المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌توطئة قدّم صاحب المقاصد لهذا المبحث ببيان توجّه الأحكام الشرعية المنوطة - مقاصد الشريعة الإسلامية - جـ ٢

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌بَيْنَ عِلْمَيِّ أصُوْل الْفِقْهومَقَاصِد الشَّرِيْعَةِ الإسْلاميَّةِ

- ‌المقدمة

- ‌التمهيد لمقاصد الشريعة

- ‌الباب الأولقضايا ذات صلة بالفقه وبعلمي أصول الفقه ومقاصد الشريعة الإسلامية

- ‌الفصل الأول: بين الفقه وأصول الفقه ومقاصد الشريعة

- ‌ الفقه

- ‌علم أصول الفقه:

- ‌علم مقاصد الشريعة:

- ‌الفصل الثاني: قضايا أصولية وكلامية

- ‌قطعيّة أدلةِ علم أصول الفقه وظنّيّتها:

- ‌من أسباب ظنّية علم الأصول:

- ‌أ - الأحوال العارضة للنصوص:

- ‌اختلاف أنواع الدلالة:

- ‌أنواع المفاهيم:

- ‌تباين المحكم والمتشابه:

- ‌خبر الآحاد:

- ‌الإجماع وأنواعه:

- ‌ب -‌‌ التعليل، والعلة، والتعبّدي:

- ‌ التعليل

- ‌العلَّة:

- ‌شروط العلة:

- ‌التعليل عند المتكلمين:

- ‌رد الشيخ ابن عاشور على الأشاعرة:

- ‌الوجوب والغرض:

- ‌رد الجويني على الأشاعرة:

- ‌الأصوليون والتعليل:

- ‌العول:

- ‌أهميّة التعليل:

- ‌إصرار ابن حزم على رأيه واستدلاله على صحّة موقفه:

- ‌التعبّدي:

- ‌حكم القياس:

- ‌العمل بالقياس:

- ‌القياس بين المثبتين والنُّفاة:

- ‌مجالات الإثبات والإنكار للقياس:

- ‌القياس عند الظاهرية:

- ‌حجية القياس: أدلة المثبتين:

- ‌أدلة نفاة القياس:

- ‌الباب الثانيمع روّاد علم أصول الفقه وعلم مقاصد الشريعة

- ‌الفصل الأول: من طلائع الأصوليين وعلماء المقاصد

- ‌1 - الجويني: البرهان:

- ‌2 - الغزالي: شفاء الغليل، المنخول، المستصفى:

- ‌3 - العز بن عبد السلام: القواعد:

- ‌4 - القرافي: الفروق:

- ‌الفصل الثاني: موضوعات من علم المقاصد في كتب جماعة من الفقهاء

- ‌(1) المقاصد وكتاب الفروق للإمام القرافي:

- ‌الموضع الأول: انتصاب الشارع للتشريع:

- ‌الموضع الثاني: الحقوق وإسقاطها:

- ‌الموضع الثالث: نوط الأحكام الشرعية بمعانٍ وأوصاف لا بأسماء وأشكال:

- ‌الموضع الرابع: سدّ الذرائع:

- ‌الموضع الخامس: نفوذ الشريعة:

- ‌(2) المقاصد وكتاب نفائس الأصول:

- ‌(3) المقاصد وكتاب تنقيح الفصول:

- ‌الشاطبي وكتاب الموافقات:

- ‌ رأي ابن عاشور في عمل الشاطبي

- ‌تأييد ابن عاشور للشاطبي في بيان قصد الشارع من التكليف:

- ‌انصباب تكاليف الشريعة على العبادات والمعاملات والعادات:

- ‌مناقشة الشاطبي قوله بقطعيّة الأدلة:

- ‌تعريف الشيخ ابن عاشور بأنواع المصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا:

- ‌تقسيم التكاليف إلى عزائم ورخص:

- ‌التحيّل:

- ‌الفصل الثالث: المقاصد العامة والمصالح

- ‌الفطرة:

- ‌السماحة:

- ‌ المساواة

- ‌موانع المساواة:

- ‌الحرية:

- ‌تشوف الشارع للحرية:

- ‌تعريف المصلحة والمفسدة:

- ‌المصلحة والمفسدة محضتان خالصتان ومشوبتان مختلطتان:

- ‌الفصل الرابع: ضوابط المقاصد وأقسامها

- ‌القسم الأول من المقاصد:

- ‌المقاصد بين كلية وجزئية:

- ‌المقاصد بين قطعيّة وظنيّة:

- ‌المقاصد الأصلية والمقاصد التابعة:

- ‌المقاصد والوسائل:

- ‌الفصل الخامس: بحث المقاصد في أطراف الكتاب

- ‌الباب الثالثفي إثبات مقاصد التشريع الإسلامي وحاجة الفقهاء إلى معرفتها والوقوف عليها

- ‌توطئة

- ‌الفصل الأول: منهج السلف في طلب مقاصد الشرع من الأحكام

- ‌الفصل الثاني: الأنحاء الخمسة لتصرّفات الفقهاء في طلب المقاصد

- ‌الفصل الثالث: من طرق إثبات المقاصد الشرعية

- ‌الفصل الرابع: في القواعد الشرعية

- ‌الكليات:

- ‌الطريق الممهِّدة للتعرّف الدقيق على المقاصد وتعيينها:

- ‌القواعد والضوابط لمعرفة الأحكام وتعيين المقاصد:

- ‌الباب الرابعأمثلة للمقاصد مستخرجة من كتب المؤلف:

- ‌الفصل الأول: أمثلة للمقاصد الشرعية المستخرجة من التحرير والتنوير

- ‌المثال الأول: النبي الأمي صلى الله عليه وسلم

- ‌الْمَعْرُوفِ}

- ‌الطيبات:

- ‌الرحمة:

- ‌المثال الثاني: ضرب المرأة:

- ‌المثال الثالث: الطلاق ثلاثاً بلفظ واحد:

- ‌المثال الرابع: مثال من كتاب النظر الفسيح: حديث الوصيّة

- ‌المثال الخامس: مثال من كتاب كشف المُغطَّى: حديث بيع الخيار

- ‌الباب الخامسمنهجية الشيخ ابن عاشور في كتاب المقاصد

- ‌الفصل الأول: أسس النظر في المقاصد والأحكام

- ‌الإسلام حقائق لا أوهام:

- ‌من صفات الشريعة رفع خلط الاعتبارات بالأوهام:

- ‌الخطاب الشرعي أو النصوص التشريعية:

- ‌الفصل الثاني: منهج الشيخ ابن عاشور في تقريراته وفي تناوله لبعض متممات الخطاب

- ‌التفصيل والتقسيم:

- ‌الضوابط والشروط:

- ‌التقرير والتقعيد:

- ‌الأسباب:

- ‌إعمال النظر الشرعي طلباً لتحديد الأحكام:

- ‌الاستدلال:

- ‌المقام والسياق:

- ‌الاستقراء:

- ‌تنوُّع الأحكام بين التعبّدي والمُعلَّل:

- ‌تعقيبات الإمام ابن عاشور ومناقشاته:

- ‌الفصل الثالث: مع فقهاء الشريعة الإسلامية

- ‌1 - التضييق في الرخص:

- ‌2 - تعارض الروايات:

- ‌3 - الإجماعُ:

- ‌4 - اختلاف الفقهاء:

- ‌5 - من صور اختلاف الفقهاء:

- ‌توجيه وتنبيه:

- ‌التنبيهات:

- ‌6 - المقادير:

- ‌7 - المصطلحات الشرعية:

- ‌من المصطلحات:

- ‌المنهج:

- ‌المسائل والأحكام في "مقاصد الشريعة الإسلامية

- ‌القواعد والمقاصد باعتبار ما ينبني عليها، أو ما تدعو إليه من ترتيبات وتصرفات:

- ‌القسم الأول: يتضمن جملة من القواعد والمقاصد:

- ‌القسم الثاني: استنباط الأحكام من القواعد العامة:

- ‌القضاء بالعوائد:

- ‌الأوصاف الطردية:

- ‌ترجيح المصلحة الكبرى:

- ‌العمل بالمصلحة المرسلة:

- ‌القسم الثالث: موضوعات ذات صلة بالأصول والمقاصد للإمام عليها ملاحظات أو له بشأنها اقتراحات:

- ‌الباب السادسمصادر التشريع

- ‌الكتاب:

- ‌السُّنة:

- ‌الإجماع:

- ‌القياس:

- ‌أنواع القياس:

- ‌أقيسة الاستدلال:

- ‌جريان القياس:

- ‌المصلحة المرسلة:

- ‌الاستحسان:

- ‌سدّ الذرائع:

- ‌الحيلة:

- ‌أركان الحيلة:

- ‌أنواع التحيّل:

- ‌الباب السابعتوجه الأحكام التشريعية إلى المعاملات وتعيين الحقوق لأنواع مستحقيها

- ‌توطئة

- ‌الفصل الأول: الحقوق وأنواعها

- ‌تعيين مستحقي الحقوق يرفع أسباب النزاع:

- ‌أصحاب الاستحقاق:

- ‌حقوق العمال:

- ‌القواعد العامة لقيام المجتمعات الإنسانية:

- ‌الفصل الثاني: مقاصد العائلة في الشريعة

- ‌آصرة النكاح:

- ‌ آصرة النسب

- ‌آصرة الصهر:

- ‌طرق انحلال الأواصر الثلاث:

- ‌الفصل الثالث: الأموال

- ‌ تعريف المال:

- ‌ أنواع المال:

- ‌ أقسام المال في الملكية:

- ‌ الفوارق بين الأموال العينية والنقدية:

- ‌ المقايضة

- ‌النقود

- ‌من النقود السلعية إلى النقود المعدنية:

- ‌رأي الغزالي والمقريزي في النقدين:

- ‌النقود عند ابن القيم وابن عابدين:

- ‌أنواع النقود:

- ‌النقود المساعدة:

- ‌الفصل الرابع: مقاصد التصرّفات المالية ونظر الشريعة في أهمية الأموال

- ‌من مقاصد المعاملات المالية

- ‌أ - مصارف المال: البرّ، والصدقات، والزكاة:

- ‌الزكاة:

- ‌ب - التملُّك والتكسُّب:

- ‌1 - الأسباب المشروعة وغير المشروعة للتملك:

- ‌2 - أصول التكسّب:

- ‌ الأرض

- ‌ العمل:

- ‌ أنواع العمل:

- ‌ اختيار المسؤولين والعمال:

- ‌ج - رأس المال:

- ‌د - مجالات التكسب:

- ‌ التجارة

- ‌ الفلاحة:

- ‌ الصناعة:

- ‌ الاحتكار:

- ‌ الرواج:

- ‌استنفادُ بعض الثروة:

- ‌من أحكام المعاوضات:

- ‌توسيع الدراسات الفقهية:

- ‌الفصل الخامس: العقود

- ‌المجموعة الأولى: عقود التمليك:

- ‌التبرعات:

- ‌الرهن:

- ‌الوقف:

- ‌الهبة:

- ‌المجموعة الثانية: عقود المعاوضات:

- ‌البيع:

- ‌الإجارة:

- ‌السَّلَم:

- ‌المجموعة الثالثة: عقود المشاركة أو الشركات القائمة على عمل الأبدان:

- ‌ المضاربة

- ‌المساقاة:

- ‌المزارعة:

- ‌المغارسة:

- ‌تحريم المعاملات الربوية كلها:

- ‌العقود المنهي عنها:

