الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والقراض والجعل والمزارعة. وهذه معاملات مما يراد تكثيره لتأكد الحاجة إليه. وفرّق بين هذه المعاملات صاحب المقاصد وبيّن أنها مما يدخله الغبن والغرر، وهو مغتفر فيها بخلاف المعاملات المالية، فإنها لا يدخلها شيء من ذلك الغرر على أيّ طرف من أطراف العقد.
وإنما جاز العقد على عمل الأبدان لصعوبة انضباط مقادير العمل المتعاقد عليه فيه، وتعسر معرفة ما ينجر للعامل من الربح، وما يحصل لصاحب المال فيها من إنتاج. ومن حِكمة الشريعة في إلغاء اعتبار الغرر والضرر في هذه العقود الخوف من بقاء أهل العمل عاطلين. وهذا أشد عليهم مما يلحقهم من الخيبة في بعض الصور والأحوال.
وقد دلّ على مشروعية هذه الأعمال البدنية عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اليهود في إعطائهم نخل خيبر للعمل فيه مقابل نصف الثمرة من محصولها. وكذلك ما فعله الأنصار مع المهاجرين حين سلَّموا إليهم حوائطهم للعمل بها.
وخشية الإطالة في شرح هذه المسألة نقف عند أنواع أربعة من المعاملات المشار إليها آنفاً هي:
المضاربة
، والمساقاة، والمزارعة، والمغارسة.
المضاربة:
المضاربة عند أهل العراق هي القراض في بلاد الحجاز. والتسمية الأولى مستمدة من الضرب في الأرض. قال تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} (1)، ومن قوله عز وجل: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ
(1) سورة النساء، الآية:101.
مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (1). والتسمية الثانية مأخوذة من اصطلاح أهل المدينة. وذلك قول الصحابة لعمر بن الخطاب في قصّته مع ابنيه: لو جعلته قراضاً. والقراض لم يرد التنصيص عليه في الكتاب ولا في السَّنة. وهو مأخوذ من الإجماع الذي لا خلاف فيه لأحد من أهل العلم. وكان في الجاهلية فأقرّه الرسول صلى الله عليه وسلم في الإسلام (2). ونصّ على الاستعمالين وفرّق بينهما في أصل التشريع ابنُ عبد البر. قال: أصل هذا الباب إجماع العلماء - يريد القراض - وقال: المضاربة سُنة معمول بها. وروي عن عمر وعائشة وابن مسعود وابن عمر أنهم كانوا يقولون: اتجروا في أموال اليتامى حتى لا تأكلها الزكاة. وكانوا يضاربون بأموال اليتامى (3).
وهي عبارة عن شركة فيها المَغْنَمُ والمَغْرَمُ لطرفي المضاربة، وأن الكسب فيها ثابت لهما مهما قلّ أو كثر.
وحَدُّ شركة المضاربة أو المقارضة دفع معلوم لمن يتّجر به بجزء معلوم مشاع من ربحه كالنصف والثلث والربع والسدس (4). وفي المجلة هي نوع شركة على أن رأس المال من طرف، والسعيَ والعملَ من الطرف الآخر (5).
والمضاربة عند الفقهاء نوعان: مطلقة، ومقيّدة. أما المطلقة فهي التي لا تتقيد بزمان ولا مكان، ولا نوع تجارة ولا بتعيين بائع ولا مشتر. وأما المقيّدة فهي التي تقيّدت بواحد من هذه الصفات.
(1) سورة المزمل، الآية:20.
(2)
ابن عبد البر. الاستذكار: 21/ 119 - 120/ ف 30707 - 30709.
(3)
ابن عبد البر. الاستذكار: 21/ 121/ ف 30711، 30712.
(4)
الروض المربع: 297؛ كشاف القناع: 3/ 507.
(5)
المجلة العدلية: م. 1404.
وهي مما اتفق عليه الفقهاء في الجملة. والخلاف في تفاصيلها (1). والمقصد الشرعي كقصد تشريع عقود المشاركة كلها، منه أصلي وتابع.
