الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النظر، والقدرة على دقّة التصرّف في تدبير الأمور (1). وعلى هذا النحو من التعريف جرى الراغب الأصفهاني في المفردات (2)، والبجيري في الحيل في الشريعة الاسلامية (3). وعلى هذا المعنى جرى استعمال المخارج والمعاريض في كتب الفقه.
والاستعمال الغالب للحيل والتحيّل والاحتيال يطلق على الوسائل المُتوصَّل بها إلى المقصود السيئ. والكلمات ذات الصلة الواردة بهذا الغرض هي المكر والكيد، والخداع والخديعة والمخادعة، والمدالسة والمخاتلة، وقريب من هذه الكلم الخذل كالذي ورد من قول النبي صلى الله عليه وسلم لنعيم بن مسعود: خذِّل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة (4).
وليس من باب الحيلة أو التحيّل التدبير والحرص والورع؛ لأنها عمل مأذون فيه بصورة غير صورته أو بإيجاد وسائله (5).
وتطلق الحيلة ونحوها في الاصطلاح على ما يتوصل به إلى مقصود خفي. وهي قسمان: جائزة وغير جائزة (6).
أركان الحيلة:
أركان الحيلة أربعة، هي:
أولاً: الوسيلة التي يتوصل بها إلى المقصود قولاً كانت أو فعلاً، مشروعة أم غير مشروعة.
(1) الفيروزآبادي. القاموس المحيط: ح ي ل.
(2)
267.
(3)
16 - 17.
(4)
ابن هشام. السيرة: 3/ 265؛ ابن القيم. زاد المعاد: 2/ 291.
(5)
المقاصد: 317.
(6)
ابن حجر. الفتح: 12/ 326.
ثانياً: المقصد. وهو الغاية التي يراد التوصل إليها عن طريق الوسيلة ويكون المقصد مشروعاً أو غير مشروع.
ثالثاً: القصد وهو نية التوصل إلى المقصود بسلوك الوسيلة المفضية إليه.
رابعاً: الخفاء في وجه التوصل إلى المقصود.
ومن الحيل مشروع وغير مشروع.
فمن الحيل المشروعة قول أبي بكر وقد سألة المشركون عن الرجل الذي معه، وهو في طريقه إلى الهجرة: هاد يهديني السبيل (1).
ومنها قول أبي حنيفة لمن سأله: يا إمام، لي ولد، ليس لي غيره. فإن زوّجته طلّق، وإن سرّيته أعتقَ. وقد عجزت عنه فهل من حيلة؟ قال الإمام: اشترِ الجارية التي يرضاها هو لنفسه ثم زوجها منه فإن طلق رجعت إليك، وإن أعتق أعتق ما لا يملك.
وقد أطلقوا على الحيل الجائزة التي توافق مقاصد الشرع كلمتي المعاريض والمخارج. والمعاريض جمعٌ، واحدُه المعراض، وهو التعريض كالتورية. ويقابله التصريح. وهو اللفظ الذي له ظاهر وباطن أو قريب وبعيد، يوهم المتكلم به إرادة المعنى الظاهر المتبادر إلى الذهن، وهو يريد في الواقع المعنى الباطن أو البعيد، أو هو الكلام الجائز الذي يقصد به التكلم معنى صحيحاً يتوصل به إلى مقصد مشروع، ويتوهم غيره أنه قصد به معنى آخر. وقد ورد استعماله في القرآن في قوله عز وجل {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} (2)؛ وورد على لسان إبراهيم عليه السلام حين أراد الطاغية سوءاً
(1) ابن حجر. الفتح: 7/ 249.
(2)
سورة البقرة، الآية:235.
بزوجته سارة، وسأله من تَكون؟ قال: هي أختي، يوهمه بأنها أختُه من النسب. وهو في واقع الأمر يريد أختَه في الدين. وفي هذا دَفع للظلم واتقاء لما يمكن أن يترتّب على سَورة الغضب عند عدوه (1).
والمخارج هي التي يتخلّص بها من المكروه أو يجلب بها المحبوب. وواحدها مخرج. ورد بهذا اللفظ القرآني في قوله جل وعلا: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (2). وهذه التسمية واردة بكثرة في كتب الحنفية. ومثال المَخرَجِ ما أشار به الإمام أبو حنيفة على رجل نهبت داره. ولما ضايق اللصوصَ استحلفوه بالطلاق ألا يدل عليهم. فذهب إلى الوالي وطلب حصر مَن في الحي وسوقهم جميعهم إلى الإمارة. ولما بدأ استعراضهم ظل الوالي يسأله عن كل واحد منهم فإن كان من غير اللصوص، قال: ليس منهم، وإن كان منهم سكت الرجل ولم يجب بكلمة. وهكذا وقع التعرف على اللصوص وأخذ ما سرقوه منه (3).