- ‌بيع حاضرٍ لبادٍ ممن لا يعرف الأسعار، ومن كل وارد على مكان وإن كان من مدينة:

- ‌تلقي الركبان

- ‌البيع وقت النداء لصلاة الجمعة:

- ‌البيع والشرط وهو ما يسميه الفقهاء بيع الثُّنْيَا وبيع الوفاء:

- ‌الفصل السادس: مسائل مختلفة

- ‌تصرّفات المكلفين وأفعالهم، وما يترتب عليها من تشاريع وأحكام تناط بها أغراض الشارع ومقاصده

- ‌أثر المقاصد والمصالح في التشاريع والأحكام التي تحكم تصرّفات المكلفين:

- ‌جواز كراء الأرض بالخارج منها:

- ‌الفصل السابع: بيان طرق الاستدلال على مقاصد الشريعة

- ‌طرق التعرف إلى المقاصد:

- ‌دلالات المقاصد:

- ‌الرخصة:

- ‌الإصلاح والمصلحة:

- ‌الباب الثامنمقاصد أحكام القضاء والشهادة

- ‌توطئة

- ‌تولية القاضي:

- ‌عزل القاضي:

- ‌الباب التاسعالغرض من مقاصد الشريعة

- ‌مع علم مقاصد الشريعة:

- ‌النزوع إلى التجديد عند ابن عاشور وغيره من العلماء:

- ‌أول المجددين للدين في نظر صاحب المقاصد هو الإمام مالك بن أنس:

- ‌إمام الحرمين:

- ‌التطوّر والتجديد:

- ‌التجديد بين اتجاهين تحيط بهما محاذير:

- ‌المحاذير من التجديد:

- ‌التراث عروبة وإسلام:

- ‌تصورات للتجديد:

- ‌الباب العاشرالاجتهاد

- ‌الفصل الأول: مقدمات في الاجتهاد

- ‌واجب الاجتهاد:

- ‌إعادة النظر في قضايا اجتهادية:

- ‌الإجراءات الشرعية:

- ‌الفصل الثاني: عالميّة الشريعة والعمل بها

- ‌عالمية الشريعة وأسباب العمل بها:

- ‌العمل بالشريعة:

- ‌الفصل الثالث: بعض ما يحتاج إلى إعادة النظر فيه من الأحكام

- ‌مسائل بيع الطعام:

- ‌المُقاصّة:

- ‌بيوع الآجال:

- ‌كراء الأرض بما يخرج منها:

- ‌الشفعة في خصوص ما يقبل القسمة:

- ‌الفصل الرابع: الدعوة إلى إقامة مجمع للفقه الإسلامي

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌ ‌توطئة قدّم صاحب المقاصد لهذا المبحث ببيان توجّه الأحكام الشرعية المنوطة

‌توطئة

قدّم صاحب المقاصد لهذا المبحث ببيان توجّه الأحكام الشرعية المنوطة بتصرّفات الأمة ومعاملاتها إليها، مميزاً بين ما هو من قبيل المقاصد، وما هو من قبيل الوسائل، ومفرّقاً بين هذين الطرفين بكون المقاصد هي المتضمّنة للمصالح والمفاسد في أنفسها، وكون الوسائل عبارة عن الطرق المفضية إلى تلك المقاصد، نازعاً في هذا منزعاً فريداً لا يلتبس بالذريعة، ولم يسبقه لمثله سوى العزّ بن عبد السلام في قواعده (1)، وشهاب الدين القرافي في فروقه (2). وقد نبه إلى ذلك بقوله: لم أر من سبق إلى عرض هذا في غير بحث سدّ الذرائع سوى ما ذَكره العز بن عبد السلام في كتاب القواعد، وما أضافه إليه شهاب الدين القرافي في كتابه الفروق في الفرق الثامن والخمسين.

