الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
توطئة
قدّم صاحب المقاصد لهذا المبحث ببيان توجّه الأحكام الشرعية المنوطة بتصرّفات الأمة ومعاملاتها إليها، مميزاً بين ما هو من قبيل المقاصد، وما هو من قبيل الوسائل، ومفرّقاً بين هذين الطرفين بكون المقاصد هي المتضمّنة للمصالح والمفاسد في أنفسها، وكون الوسائل عبارة عن الطرق المفضية إلى تلك المقاصد، نازعاً في هذا منزعاً فريداً لا يلتبس بالذريعة، ولم يسبقه لمثله سوى العزّ بن عبد السلام في قواعده (1)، وشهاب الدين القرافي في فروقه (2). وقد نبه إلى ذلك بقوله: لم أر من سبق إلى عرض هذا في غير بحث سدّ الذرائع سوى ما ذَكره العز بن عبد السلام في كتاب القواعد، وما أضافه إليه شهاب الدين القرافي في كتابه الفروق في الفرق الثامن والخمسين.
ثم رتب الشيخ على هذا قوله: وأنت ترى كلامهما مقتصراً على تخصيصها بمبحث المصالح والمفاسد. فغرضنا نحن أوسع، والفقه إليه أحوج (3).
والمقاصد والحِكم، التي شرعت من أجلها الأحكام، هي أكثر ما تضمنه القسم الثالث من صنوف المعاملات وضروب التصرّفات،
(1) القواعد: 123 - 129.
(2)
الفرق: 58: 2/ 32 - 34.
(3)
المقاصد: 401.
جاعلاً من صور ذلك التوثّق في عقدة الرهن، وإقامة نظام المنزل والعائلة في عقدة النكاح، ودفع الضرر المستدام الذي تسوء به المعاشرة في مشروعية الطلاق.
ويتميّز قسم مقاصد القضاء والشهادة بطرح جملة قضايا، لفَتَ إليها الإمام الأكبر النظر وهي أولاً الفقيه والقاضي. فهذا بعد مثافنته للعلم الشرعي، وممارسته للقضاء، تبرز مهارته بما اكتسبه من تجربة، وبما يتوقّعه من تطورات، ويتسم به من فهم وحزم.
ولاعتماد مصنّفه كله على العناية بإبراز المقاصد في كل مجال، نجده يتناول في هذا الباب عدداً من المواضيع أبرزها:
(1)
المقاصد التي هي المحور الأساس لكل الأحكام وتصرّفات الحكام.
(2)
جملة من القواعد الفقهية التي يُحتكم إليها في الإثبات والنفي والاختيار والترجيح.
(3)
الوزعة. وهي متفاوتة متنوعة بين دينية وجبلية وسلطانية.
(4)
التفريق بين السلطتين التنفيذية وهي الولاية، والسلطة القضائية وهي المحاكم.
(5)
الاجتهاد، والقضاء، والإجراءات الشرعية.
(6)
الآثار.
(7)
أقضية الرسول صلى الله عليه وسلم.
(8)
المسائل: كالحقوق والائتمان.
(9)
الشهادات.
(10)
العقوبات.
والمقاصد التي توّج بها المؤلف موضوعات هذا الباب، في القضاء والشهادات كثيرة متنوّعة. صدّر بها بحثه منبّهاً إلى ذلك بقوله: أنبأنا استقراء الشريعة من أقوالها وتصرّفاتها بأن مقصدها: أن يكون للأمة ولاةٌ يسوسون مصالحها، ويقيمون العدل فيها، ويُنفّذون أحكام الشريعة بينها؛ لأن الشريعة ما جاءت بما جاءت به من تحديد كيفيات معاملات الأمة، وتعيين الحقوق لأصحابها، إلا وهي تريد تنفيذ أحكامها وإيصال الحقوق إلى أربابها (1).
وهذا المقصد الجليل والهدف السامي للشريعة معلّل بما هو منتشر بين الناس من ظروف وأحوال عبّر عنها المصنّف بقوله إثر ذلك: لأن الحقوق معرّضة للاغتصاب بدافع الغضب أو الشهوة، ومعرّضة لسوء الفهم وللجهل والتناسي (2). وإنما تزيل ذلك الشريعة بحملها الناس على الاستقامة.
