الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومراعاة المقاصد الشرعية عند وضع الأحكام، وتجنُّبُ كل ما فيه انحراف عن الأدلّة أو مناقضة لها.
فالتمسك في كل هذا يكون بالآيات القرآنية بعد فقهها وفهمها الفهم الدقيق المحقّق للغرض منها، وبالسُّنة الصحيحة التي اتفق علماء الحديث ونقاده على العمل بها، حصر بعضهم هذه فيما تواتر منها تواتراً معنوياً (1). وبالمقاصد الشرعية المرادة للشارع، وهي التي من أَجلِ تحقيقها وضعت الأحكام.
فالأحكام هي التي تتحقّق بها مصالح الخلق في الدنيا والأخرى. ويفتقر النظر فيها والتمييز لها إلى العلم بالسُّنة ومصطلحاتها. فلا يقدر على هذا غير من ثبت للناس بصرُه بمصادر الشريعة، وقدرتُه على الاجتهاد، وفق قوانين العلم بالعربية والأصول والاجتهادات الشرعية للسابقين من الأئمة. ومن لم يكن هذا شأنه كان من المتقوّلين على الله، ومن يفعل ذلك يلق أثاماً وكَلامُه ردّ.
ذلك أن العالِم المؤمن يقوم اجتهاده على مراعاة تلك المقاصد والمصالح المعتبرة التي أذن فيها الشارع، فيقضي ويفتي بها صائناً بذلك تشاريع ربه من أيّ تغيير أو تبديل، ومن غير تحريف للكلم عن مواضعه. وهو ما توعّد الله عليه. وقد حفظ سبحانه تشريعاته، وتولّى بنفسه جل جلاله حمايةَ كتابه بقوله:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (2).
القواعد والضوابط لمعرفة الأحكام وتعيين المقاصد:
وضع كثير من شيوخ العلم من المجتهدين والفقهاء جملة من
(1) المقاصد: 62 - 63.
(2)
سورة الحجر، الآية:9.
القواعد والضوابط يتقيّد بها الفقهاء يسيرون على نهجها، ويهتدون بها، حرصاً منهم على طلب مقاصد الشريعة، وتطلعاً إلى ما يترتب على ذلك من التزام بها في الدنيا وجزاءٍ عليها في الأخرى.
وهذه جملة من القواعد تسطّر منهاجاً للمجتهدين وسبيلاً للباحثين والدارسين.
° فهي: تُحدد ما يترتب على الإيمان والاستقامة والعمل الصالح من ثواب وجزاء على ذلك في الدنيا والآخرة. يشهد لهذا قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} (1)، وقوله:{لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (2)، وقوله:{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} (3).
كما حَدّدت قواعدُ الشريعة ما يترتب على الكفر، والإعراض عن الحق، والفساد في الأرض من عذاب وعقاب. قال تعالى:{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} (4)، وقوله:{فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} (5).
ومن الوعيد على الكفر العذاب الأكبر الذي أعدّه الله لهم. وهو ما ينبئ عنه قوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} (6).
(1) سورة الحجر، الآية: 45 - 46.
(2)
سورة الحجر، الآية:48.
(3)
سورة الزمر، الآية:73.
(4)
سورة الزخرف، الآية: 74 - 75.
(5)
سورة الحج، الآية: 19 - 21.
(6)
سورة طه، الآية:74.
فهذه الآيات تحمل أولي النُّهَى على جعل الآخرة موضع اهتمامهم، واعتبارِ هذه الدار متْجراً لهم، كما تضبط المنهج السلوكي الذي دعاهم الرحمن إلى الالتزام به. والقاعدة في هذا أن المصالح المجتلبة والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقامُ الحياة الدنيا، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها أو درء مفاسدها العادية (1)، والمعتمد في هذا اتباع منهج الشرع. فهو جل جلاله العليم بالمصلحة من هذه الناحية، الموفّق بينها وبين ما أجراه في سُنة الوجود.
والقاعدة بهذه الصورة ليست تلك التي عرفها علماء الأصول بكونها الأمرَ الكلي المنطبق على جميع جزئياته عند تعرف أحكامها منه، بل هي هنا كما ذكرها التهانوي في اصطلاح العلماء، أوسع من ذلك. وعلى هذا جرى العز بن عبد السلام في قواعده (2).