أما القصد الأصلي فهو تحصيل المال الحلال الطيب، أو تنمية الموجود منه في أيدي ملاكه بالعمل ممن لا يجده، أو لا يجد القدر الكافي منه لمباشرة التجارات الواسعة والمكاسب العظيمة، مع قدرته على العمل ومعرفته بوسائل استخراج المكاسب وتنمية الثروات.
ومن مقاصد المشاركة التابعة:
(1)
إشاعة تداول الأموال بين الناس وتكثير عدد المستفيدين منها من أفراد الأمة حتى لا تبقى دُولَةً بين عدد قليل من الناس، لا يُحسن التصرّف فيها أو لا تستوعب قدراته وطاقات الفردية تشغيلها.
(2)
تشغيل أكبر عدد ممكن من الأيدي العاملة ذات القوة البدنية والمهارة والخبرة مما يكون سبباً لزيادة الإنفاق، وتكثير المكاسب وتوفير السلع في الأسواق بأسعار رخيصة تكون في متناول الطالبين والمستهلكين.
(3)
تشغيل العاطلين، وتنمية أموال المالكين، وعموم النفع لأفراد المجتمع وفئاته المختلفة.
(4)
مظهر من مظاهر التعاون على البر والتقوى تتوثق به عرى الأخوة والتضامن والتكامل بين كل طبقات المجتمع وعناصره (2).
(1) د/ نزيه كمال حماد. معجم المصطلحات الاقتصادية: 253 - 272؛ د/ عثمان المرشد. المقاصد من أحكام الشارع. القسم الأول، الجزء الثاني:304.
(2)
د/ عثمان المرشد. المقاصد من أحكام الشارع. القسم الأول، الجزء الثاني: 501 - 506.
وفي ذيل هذا التعريف بالمضاربة وبيان المقصد الشرعي منها ومن بقية عقود المشاركات، لا يفوتنا أن ننبه إلى نوع آخر من المضاربة، يتأكد التحذير منه، وهو معروف وجارٍ في الاقتصاد الغربي. وهو يشبه ما كان يعرف في العصر الجاهلي بالقرض الإنتاجي الربوي. وهو يقوم أساساً على تحديد الفائدة الربوية، للمبلغ المقترض، كما يحدّد الزمن الذي يستغرقه القرض كأن يكون 10 % سنوياً من رأس المال، مهما كانت نتائج القرض من كسبٍ كثير أو قليل أو من خسارة. وقد أبطله الإسلام لما فيه من تضارب مع أحكام الشريعة الإسلامية، ومناقَضة لها.
وأضاف د/ علي السالوس في تفريقه بين شركة المضاربة والقرض الإنتاجي الربوي أنّ العلاقة بين صاحب القرض وآخِذِه ليست من باب الشركة. فصاحب القرض له مبلغ معين محدّد، ولا شأن له بعمل من أخذ القرض، والمقترض يستثمر ما أخذ من مال لنفسه فقط باعتباره مالكاً لذلك المال. وهو ملتزم برد مثله مع الزيادة الربوية عند حلول أجل الوفاء بذلك الدين. فإن كسب كثيراً فلنفسه، وإن خسر تحمَّلَ وحده الخسارة (1).
والمضاربة في الاقتصاد المعاصر عبارة عن عمليات بيع وشراء تنتقل معها العقود والأوراق المالية من يد ليد، دون أن يكون في نية البائع أو المشتري تسليمُ أو تسلمُ موضوع العقد المتفق عليه. وإنما غاية كل طرف من الطرفين ربِ المال والمضاربِ أو العامل الاستفادة من فرق السعر بين ما اشتراه بالأمس وما باعه اليوم، وبين ما يشتريه اليوم ويبيعه غداً. وهكذا تدور الصفقة عدَّة دَورات بين الطرفين إلى
(1) الاقتصاد الإسلامي: 1/ 134 - 136.