وأكبر مقاصد الشريعة هو حفظ نظام الأمة، وليس يُحفظ نظامها إلا بسدّ ثَلمات الهرج والفتنة والاعتداء (3).
ويتبع الشيخ رحمه الله ذكر هذا المقصد بمقصد آخر أساسه ما بنيت عليه الشريعة من هداية، وقام به السلطان من دعوة، وحثٍّ على الالتزام به من أحكام الشريعة، ودفع ورفع أسباب الغواية. ويُثنّي المؤلف على ذلك بوجوب تعيين ولاة لإقامة أمورها، وإيجاد قوة تعين على تنفيذ أحكام الشريعة بينها. وهذا ما يستوجب وجودَ حكومة وسلطان هما من لوازم إقامة الشريعة لئلا تتعرّض في بعض الأوقات إلى التعطيل.
(1) المقاصد: 515.
(2)
المقاصد: 515.
(3)
المقاصد: 546.
ويتّجه الشيخ إثر ذلك إلى غرضين هامين: الأول منهما ناتج عن العناية بالشريعة، والثاني عن إحلال مهابتها في النفوس بجعل الآخذين بها المنتسبين إليها متمسكين بما تميّزت به من منهج في الحياة، ومحافظين على مقاصدها.
وقد جاء تصوير ذينك الغرضين في كتاب المقاصد بقوله: إن أهم المقاصد لتهيئة إقامة الشريعة وتنفيذها بثّ علومها وتكثير علمائها وحملتها. وذلك فرض كفاية على الأمة بمقدار ما يسدّ حاجتها، ويكفي مهماتها، في سعة أقطارها وعظمة أمصارها (1).
ويعقب على بيانه هذا بالتأكيد على أن تحقيق تنفيذ الشريعة يكون بإيقاعِ حرمتها في نفوس الأمة. ويقينُ الأمة بسداد شريعتها، شريعة الإسلام، يقوم على الأدلة القاطعة بأنها معصومة لاستنادها إلى الوحي (2).
وهو ينبّه إثر ذلك إلى أن النظر في مثل هذا المهم ينبغي أن يكون منصباً على مقاصد الشريعة وما تقتضيه من إيصال الحقوق إلى أصحابها، على نحو ما رسمه الشرع تأصيلاً وتفريعاً. والذين يتولون هذا هم القضاة، وأهل شوراهم، وأعوانهم، وما تتألف منه طرق أقضيتهم من بيّنات ورسوم (3).
ونظام هيئة القضاء كفيل بالإعانة على إظهار الحقوق وقمع الباطل الظاهر والخفي، والدلائل على هذا كثيرة نجدها في الأحاديث والأخبار الواردة بكتب الأقضية والشهادات ودواوين السُّنة كالصحيحين وموطأ الامام مالك وجامع الترمذي وسُنن أبي داود (4).
(1) المقاصد: 517.
(2)
المقاصد: 517.
(3)
المقاصد: 519.
(4)
المقاصد: 520 - 521.
وكل من ولي ولاية الخلافة فما دونها إلى الوصية كما نبه على ذلك القرافي في الفرق الثالث والعشرين بعد المائتين، لا يحل له أن يتصرّف إلا لجلب مصلحة أو درء مفسدة. فيكون الأئمة والولاة معزولين عما ليس بأحسن. والمرجوح أبداً ليس بأحسن، وليس الأخذ به بذلاً للاجتهاد (1). وأصل هذه القاعدة قول الله عز وجل:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2). وهي تستهدف مقصداً سامياً هو التمكن من رعاية المجتمع بتنقيته من الشوائب الضارة به، ونشر الحق والعدل فيه. ومن أجل هذا عاد الشيخ ابن عاشور يذكّر بواجبات هيئة القضاء وبدور القاضي قائلاً: إن مقصد الشريعة من القاضي إبلاغه الحقوق إلى طالبيها. وذلك يعتمد أموراً عديدة منها أصالة الرأي، والعلم، والسلامة من نفوذ الغير عليه، والعدالة.