وقال الشعبي: لا بأس بالحيل فيما يحل ويجوز. وقد يكون في الحيلة ما هو أكبر فائدة وأعظم أثراً. فمن الحيل ما يتخلّص به من المآثم والحرام ويُخرَجُ به إلى الحلال. فما كان من هذا أو نحوه فلا بأس. وإنما يكره من ذلك أن يحتال الرجل في حق الرجل حتى يبطله، أو يحتال في باطل حتى يموّه، أو يحتال في شيء حتى يدخل فيه شبهة. فأما ما كان على هذا القبيل الذي قلنا فلا بأس بذلك (4).
(1) ابن حجر. الفتح: 6/ 388، 393.
(2)
سورة الطلاق، الآية:65.
(3)
ابن نجيم. الأشباه والنظائر: 410؛ ابن القيم. إعلام الموقعين: 3/ 394.
(4)
الخصاف. كتاب الحيل: 40.
وقال الشاطبي في موافقاته: لا يمكن إقامة دليل من الشريعة على إبطال كل حيلة، كما أنه لا يقوم دليل على تصحيح كل حيلة. فإنما يبطل منها ما كان مضاداً لقصد الشارع خاصة. وهو الذي يتفق عليه جميع أهل الإسلام، ويقع الاختلاف في المسائل التي تتعارض فيها الأدلة (1).
وعرّف الفقهاء الحيل المشروعة والجائزة فقالوا: هي التي تكون وسيلتها مشروعة وغايتها كذلك.
وقصر الشيخ ابن عاشور كلامه على الحيل غير المشروعة وغير الجائزة. وقد سبق تعريفه لها في كتابه (2). وحمله هذا الاتجاه على تأويل ما وقع من الحيل المشروعة مما اشتمل عليه الكتاب والسُّنة. وأكثرَ الفقهاءُ من ترديد ذكر الحيل في كتبهم ودواوينهم. يقول الإمام الأكبر: فأما ما كان وارداً في آثار شريعتنا فمخارجه ظاهرة، ومن ذلك:
ما رخّص فيه النبي صلى الله عليه وسلم مما كان وقوعه في مبدأ التشريع، مثاله ما روي في الموطأ وصحيح مسلم: أنه لما أُبطل التبنّي وكان سالم مولى أبي حذيفة متبنّىً لأبي حذيفة، جاءت سهلة بنت سهيل زوج أبي حذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن سالماً يدخل علينا وأنا فضل، وليس لنا إلا بيت واحد. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أرضعيه تحرمي عليه". فقالت: يا رسول الله كيف أرضعه وهو كبير؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "قد علمت أنه رجل كبير". فقال نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصة. وأَبَيْنَ أن يدخل عليهن أحد بهذه الرضاعة (3).
(1) المقاصد: من كتاب الموافقات: (3) 2/ 337.
(2)
المقاصد: 317.
(3)
انظر المقاصد: 331 - 332.
ومنها ما كان من شريعة سابقة فلا نطيل القول في تأويله، إذ ليس بين أيدينا من بقية فروع تلك الشريعة ما يقنعنا في معرفة مخالفة مقدار الصورة الظاهرة المدعوّة عندنا بالحيلة لبقية أحكام تلك الشريعة. ومن أمثلة ذلك: إذن الله تعالى لأيوب بأن يصرب امرأته براً بيمينه. فقال تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} (1)، {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} (2). ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة:"خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق"(3).
وإنه لمن الغفلة أن يقاس على مثل هذه الحيل، فتجعل أصلاً للقياس عليها، مع تحقق أن الحيلة لا تشتمل على معنى أو حكمة يصحّ القياس عليها، إذ قد اتفقنا أن الحيلة مخالفة للحكم ومفيتة للمقصد (4).
والحيل غير المشروعة أو المحرّمة هي تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله من الظاهر إلى حكم آخر .. فمآل العمل فيها في الواقع خرم لقواعد الشريعة. كالواهب ماله عند رأس الحول، فراراً من الزكاة. فإن أصل الهبة على الجواز ولو منع الزكاة من غير هبة لكان ممنوعاً. فإن كل واحد منهما ظاهر أمره في المصلحة أو المفسدة. فإذا اجتمع الأمران صار مآل الهبة المنع من أداء الزكاة. وهو مفسدة (5).
