الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منوطة بأسباب، وما جعلت الأسباب إلّا لاشتمالها على الحكم والمصالح. فيكون في إلغائها تفريغها من حكمة التشريع التي عني بها الشارع وهذا أول الطريق في خرق الأحكام والاختلاف بها عن المنهج الشرعي الموثوق به".
تحريم المعاملات الربوية كلها:
إذا كان الشرع بحكمته قد أحلّ ما أحلّ من بيوعات ومعاملات كثيرة، وسمحَ ببعض ما كان أصله المنع رفعاً للمشقة ودفعاً للضرورة، فأباحه وأبطل ما سوى ذلك من أنواع التصرّفات المالية والمداينات القائمة على الأثرة والظلم والاستغلال، أو المجافية لروح الشريعة، ولما تقتضيه الحكمة النظرية العقلية السليمة. فقد صدع القرآن بالحق والعدل، وجاء بالحكم الفصل في هذه المعاملات، وبالتحذير والوعيد لمن يخالف أمر الله فيها {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1).
والربا: مطلق الزيادة. وفي اصطلاح الفقهاء: الزيادة المشروطة في أموال مخصوصة، في عقود مخصوصة، وفي حالات مخصوصة. وهو سبب في انقطاع المعروف بين الناس لتعطيل القروض. وبتحريم الربا تطيب النفوس بقرض الدراهم للمحتاج واسترجاع مثلها من غير زيادة ابتغاء للأجر من الله.
(1) سورة البقرة، الآية:275.
وقد جاءت أحاديث كثيرة في تحريم الربا، منها:
(1)
حديث أبي سعيد الخدري: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُر بالبُر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلاً بمِثل يداً بيد. فمن زاد أو استزاد فقد أربى، والآخذ والمعطي في ذلك سواء"(1).
(2)
حديث عبادة بن الصامت: "الذهب بالذهب تِبرُها وعَينُها، والفضة بالفضة تبرها وعينها، والبُر بالبر مُدْيٌ بمُدْي، والشعير بالشعير مُدي بمُدي، والتمر بالتمر مدي بمدي، والملح بالملح مُدْي بمُدْي. فمن زاد أو ازداد فقد أربى. ولا بأس ببيع الذهب بالفضة والفضة أكثرهما يداً بيد، وأما نسيئة فلا، ولا بأس ببيع البُر بالشعير والشعير أكثرهما يداً بيد، وأما نسيئة فلا"(2).
(3)
سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم التفاضل في بيع الطعام صاعين بصاع ربا. وقال لبلال: "أوّه أوّه، عين الربا، عين الربا! لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبع ببيع آخر ثم اشترِ به"(3).
(4)
ومثل هذا الحديث ما أثبتناه من رواية أبي هريرة من نهيه صلى الله عليه وسلم عن أخذ الصاع بالصاعين من الجمع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتعْ بالدراهم جنيباً"(4).
(5)
حديث عائشة. قالت: لما أُنزلت هذه الآيات من آخر البقرة في الربا قرأها النبي صلى الله عليه وسلم. ومن هديه تحريم التجارة في الخمر (5).
(1) الكتاب 22، الباب 15، ح 820، مَ: 2/ 1211.
(2)
17 كتاب البيوع والإجارات، 12 باب الطرف. دَ: 3/ 643، عدد 3349.
(3)
خَ: 3/ 64 - 65.
(4)
انظر المقاصد: 479، 480.
(5)
خَ: 1/ 112.
(6)
حديث مالك. إن امرأة قالت: وفدت من المدينة إلى الكوفة فلقيت عائشة فأخبرتها أنها باعت من زيد بن أرقم في الكوفة جارية بثمانمائة درهم إلى العطاء، ثم إن زيداً باع الجارية فاشترتها المرأة منه بستمائة نقداً. فقالت لها عائشة: بئسما شريت وما اشتريت. أبلغي زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله إلا أن يتوب. قالت: فقلت لها: أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي؟ قالت عائشة: نعم فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف، فجعلته عائشة من الربا ولذلك تلت الآية (1).
وقد اعتمد الفقهاء على الآية وعلى هذه الآحاديث فأثبتوا أن الربا ثلاثة أنواع في اصطلاح الشرع:
(1)
ربا الجاهلية. وهو الزيادة على الدين لأجل التأخير.
(2)
ربا الفضل. وهو الزيادة في أحد العوضين في بيع الصنف بصنفه من الأصناف الستة المذكورة.