ومن لوازم أصالة الرأي العقل، والتكليف، والفطنة، وسلامة الحواس.
والعلم، هو العلم بالأحكام الشرعية التي يجري بها القضاء فيما ولي عليه القاضي من نوازل. ومن اجتمع فيه من القضاة خصلتان: العلم والورع، تعيّن أن يكون أمثل العلماء الصالحين، وبمقدار قوة علمه يزداد ترجّحه (3).
وسلامة القاضي من نفوذ غيره عليه شرطٌ لتحقّق حريته وقدرته على الوفاء بما يقتضيه استقلال القضاء، وهو ما يعرف في المصطلح المعاصر بمبدأ تفريق السلط. وفي هذا قال أشهب: إن من واجبات القاضي أن يكون مستخفاً بتوسّطات الولاة في النوازل، وشفاعتهم
(1) الفروق: 4/ 39.
(2)
سورة الأنعام، الآية:152.
(3)
المقاصد: 522 - 523.
فيها، وفي إنفاذ الحقّ عليهم وعلى ذويهم. وليس المراد بذلك أن يكون مستخفاً بحقوق الأئمة في تقرير الطاعة العامة (1).
وإن في تحقق هذه السلامة ما يكفل للقاضي حسن القيام بدوره من الحرص على تحقيق العدل بين الناس.
والعدالة في القاضي هي الوازع الذي يزعُهُ عن الجور في الحكم وعن التقصير في تقصّي النظر في حجج الخصوم. فهو بحق، بثبوت هذا الوصف له يكون أميناً، معتزاً بانتصاره للحق واستجابته لربه:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (2). ويكون لهذا الوصف عظيمُ الاعتبار بجعله شرط صحة في ولاية القضاء. صرّح بهذا ابن فرحون ناقلاً عن سحنون: وأما العدالة، في اعتبارها شرطَ صحة، فلأنه لا تصحّ ولاية غير العدل. فمَن لا تجوز شهادته لا تصحّ ولايته. وقيل: تصحّ، ويجب عزله (3).
وجاء في المقدمات: أن العدالة مشترطة في صحّة الولاية كالإسلام والحرية والبلوغ والعقل والذكورة على مذهبنا، والتوحد (4).
ومن بين الشروط والقواعد التي ذكرها الفقهاء في هذا الباب ما يدل على الغاية منه، وعلى القصد المطلوب من شرطه. ونوّه صاحب المقاصد بصفات أخرى يتميز بها المُوكَلُ إليهم أمر الناس في القضاء، وهي مما توحي به القواعد العامة المتصلة بالقضاء، أو بهيئته.
فيجب على الإمام أو الولي نصب القضاة لرفع التهارج ودرء
(1) المقاصد: 526.
(2)
سورة النساء، الآية:58.
(3)
ابن فرحون: 1/ 18.
(4)
ابن رشد. المقدمات: 2/ 259.
النوائب، ومنع الظلم ونصر المظلوم، وقطع الخصومات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (1). وأضاف المؤلف: والنصيحة لكل مسلم استناداً إلى حديث جابر بن عبد الله الأنصاري قال: أما بعد فإني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم قلت أُبايعك على الإسلام؟ فشرط عليّ: والنصح لكل مسلم. فبايعته على هذا. وربَّ هذا المسجد: إني لناصح لكم، ثم استغفر ونزل (2).
وقد جعلوا القضاء أمانة (3)، كما اعتبروا القاضي أهمّ أركان القضاء. فإن في صلاحه وكماله صلاح بقية ما يحفّ به من أحوال (4).
ومن الإضافات الإجرائية ما يدلّ عليه قول الشيخ: سنخصّ بحثنا هذا بمقاصد الشريعة. وذكر أن الفقهاء ما زالوا يضيفون إلى أحكام المرافعات ضوابط وشروطاً كثيرة ما كان السلف يراعونها (5). وكان الولاة حين تولية أحد الفقهاء القضاء يجعلون ولاية الفقيه المقلد إنما تكون للفقيه في المذهب الذي تقلّده الناس الذين يقضي بينهم، فإذا كان في المصر أتباع لمذاهب كثيرة نصبوا فيه قضاة بعدد أتباع تلك المذاهب (6).
