبعها القاضي مطمئناً. فهو إما أن يحكم بالكتاب، وإما أن يحكم بالسُّنة، وإما بما يلتمسه من مصادر التشريع الأخرى. ولا يتأتّى هذا للعامي إذ هو مقطوع الصلة بهذه المصادر وبالوجوه الثلاثة من الحكم، فأين سبيله إليها؟!. وقد توعّد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا النوع من
(1) أدب القاضي: 1/ 639.
المستخفِّين بحقوق الخلق قائلاً: "القضاة ثلاثة: قاضٍ في الجنة، وقاضيان في النار"(1). ويدل هذا على أن القضاء بغير علم مدرجة للحكم بالباطل، وللوقوع في الظلم ولو من غير شعور أو توقّع.
وقالت الشافعية: الشرائط المعتبرة في تولية القضاء عشرة. وذكروا منها الاجتهاد. والاجتهاد هو العلم بالكتاب والسُّنة والإجماع والقياس وأقوال العلماء ولسان العرب (2). فلو لم يصل القاضي باجتهاده إلى حكم الحادثة ففي جواز تقليده وجهان:
الأول: قول ابن سريح: يجوز أن يقلّد فيها للضرورة، ويحكم لأنه ما من عالِم إلا وتُشكل عليه أحكام بعض الحوادث.
الثاني: قول المروزي: لا يجوز أن يقلَّد في قضائه، ويستخلف عليها من يحكم باجتهاده، إن ضاق وقت الحادثة. وذلك الحاكم ملزَم، فلا يجوز أن يلزمه ما لا يعتقد لزومه.
قال المزني: قال الشافعي رحمه الله: ولا يشاوِرُ إذا نزل به المشكلُ إلا عالماً بالكتاب والسُّنة والآثار وأقاويل الناس والقياس ولسان العرب (3).
والمجتهد ثلاثة أقسام: مجتهدٌ مطلق، ومجتهدُ مذهب، ومجتهدُ فتوى.
واشترطت الحنابلة الاجتهاد أيضاً فيمن يلي رتبة القضاء، وأَوْلَوا الأمرَ أعدَلَ المقلِّدين وأعرَفَهم عند غياب المجتهد حتى لا
(1) دَ: 4/ 5؛ تَ: 3/ 613؛ جَه: 2/ 776.
(2)
الموسوعة الفقهية: 33/ 293.
(3)
الماوردي. الحاوي الكبير: 20/ 103.
تسقط الأحكام ولا يختلَّ النظام. واشترطوا في المجتهد أن يقتصر في الاجتهاد على مذهب إمامه للضرورة. فإن كان مقلداً جرى على نفس المهيع الذي عَمِل به الناس من مدة طويلة (1).
وذهبت المالكية إلى اشتراط العلم في تولية القاضي. وقالت: ينبغي أن يكون عالماً بالأحكام الشرعية التي ولي القضاء بها، ولو مقلداً لمجتهد على المعتمد، خلافاً لخليل (2).
وتوسّع الإمام الأكبر في بيان اشتراط العلم للقاضي في مذهبه عند المالكية وقال: الشرط الأول الاجتهاد إن وجد، وأن يكون صاحبه، أي المجتهد، مشتهراً بذلك، وسلّمت له مرتبة الاجتهاد من طائفة علماء عصره.
ثم عقّب على هذا الرأي بقوله:
(1)
إن العالِم المقلّد لمذهب مجتهد مشهور، العالِم بالأدلة لا يقصرُ في استحقاقه القضاء عن المجتهد. وولاية الفقيه المقلَّد إنما تكون للفقيه في المذهب الذي تقلّده الناس الذين يقضي بينهم.
(2)
وجوب استحضار القاضي للأحكام الشرعية في المسائل الكثيرة النزول، وأن يكون مقتدراً على الإطلاع على أحكام والنوازل ونوادرها، عند دعاء الحاجة إليها، بسهولة.
ونقل لنا الإمام بعد هذا عن ابن القاسم أنه لا يُستقضَى من ليس بفقيه. ومضى يصوّر درجات القضاة مومئاً إليها بعدُ بذكر ما يحصل للقاضي بها من العلم التام الكفيل بنجاحه في مهمته. فيروِي عن أصبغ وأشهب ومطرف وابن الماجشون: أنه لا يصلح أن يكون
(1) كشاف القناع: 6/ 295 - 296.
(2)
الدسوقي: 4/ 129؛ الشرح الصغير: 4/ 187.