وأخذ بعضهم بمذهب البخاري، وهو رأي أهل الحديث (6)، متوسعاً في مفهوم الحيلة: التحيّل بوجه سائغ مشروع في الظاهر أو
(1) سورة ص، الآية:24.
(2)
سورة يوسف، الآية:76.
(3)
خَ: 3/ 29؛ 3/ 127.
(4)
المقاصد: 334.
(5)
الشاطبي. 4/ 201، 202.
(6)
ابن حجر. الفتح: 12/ 326 - 351.
غير سائغ من إسقاط حكم أو قلبه إلى حكم آخر، بحيث لا يسقط أو لا ينقلب إلا مع تلك الواسطة فتُفعل ليتوسل بها إلى ذلك الغرض المقصود مع العلم بكونها لم تشرع له.
وكأنّ التحيُّلَ مشتمل على مقدمتين:
إحداهما: قلب الأفعال بعضها إلى بعض في ظاهر الأمر.
وثانيتهما: جعل الأفعال المقصود بها في الشرع معان ووسائل إلى قلب تلك الأحكام. ولذلك عرّفه أبو إسحاق الشاطبي، في المسألة العاشرة من القسم الثاني من كتاب المقاصد من تأليفه، تعريف تمثيل بقوله: إن الله أوجب أشياء وحرم أشياء، إما مطلقاً من غير قيد ولا ترتيب على سبب، كما أوجب الصلاة والصيام والحج وأشباه ذلك، وحرّم الزنا والربا والقتل ونحوها. وأوجب أيضاً أشياء مرتبة على أسباب، وحرّم أخرى كذلك، كإيجاب الزكاة والكفارات وما أشبهها. فإذا تسبّب المكلف في إسقاط ذلك الوجوب عن نفسه، أو في إباحة ذلك المحرّم عليه بوجه من وجوه التسبّب، حتى يصير الواجب غير واجب في الظاهر، أو المحرّم حلالاً في الظاهر أيضاً، فهذا التسبب يسمى حيلة وتحيلاً (1). وختم كلامه هذا، في المسألة الثانية عشرة بقوله: لما ثبت أن الأحكام شرعت لمصالح العباد كانت الأعمال معتبرة بذلك، لأنه مقصود الشارع منها. فإذا كان العمل في ظاهره وباطنه (أي منفعته وحكمته) على أصل المشروعية فلا إشكال، وإن كان الظاهر موافقاً والمصلحة مخالفة فالفعل غير صحيح، لأن الأعمال الشرعية غير مقصودة لأنفسها، وإنما قصد بها أمور أخر هي معانيها. وهي المصالح التي شرعت لأجلها. فالذي عمل من ذلك
(1) الشاطبي: 2/ 379 - 380؛ المقاصد: 318 - 319.
على غير هذا الوضع فليس على وضع المشروعات (1).
وقال صاحب المحيط: وضابط الحيلة إن كانت للفرار من الحرام والتباعد من الإثم فحسن، وإن كانت لإبطال حق مسلم فلا. بل هي إثم وعدوان.
وقال ابن القيم في الحيلة: هي المخادعة أو المراوغة بإظهار أمر جائز ليتوصل به إلى أمر محرّم (2). وذهب ابن قدامة إلى أن الحيل كلها محرّمةٌ غير جائزة في شيء من الدين، ومثّل لذلك بقوله: كأن يظهر عقداً مباحاً يريد به محرّماً مخادعة وتوسلاً إلى ما حرم الله، واستباحةِ محظوراته، أو إسقاط واجب، أو دفع حق أو نحو ذلك (3). وبمثل هذا التعريف عرّفها شارح الاقناع وصاحبُ منتهى الإرادات.
والحيل المحرّمة عبارة عن تصرّف مشروع لا يقصد به المتصرّف حقيقتَه وحكمَه الذي وضَعه الشارع له، بل يقصِد التصرّف المحرّم وقلب الحكم الشرعي.
وختام ما نورده من تعاريف الحيلة تعريفُ الإمام الأكبر لها بقوله: هي إبراز عمل ممنوع شرعاً في صورة عمل جائز، أو إبراز عمل غير معتدّ به شرعاً في صورة عمل معتدّ به، لقصد التفصّي من مؤاخذته. والتحيّل من هذا القبيل هو الذي يتوصّل له إلى مقصد ذميم. وهو شرعاً ما كان المنع فيه شرعياً والمانع الشارع (4).
(1) المقاصد: 320
(2)
إعلام الموقعين: 3/ 160.
(3)
المغني: 4/ 46.
(4)
المقاصد: 317.