ثم رتب الشيخ على هذا قوله: وأنت ترى كلامهما مقتصراً على تخصيصها بمبحث المصالح والمفاسد. فغرضنا نحن أوسع، والفقه إليه أحوج (3).

والمقاصد والحِكم، التي شرعت من أجلها الأحكام، هي أكثر ما تضمنه القسم الثالث من صنوف المعاملات وضروب التصرّفات،

(1) القواعد: 123 - 129.

(2)

الفرق: 58: 2/ 32 - 34.

(3)

المقاصد: 401.

ص: 493

جاعلاً من صور ذلك التوثّق في عقدة الرهن، وإقامة نظام المنزل والعائلة في عقدة النكاح، ودفع الضرر المستدام الذي تسوء به المعاشرة في مشروعية الطلاق.

ويتميّز قسم مقاصد القضاء والشهادة بطرح جملة قضايا، لفَتَ إليها الإمام الأكبر النظر وهي أولاً الفقيه والقاضي. فهذا بعد مثافنته للعلم الشرعي، وممارسته للقضاء، تبرز مهارته بما اكتسبه من تجربة، وبما يتوقّعه من تطورات، ويتسم به من فهم وحزم.

ولاعتماد مصنّفه كله على العناية بإبراز المقاصد في كل مجال، نجده يتناول في هذا الباب عدداً من المواضيع أبرزها:

(1)

المقاصد التي هي المحور الأساس لكل الأحكام وتصرّفات الحكام.

(2)

جملة من القواعد الفقهية التي يُحتكم إليها في الإثبات والنفي والاختيار والترجيح.

(3)

الوزعة. وهي متفاوتة متنوعة بين دينية وجبلية وسلطانية.

(4)

التفريق بين السلطتين التنفيذية وهي الولاية، والسلطة القضائية وهي المحاكم.

(5)

الاجتهاد، والقضاء، والإجراءات الشرعية.

(6)

الآثار.

(7)

أقضية الرسول صلى الله عليه وسلم.

(8)

المسائل: كالحقوق والائتمان.

(9)

الشهادات.

(10)

العقوبات.

ص: 494

والمقاصد التي توّج بها المؤلف موضوعات هذا الباب، في القضاء والشهادات كثيرة متنوّعة. صدّر بها بحثه منبّهاً إلى ذلك بقوله: أنبأنا استقراء الشريعة من أقوالها وتصرّفاتها بأن مقصدها: أن يكون للأمة ولاةٌ يسوسون مصالحها، ويقيمون العدل فيها، ويُنفّذون أحكام الشريعة بينها؛ لأن الشريعة ما جاءت بما جاءت به من تحديد كيفيات معاملات الأمة، وتعيين الحقوق لأصحابها، إلا وهي تريد تنفيذ أحكامها وإيصال الحقوق إلى أربابها (1).

وهذا المقصد الجليل والهدف السامي للشريعة معلّل بما هو منتشر بين الناس من ظروف وأحوال عبّر عنها المصنّف بقوله إثر ذلك: لأن الحقوق معرّضة للاغتصاب بدافع الغضب أو الشهوة، ومعرّضة لسوء الفهم وللجهل والتناسي (2). وإنما تزيل ذلك الشريعة بحملها الناس على الاستقامة.

وأكبر مقاصد الشريعة هو حفظ نظام الأمة، وليس يُحفظ نظامها إلا بسدّ ثَلمات الهرج والفتنة والاعتداء (3).

ويتبع الشيخ رحمه الله ذكر هذا المقصد بمقصد آخر أساسه ما بنيت عليه الشريعة من هداية، وقام به السلطان من دعوة، وحثٍّ على الالتزام به من أحكام الشريعة، ودفع ورفع أسباب الغواية. ويُثنّي المؤلف على ذلك بوجوب تعيين ولاة لإقامة أمورها، وإيجاد قوة تعين على تنفيذ أحكام الشريعة بينها. وهذا ما يستوجب وجودَ حكومة وسلطان هما من لوازم إقامة الشريعة لئلا تتعرّض في بعض الأوقات إلى التعطيل.