(3)
ربا النسيئة. وهو بيع شيء من تلك الأصناف بمثله مؤخراً.
(4)
وأضافت المالكية: ما يؤول إلى واحد من الأصناف بتهمة التحيّل على الربا. وهو المعروف ببيوع الآجال.
(5)
وأضاف ابن العربي نوعاً خامساً يشمل كل بيع فاسد.
قال الإمام الأكبر معقباً على هذه الأنواع الربوية المأخوذة من السُّنة: إن أظهر المذاهب في هذا هو مذهب ابن عباس، وإن أحاديث ربا الفضل تحمل على حديث أسامة:"إنما الربا في النسيئة"(2)
(1) سورة البقرة، الآية:275. أخرج هذا الأثر عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن عائشة. السيوطي. الدر المنثور: 2/ 105.
(2)
34 كتاب البيوع، 79 باب بيع الدينار بالدينار. خَ: 3/ 31.
ليجمع بين الحديثين. وتسمية التفاضل بالربا في حديثي أبي سعيد وعبادة دليل على ما قلناه. وإن ما رعاه مالك من إبطال ما يفضي إلى التعامل بالربا إن صدر من مواقع التهمة رعي حسن، وما عداه إغراق في الاحتياط. وقد يؤخذ من بعض أقوال مالك في الموطأ وغيره أن انتفاء التهمة لا يبطل العقد (1).
ولا تمسك في نحو حديث عائشة في زيد بن أرقم لأن المسلمين في أمرهم الأول كانوا قريبي عهد بربا الجاهلية. فكان حالهم مقتضياً لسدّ الذرائع. وربا الجاهلية المحرّم لذاته لا يباح إلا للضرورة التي تبيح أكل الميتة.
وقال ابن عرفة: إن ما يحرم به فضل القدر والنَّساء هو عوض متحدي جنس الذهب أو الفضة، وربوي الطعام، وإن ما يحرم فيه النَّساء فقط هو عوض اختلف في جنسه، أو الذهب والفضة. وباتخاذ العوضين في درجة الطيب من الطعام تحصل المماثلة، فلا يجوز بيع فريك الحنطة بيابسها، ولا السمن بالزبد متماثلاً ولا متفاضلاً (2).
واعتقادي أنه لا يجوز التصرّف بسرعة وارتجال في إلحاق عدد كبير من المبادلات المالية بما تقرَّر حظرُه ومنعُه. فإن للفقهاء في بعض هذه المعاملات توقفاً أو خلافاً. فما كان من العقود لا ينطبق عليه النهي الوارد من الشارع دخل باتفاق في دائرة المعاملات المشروعة، وما اختلفت فيه وجهة النظر من حيث شمول النهي أو عدم شموله كان موضع اختلافهم. فمن أدخل هذا النوع من التبادل
(1) التحرير والتنوير: 2/ 88 - 89.
(2)
الرصاع. شرح حدود ابن عرفة: 1/ 335 - 336.
المالي، ضمن دائرة النهي، أي في عموم النهي قال بحظر التعامل به لحرمته. فنهيُ الشارع عنه موجِبٌ لحُرمَته، فينبغي تركه والخروج عنه وهو معدود في العقود المحرّمة.
والمقصد الشرعي من تحريم الربا وحكمتُه منع الظلم، والحثُّ على العمل ليكون سبيلاً للتكسّب وتدريباً للنفوس على البرّ والمعروف والصدقة والقرض الحسن والتعاون على الخير. ويؤكد هذه المعاني قوله عز وجل:{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} (1).
وذهب ابن القيم إلى أن تحريم هذا النوع من الربا دفعٌ لما يربو على المحتاج من غير نفع يحصل له، ويزيد مال المرابي من غير نفع يحصل منه لأخيه، فيأكل مال أخيه بالباطل، ويحصل أخوه على غاية الضرر. وقد قابل الله عز وجل، كما في الآية الأولى، بين حِلِّ البيع وحرمة الربا فتوعد طائفة ووعد أخرى قائلاً:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (2). ومن وعده سبحانه للمنفقين في سبيل الله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (3).
وقد حدَث في عصرنا كثير من التصرّفات المالية استوجبت النظر والتعليل وبيان حكم الشارع فيها. وهذه كثيرة كتلك التي تقوم بها البنوك التجارية مثل الفائدة والودائع والقروض وفتح الاعتماد
(1) سورة الروم، الآية:39.
(2)
سورة آل عمران، الآية: 130 - 131.
(3)
سورة آل عمران، الآية: 133، 134.