ومن خير ما ثبت فى هذا الغرض أنه ليس من طريق لحمل طبقات الأمة على الاقتناع بأحكام القاضي غيرُ الأخذ بالأصلح من مجموع أقوال العلماء (7).
(1) مغني الحكام: 7؛ تبصرة الحكام: 1/ 13؛ مغني المحتاج: 4/ 372؛ مجموع الفتاوى 35/ 355.
(2)
خَ: 1/ 20.
(3)
المقاصد: 527.
(4)
المقاصد: 522.
(5)
المقاصد: 522.
(6)
المقاصد: 523.
(7)
المقاصد: 523.
وأن ليس الإسراع بالفصل بين الخصمين وحده محموداً إذا لم يكن الفصل قاطعاً لعود المنازعة، ومقنعاً في ظهور كونه صواباً وعدلاً (1).
ومن أمثلة المقاصد في الإثبات والتوثيق، ما يعرف عندنا بالإجراءات الشرعية. ومنها ترجيح العلماء التصريح من القاضي في حكمه بمستنده تحقيقاً لنفي الحرج من الحكم الشرعي بقدر الإمكان (2).
وقديماً اتخذ قضاة الإسلام دواوين لكَتْب ما يصدر عنهم من آجال، وقبول بيّنات ونحو ذلك، لتكون مذكّرة للقاضي ولمن يجيئ بعده، فيبني على فعل سلفه لكيلا تعود الخصومات أُنفا، وربما كتبوا ذلك كله بشهادة عدلين (3).
ومن المقاصد توثيق المشهود به وحفظه، وأداؤه عند الاحتياج إليه. وذلك يقتضي كتابة ما يشهد به الشهود، وكتابة التوثّقات إذا كان الحق من شأنه أن يدوم متداولاً مدَّةً يبيد في مثلها الشهود. ولذلك تعيّنت مشروعية كتابة التوثّقات. قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} (4) واتصل عمل المسلمين في الأقطار كلها بكتابة التوثّقات في المعاملات كلها، مثل رسوم الأملاك والصدقات، وكذلك إثبات صحة رسوم التملّك والتعاقد بمثل وضع الختم والخطاب عليها إعلاماً بصحّتها (5).
(1) المقاصد: 536.
(2)
المقاصد: 518.
(3)
المقاصد: 541.
(4)
سورة البقرة، الآية:282.
(5)
المقاصد: 545.
وقد اهتم العلماء والفقهاء، من حين بدأ اجتراء الناس على الحقوق تدريجياً، بوضع أساليب في إجراء الخصومات، لقطع الشغب ومَحْقِه وتحقيق الحق. وأول ذلك البحث عن أحوال الشهود.
قال علماء المدينة: إن اليمين لا تتوجه على المدعّى عليه حتى تثبت الخلطة، أو يكون المدّعى عليه ظَنيناً أي متهماً (1). وحين تتطرّق التهمة إلى الحاكم في قضائه تزول حرمة القضاء من النفوس.
أما العقوبات فأول ما يطالعنا منها عند صاحب المقاصد:
أن الزواجر والعقوبات والحدود ما شرعت إلا من أجل إصلاح الأفراد الذين منهم يتقوّم مجموع الأمة (2).
ومقصد الشريعة من تشريع الحدود والقصاص والتعزير وأروش الجنايات ثلاثة أمور: تأديب الجاني، وإرضاء المجنيّ عليه، وزجر المقتدي بالجناة (3).
ومن المحقق أن في إقامة العقاب على الجناة على قواعد معلومة ما يُؤْيِس أهل الدعارة من الإقدام على إرضاء شياطين نفوسهم في ارتكاب الجنايات (4).
ولطول هذا البحث وكثرة المقاصد المعروضة فيه نقتصر على النظر في قضايا أَوْلاها المؤَلَّفُ أهميةً بالغة، وهي علم القاضي، وتوليته وعزله. وكلها معلّل بالأهداف والمقاصد المرعية المترتبة عليها أحكامها.
(1) المقاصد: 538 - 539.
(2)
المقاصد: 546.
(3)
المقاصد: 547.
(4)
المقاصد: 550.