(1) المقاصد: 515.

(2)

المقاصد: 515.

(3)

المقاصد: 546.

ص: 495

ويتّجه الشيخ إثر ذلك إلى غرضين هامين: الأول منهما ناتج عن العناية بالشريعة، والثاني عن إحلال مهابتها في النفوس بجعل الآخذين بها المنتسبين إليها متمسكين بما تميّزت به من منهج في الحياة، ومحافظين على مقاصدها.

وقد جاء تصوير ذينك الغرضين في كتاب المقاصد بقوله: إن أهم المقاصد لتهيئة إقامة الشريعة وتنفيذها بثّ علومها وتكثير علمائها وحملتها. وذلك فرض كفاية على الأمة بمقدار ما يسدّ حاجتها، ويكفي مهماتها، في سعة أقطارها وعظمة أمصارها (1).

ويعقب على بيانه هذا بالتأكيد على أن تحقيق تنفيذ الشريعة يكون بإيقاعِ حرمتها في نفوس الأمة. ويقينُ الأمة بسداد شريعتها، شريعة الإسلام، يقوم على الأدلة القاطعة بأنها معصومة لاستنادها إلى الوحي (2).

وهو ينبّه إثر ذلك إلى أن النظر في مثل هذا المهم ينبغي أن يكون منصباً على مقاصد الشريعة وما تقتضيه من إيصال الحقوق إلى أصحابها، على نحو ما رسمه الشرع تأصيلاً وتفريعاً. والذين يتولون هذا هم القضاة، وأهل شوراهم، وأعوانهم، وما تتألف منه طرق أقضيتهم من بيّنات ورسوم (3).

ونظام هيئة القضاء كفيل بالإعانة على إظهار الحقوق وقمع الباطل الظاهر والخفي، والدلائل على هذا كثيرة نجدها في الأحاديث والأخبار الواردة بكتب الأقضية والشهادات ودواوين السُّنة كالصحيحين وموطأ الامام مالك وجامع الترمذي وسُنن أبي داود (4).

(1) المقاصد: 517.

(2)

المقاصد: 517.

(3)

المقاصد: 519.

(4)

المقاصد: 520 - 521.

ص: 496

وكل من ولي ولاية الخلافة فما دونها إلى الوصية كما نبه على ذلك القرافي في الفرق الثالث والعشرين بعد المائتين، لا يحل له أن يتصرّف إلا لجلب مصلحة أو درء مفسدة. فيكون الأئمة والولاة معزولين عما ليس بأحسن. والمرجوح أبداً ليس بأحسن، وليس الأخذ به بذلاً للاجتهاد (1). وأصل هذه القاعدة قول الله عز وجل:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2). وهي تستهدف مقصداً سامياً هو التمكن من رعاية المجتمع بتنقيته من الشوائب الضارة به، ونشر الحق والعدل فيه. ومن أجل هذا عاد الشيخ ابن عاشور يذكّر بواجبات هيئة القضاء وبدور القاضي قائلاً: إن مقصد الشريعة من القاضي إبلاغه الحقوق إلى طالبيها. وذلك يعتمد أموراً عديدة منها أصالة الرأي، والعلم، والسلامة من نفوذ الغير عليه، والعدالة.

ومن لوازم أصالة الرأي العقل، والتكليف، والفطنة، وسلامة الحواس.

والعلم، هو العلم بالأحكام الشرعية التي يجري بها القضاء فيما ولي عليه القاضي من نوازل. ومن اجتمع فيه من القضاة خصلتان: العلم والورع، تعيّن أن يكون أمثل العلماء الصالحين، وبمقدار قوة علمه يزداد ترجّحه (3).