وإلى جانب هذا النوع من القواعد التي لا ينبغي أن تغيب عن المرء طوال حياته، أشير إلى قسم ثان منها مثاله:
° إن مجيء الشرع كان لهداية الناس إلى مصالح العباد، وإن دور الشريعة حفظُ مصالحها في الخلق (3).
° إن الشريعة تحيط بجزئيات من المصالح لا يحيط بها العقل (4).
(1) الموافقات: (5) 2/ 29.
(2)
التهانوي. اصطلاح الفنون: 5/ 1176.
(3)
الموافقات: (3) 2/ 8، 37، 3/ 5، 105.
(4)
القرافي. النفائس: 1/ 402؛ الموافقات: (3) 2/ 48.
° أن في الأمر والنهي والتخيير حظاً للمكلف وحفظاً لمصالحه، أما الله فهو غني عن الحظوظ، مُنزّه عن الأغراض (1).
وهذه جميعها تؤكد على هدي الشريعة في الأخذ بقواعد الدين، واعتبار أن ما جاء عن طريقها هو خير الطرق وأفضلها. بل هو جماع الطرق المحققة للسعادة، الكفيلة بجلب المصالح ودرء المفاسد. ولهذا الاعتبار حذّر العلماءُ من مخالفة الشرع. ومن الاستغناء عنه بما يمليه أو يدل عليه النظر والعقل. وقد اخترت من القواعد أمثلة مما نبه إليه الإمام الغزالي:
° يجب أن يكون اتباع المصالح مبنياً على ضوابط الشرع ومراسمه (2).
° وجوب المحافظة على حدود الشريعة والإعراض عن المصالح (3).
° اتباع المصالح مع مناقضة النص باطل (4).
وفي هذا تحذير من مجاراة الهوى واتباع الشهوات والصدوف عن الهدي الشرعي.
ومن القواعد الواردة في هذا الغرض أيضاً:
° أن القصد الشرعي من التشريع هو إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً، كما أنه عبد له اضطراراً (5). وتتعلق هذه القاعدة بالأمر الأعظم، وهو جهة المصلحة التي هي عماد الدين
(1) الموافقات: (3) 1/ 148.
(2)
شفاء الغليل: 245.
(3)
شفاء الغليل: 202.
(4)
شفاء الغليل: 220.
(5)
الموافقات: (3) 2/ 186.
والدنيا، لا من حيث هوى النفوس، ولكن من جهة دلالة الشرع عليها والدعوة إليها. والآيات الواردة في هذا الغرض كثيرة، منها قوله تعالى:{يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (1)، وقوله:{فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} (2)، وقوله:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} (3).
° اتباع الهوى في المحمود طريق إلى المذموم، لأنه إذا تبيّن أنه مضاد بوضعه لوضع الشريعة، فحيثما زاحم مقتضاها في العمل كان مخوفاً (4). وقد حذّر العلماء من قبح هذا السلوك الخطير بقولهم: متبع الهوى كالمرائي يتخذ الأعمال الصالحة لما في أيدي الناس لاقتناص أغراضه.
° قصد الشارع من المكلف أن يكون قصدُه في العمل موافقاً لقصده في التشريع، فإن ذلك اعتباراً لمصالح العباد على الإطلاق والعموم. والمطلوب من المكلف أن يجري على ذلك في أفعاله، وألّا يقصد خلاف ما قصده الشارع.
وقد اقترنت بالملحظ المتقدم عند الشيخ الإمام قضايا المقاصد ومسائلها بموضوعات المصالح وتفاريعها.
واعتباراً لهذه القواعد، وما ينجم عن مخالفتها من محاذير، تضمن القسم الأول من مقاصد الشريعة الإسلامية فصلين هامَّين:
(1) سورة ص، الآية:6.
(2)
سورة النازعات، الآية: 37 - 38.
(3)
سورة الجاثية، الآية: 23؛ الموافقات: (3) 2/ 37، 331.
(4)
الموافقات: (3) 2/ 174.
يقرر أولهما صعوبة التوصل إلى تعيين المقاصد، وزعم الرازي أن أحكام الله ليست معللة بعلة البتة، كما أن أفعاله كذلك (1)، وهو الذي ترجم له باحتياج الفقيه إلى معرفة المقاصد.
ويكشف ثانيهما عن الطرق المعتمدة لذلك عند علماء السلف، ومن جاء بعدهم من العلماء والفقهاء (2).
* * * * *
(1) الموافقات: 2/ 6.
(2)
المقاصد: 19 - 26.