الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والوصف الرابع المُدرج في الآية ما تميّزت به ملتنا من التحرير من الأغلال. والأغلال جمع غِلّ. وهو إطار من حديد يشدّ بجلد أو بسلسلة يسحب به الأسير والجاني. وفي استعمال الغلّ هنا أيضاً استعارة تمثيلية للتكليف بالعمل المؤلم المرهق. وكان ذلك شعارَ إذلال. وهذه كانت حال اليهود بعد تخريب بيت المقدس وزوال ملك يهوذا. وهي مقابِلة تمام المقابلة لما جاء به الإسلام من السماحة الفطرية والتخفيف والتكريم للبشر (1).
وفي هذا التذييل ذكر لأوصاف الشريعة وتعيينٌ لمقاصدها بعد الذي جرى عليه في بيان النص القرآني وتحرير معانيه.
* * *
المثال الثاني: ضرب المرأة:
في المثال الثاني من بحثنا عن المقاصد، يستوقفنا موضوع ضرب المرأة. قال الله تعالى:{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} (2).
فهذا الخطاب الشرعي يشمل أربعة جوانب:
الأول منها: تعريف النشوز بقوله: هو عصيان المرأة زوجها، والترفعُ عليه، وإظهارُ كراهيتها له.
وللنشوز ضرر، أيّ ضرر بالزوج، وكذلك بالأسرة. وهو يحتاج إلى الردع بلزوم العقوبة التي شرعها الله بقوله: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ
…
}. فقد رتب على سوء معاملة المرأة لزوجها عقاباً.
(1) التحرير والتنوير: 9/ 134 - 137.
(2)
سورة النساء، الآية:34.
وهو على درجات بحسب حال النشوز ودوافعه وقوّته وضعفه. وأنواع العقاب، كما نصّت على ذلك آية سورة النساء: الموعظة، والهجر، والضرب. وعلى الزوج أن يراعي أسباب النشوز، والدوافع إليه، وقوتَه وضعفَه، ليكون العقاب مظنة للعدل، فلا يكون الزوج بإيقاعه له جائراً أو معتدياً أو متشفّياً.
ولإثبات هذا الحكم وتحقيق الغرض منه نبّه الشيخ إلى ما يستند إليه من نص قرآني، وإلى جملة من الآثار تأذن للزوج بضرب امرأته الناشز، وإلى عمل بعض الصحابة بذلك في غير ظهور الفاحشة.
وحُكم العقاب بالضرب ثابت بالقرآن وبالآثار والأخبار. وهي في جملتها محمولة على إباحته. وقد جرى العمل به بين طبقات من الناس وفي بعض القبائل. ولا ينسى الشيخ ابن عاشور هنا ملاحظة أن العقاب بالضرب، وإن كانت له شواهد ودلائل، مُراعى فيه العرف. ولذلك يتفاوت الناس فيه فيعتبره ذُكران البدو اعتداء على المرأة، في حين تعدّه نساؤهم أمراً عادياً لا اعتداء فيه عليهن.
ويؤكد الإمام هذا المعنى بما ورد عن عمر بن الخطاب من اختلاف أحوال النساء المهاجرات عن أحوال نساء المدينة، قائلاً:"كنا معشر المهاجرين قوماً نَغْلِب نساءنا فإذا الأنصار قوم تغلبهم نساؤهم، فأخذ نساؤنا يتأدَّبن بأدب نساء الأنصار"(1).
ثانياً: عقوبة الضرب مأذون فيها للأزواج دون ولاة الأمور. ويجوز أن يكون المخاطب مجموع من يصلح لهذا العمل من ولاة
(1) التحرير والتنوير: 5/ 41.
الأمور والأزواج، وأن الإذن ورد لهما في ذلك في الخطاب القرآني في قوله تعالى:{وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (1) بجعل "لكم" للأزواج، وصرف "فإن خفتم" للولاة، وربما عَنَى الشارع بالولاة خصوص النبي صلى الله عليه وسلم فقُصر هذا الأمر عليه دونهم.
ثالثاً: اختلف الأئمة في تأويل آية الضرب. فقال عطاءٌ: لا يضرب الرجل زوجته ولكن يغضب عليها. وسانده في هذا ابن العربي في أحكامه لقوله عن عطاء في هذه القضية: من فقه عطاء وفهمه للشريعة ووقوفِه على مظانِّ الاجتهاد عَلِم أن الأمر بالضرب هنا للإباحة.
وعقّب ابن العربي بأنَّ عطاء يكون قد وقف على كراهية ذلك في حديث: "ولن يضرب خيارُكم".
أما رأي شيخنا في هذه القضية: فوضع الأشياء مواضعها بحسب القرائن، وإلى هذا ذهب جمع من العلماء. قال ابن الفرس في تعليل موقفهم: إنهم أنكروا الأحاديث المروية بالضرب. وقال الشيخ ابن عاشور: أو تأوّلوها.
رابعاً: الإشارة إلى الأحوال المختلفة التي تكون بين الزوجين لتقرير الحكم الشرعي. يبيّن ذلك صاحب التحرير بقوله: الظاهر أن الإذن بالضرب لمراعاة أحوال دقيقة تكون بين الزوجين. فأُذن للزوج بضرب امرأته ضربَ إصلاح، لقصد إقامة المعاشرة بينهما. فإن تجاوز ما تقتضيه حالة النشوز كان معتدياً.
(1) سورة البقرة، الآية:229.
وفيما تقدم نبّه الشيخ ابن عاشور إلى قاعدتين تتعيّن مراعاتُهما:
الأولى: لا تجوز العقوبة بالوعظ، أو بالهجر، أو بالضرب لمجرد توقّع النشوز.
والثانية: أن الأزواج مؤتمنون على توخّي مواقع هذه العقوبات بحسب درجة النشوز.
وبعد البيان للآية بذكره أولاً ما ورد بها من أحكام تتعلّق بمعاملة المرأة في حالة خاصة قد تَعرض لها، وثانياً بأثر ضبط الحكم الشرعي في هذه القضية ومراعاة الظروف والملابسات فيها. وهذان نوعان من الاستدلال يعتمدان النص والقرائن الحافَّة به، يعود إلى تشنيع الضرب بوصفه بالخطورة من الجهة التي استوجبت الحكم به، وإلى صعوبة تحديد مقداره لأن ذلك عسير. وينتهي من هذا كله إلى تخصيص الإذن بالضرب في حالة معيّنة هي حالة ظهور الفساد. ولتوقّع تجاوز الرجل حدّه في إيقاع هذه العقوبة، ولكون الأصل في أحكام الشريعة ألا يسمح للمرء أن يقضي في حق نفسه لولا الضرورة، ولدعم موقفه في ذلك، أُخذ بتقييد الجمهور لعقوبة الضرب، وذلك بالسلامة من الإضرار، بكون القائم بها ليس ممن يعدُّ الضرب بين الزوجين إهانة، وإضراراً. ورتّب آخر الأمر على هذا الحكم المعلّل والمقيّد بإمكان التحديد من ولاة الأمور لمن يتجاوز حدَّه في هذا من الرجال بإنزال عقوبة به، لتدارك ما يمكن أن ينجم عن مباشرة الزوج لعقاب امرأته من إفراط، وخاصة بعد فقدان الوازع الديني الذي يحول بين المرء وبين كل ما يعد منكراً من تصرّفاته (1).
* * *
(1) التحرير والتنوير: 5/ 41 - 44.