وسلامة القاضي من نفوذ غيره عليه شرطٌ لتحقّق حريته وقدرته على الوفاء بما يقتضيه استقلال القضاء، وهو ما يعرف في المصطلح المعاصر بمبدأ تفريق السلط. وفي هذا قال أشهب: إن من واجبات القاضي أن يكون مستخفاً بتوسّطات الولاة في النوازل، وشفاعتهم

(1) الفروق: 4/ 39.

(2)

سورة الأنعام، الآية:152.

(3)

المقاصد: 522 - 523.

ص: 497

فيها، وفي إنفاذ الحقّ عليهم وعلى ذويهم. وليس المراد بذلك أن يكون مستخفاً بحقوق الأئمة في تقرير الطاعة العامة (1).

وإن في تحقق هذه السلامة ما يكفل للقاضي حسن القيام بدوره من الحرص على تحقيق العدل بين الناس.

والعدالة في القاضي هي الوازع الذي يزعُهُ عن الجور في الحكم وعن التقصير في تقصّي النظر في حجج الخصوم. فهو بحق، بثبوت هذا الوصف له يكون أميناً، معتزاً بانتصاره للحق واستجابته لربه:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (2). ويكون لهذا الوصف عظيمُ الاعتبار بجعله شرط صحة في ولاية القضاء. صرّح بهذا ابن فرحون ناقلاً عن سحنون: وأما العدالة، في اعتبارها شرطَ صحة، فلأنه لا تصحّ ولاية غير العدل. فمَن لا تجوز شهادته لا تصحّ ولايته. وقيل: تصحّ، ويجب عزله (3).

وجاء في المقدمات: أن العدالة مشترطة في صحّة الولاية كالإسلام والحرية والبلوغ والعقل والذكورة على مذهبنا، والتوحد (4).

ومن بين الشروط والقواعد التي ذكرها الفقهاء في هذا الباب ما يدل على الغاية منه، وعلى القصد المطلوب من شرطه. ونوّه صاحب المقاصد بصفات أخرى يتميز بها المُوكَلُ إليهم أمر الناس في القضاء، وهي مما توحي به القواعد العامة المتصلة بالقضاء، أو بهيئته.

فيجب على الإمام أو الولي نصب القضاة لرفع التهارج ودرء

(1) المقاصد: 526.

(2)

سورة النساء، الآية:58.

(3)

ابن فرحون: 1/ 18.

(4)

ابن رشد. المقدمات: 2/ 259.

ص: 498

النوائب، ومنع الظلم ونصر المظلوم، وقطع الخصومات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (1). وأضاف المؤلف: والنصيحة لكل مسلم استناداً إلى حديث جابر بن عبد الله الأنصاري قال: أما بعد فإني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم قلت أُبايعك على الإسلام؟ فشرط عليّ: والنصح لكل مسلم. فبايعته على هذا. وربَّ هذا المسجد: إني لناصح لكم، ثم استغفر ونزل (2).

وقد جعلوا القضاء أمانة (3)، كما اعتبروا القاضي أهمّ أركان القضاء. فإن في صلاحه وكماله صلاح بقية ما يحفّ به من أحوال (4).

ومن الإضافات الإجرائية ما يدلّ عليه قول الشيخ: سنخصّ بحثنا هذا بمقاصد الشريعة. وذكر أن الفقهاء ما زالوا يضيفون إلى أحكام المرافعات ضوابط وشروطاً كثيرة ما كان السلف يراعونها (5). وكان الولاة حين تولية أحد الفقهاء القضاء يجعلون ولاية الفقيه المقلد إنما تكون للفقيه في المذهب الذي تقلّده الناس الذين يقضي بينهم، فإذا كان في المصر أتباع لمذاهب كثيرة نصبوا فيه قضاة بعدد أتباع تلك المذاهب (6).

ومن خير ما ثبت فى هذا الغرض أنه ليس من طريق لحمل طبقات الأمة على الاقتناع بأحكام القاضي غيرُ الأخذ بالأصلح من مجموع أقوال العلماء (7).

(1) مغني الحكام: 7؛ تبصرة الحكام: 1/ 13؛ مغني المحتاج: 4/ 372؛ مجموع الفتاوى 35/ 355.

(2)

خَ: 1/ 20.

(3)

المقاصد: 527.

(4)

المقاصد: 522.

(5)

المقاصد: 522.

(6)

المقاصد: 523.

(7)

المقاصد: 523.

ص: 499

وأن ليس الإسراع بالفصل بين الخصمين وحده محموداً إذا لم يكن الفصل قاطعاً لعود المنازعة، ومقنعاً في ظهور كونه صواباً وعدلاً (1).

ومن أمثلة المقاصد في الإثبات والتوثيق، ما يعرف عندنا بالإجراءات الشرعية. ومنها ترجيح العلماء التصريح من القاضي في حكمه بمستنده تحقيقاً لنفي الحرج من الحكم الشرعي بقدر الإمكان (2).

وقديماً اتخذ قضاة الإسلام دواوين لكَتْب ما يصدر عنهم من آجال، وقبول بيّنات ونحو ذلك، لتكون مذكّرة للقاضي ولمن يجيئ بعده، فيبني على فعل سلفه لكيلا تعود الخصومات أُنفا، وربما كتبوا ذلك كله بشهادة عدلين (3).

ومن المقاصد توثيق المشهود به وحفظه، وأداؤه عند الاحتياج إليه. وذلك يقتضي كتابة ما يشهد به الشهود، وكتابة التوثّقات إذا كان الحق من شأنه أن يدوم متداولاً مدَّةً يبيد في مثلها الشهود. ولذلك تعيّنت مشروعية كتابة التوثّقات. قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} (4) واتصل عمل المسلمين في الأقطار كلها بكتابة التوثّقات في المعاملات كلها، مثل رسوم الأملاك والصدقات، وكذلك إثبات صحة رسوم التملّك والتعاقد بمثل وضع الختم والخطاب عليها إعلاماً بصحّتها (5).

(1) المقاصد: 536.

(2)

المقاصد: 518.

(3)

المقاصد: 541.

(4)

سورة البقرة، الآية:282.

(5)

المقاصد: 545.

ص: 500

وقد اهتم العلماء والفقهاء، من حين بدأ اجتراء الناس على الحقوق تدريجياً، بوضع أساليب في إجراء الخصومات، لقطع الشغب ومَحْقِه وتحقيق الحق. وأول ذلك البحث عن أحوال الشهود.

قال علماء المدينة: إن اليمين لا تتوجه على المدعّى عليه حتى تثبت الخلطة، أو يكون المدّعى عليه ظَنيناً أي متهماً (1). وحين تتطرّق التهمة إلى الحاكم في قضائه تزول حرمة القضاء من النفوس.

أما العقوبات فأول ما يطالعنا منها عند صاحب المقاصد:

أن الزواجر والعقوبات والحدود ما شرعت إلا من أجل إصلاح الأفراد الذين منهم يتقوّم مجموع الأمة (2).

ومقصد الشريعة من تشريع الحدود والقصاص والتعزير وأروش الجنايات ثلاثة أمور: تأديب الجاني، وإرضاء المجنيّ عليه، وزجر المقتدي بالجناة (3).

ومن المحقق أن في إقامة العقاب على الجناة على قواعد معلومة ما يُؤْيِس أهل الدعارة من الإقدام على إرضاء شياطين نفوسهم في ارتكاب الجنايات (4).

ولطول هذا البحث وكثرة المقاصد المعروضة فيه نقتصر على النظر في قضايا أَوْلاها المؤَلَّفُ أهميةً بالغة، وهي علم القاضي، وتوليته وعزله. وكلها معلّل بالأهداف والمقاصد المرعية المترتبة عليها أحكامها.

(1) المقاصد: 538 - 539.

(2)

المقاصد: 546.

(3)

المقاصد: 547.

(4)

المقاصد: 550.

ص: 501