الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السديدة. وهؤلاء المنحرفون هم الذين أقام الله عليهم الحجة بقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} (1)، وقوله:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} (2).
وكل تلك الأواصر العائلية والروابط الاجتماعية قد حُفَّ بالمكاره والشهوات، واختلط به من الهوى المتبع والبُعد عن الدين ما جعله يقوى ويضعف بحسب الأخذ بأسباب الحزم والقوة، أو بوسائل الانفكاك والانحلال. فهذا التشريع الإسلامي، لضبطه أحوال المجتمعات وتعليمه إياها الكتاب والحِكمة، وتلقينها إياه نظرياً وعملياً، هو جملة ما يُحتاج إليه من قواعد وأصول ومبادئ، تلاشت حقائقها باتباع سبيل الغَي والبُعد عن طريق الحق. ذلك أنهم {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} (3).
طرق انحلال الأواصر الثلاث:
في الباب الثالث من القسم الثالث من كتاب المقاصد تحدث الإمام الأكبر عن أمثلة من أحكام الأسرة وأدلتها. وحصر الكلام في دائرتين:
الأولى: دعائم الأُسرة وما ينبغي أن يراعى فيها من وسائل تحقّق الترابط المتين بين الأواصر الثلاث: النكاح، والنسب والقرابة، والصهر. فهذه الأصول في تكوين العائلة قد وضع لها الشارع قوانين وأحكاماً تضبطها وتنظمها، وتكون بها أعدل المجتمعات وآمنها، وأكثرها عزة ومنعة وسؤدداً وشرفاً. وكل هذا من فضل الله عليها، وحمايته سبحانه لها. فالعائلة في جميع تصرّفاتها،
(1) سورة القصص، الآية:50.
(2)
سورة الجاثية، الآية:23.
(3)
سورة المائدة، الآية:77.
تساندها التوجيهات الإلهية، وتحدوها صور من التعاون المثالي، والنصيحة التامة. وهي بتلاوتها القرآن العظيم، وتدبّرها معاني آياته، تتوصّل إلى تعيين ومعرفة المقاصد الشرعية التي خصّها الله بها.
الثانية: هذا المدد الرباني الكريم الذي يحدد سلوك الأفراد والمجتمعات منفصلة عن بعضها، أو ممتزجةً جميعُها باتباعها المنهج الرشيد الوحيد الصادر عن الحق سبحانه، والمتمثل في الطريقة العملية التفصيلية التي جاء بها الرسول الأمين خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم. فاجتمعت من هذا وذاك آيات الأحكام وأحاديثها، وكل ما يرتبط بها من نصوص حُكمية وحِكمية فيها الدعوة إلى الحق، والتوجه إلى الخير، والتنافس في العمل الصالح. ومثلما كانت المرحلة الأولى تأسيساً وتعليماً وتلقياً وإدراكاً لأسباب العناية الإلهية، الكاشفة عن المقاصد الشرعية في تشريعنا وفقهنا، بدت لنا تشاريع أخرى تدني الطبيعة الإنسانية من النصوص التكليفية، تضيف إلى ما في الأولى من قوة وإيجابية طرقاً أساسية وقواعد وأحكاماً جديدة تضمن تدارك الأوضاع المرتبِكة في العائلة، وتنفي عنها الظلم، وتجعلها متكافئة في الحالين بانبناء أحكامها وتصرّفات المؤمنين فيها على حسب الأوامر والنواهي التي لابست الأُسرة في أحوالها المختلفة، في حال إقامة عُمَدها وأصولها، وحال محافظتها على المصالح الباقية، وحال مساعدتها على انحلال الأواصر الضعيفة، انحلالاً طبيعياً وشرعياً حسب القواعد والأصول.
قال صاحب المقاصد: قد جعلت الشريعة لكل آصرة وسيلةً إلى انحلالها إذا تبيّن فساد تلك الآصرة أو تبيّن عدم استقامة بقائها (1).
(1) المقاصد: 443.
وأقوى الأسباب القاضية بانحلال النكاح: الطلاق. وهو صور كثيرة معروفة عند الفقهاء منها: تصرّفٌ مملوكٌ للزوج يُحدثه بلا سبب، فيقطع النكاح (1). وقيل: هو رفع عقد النكاح في الحال أو المآل، بلفظ مخصوص أو ما يقوم مقامه (2).
والنسب والصهر ليسا آصرة عقدية، والأمر ظاهر.
ويقع الطلاق من الزوج بذاته.
ويقع بالرفع إلى الحاكم إن حصل إضرار.
ويكون بالفسخ. وهو حل رابطة العقد. وبه تنهدم آثار العقد وأحكامه التي نشأت عنه (3).
ويقع الطلاق من المرأة في صفة الخُلع. والخُلع إزالة ملك النكاح بلفظ الخلع أو ما في معناه، مقابلَ عوض تُلزم به الزوجة أو غيرها (4).
وفي صور أخرى يكون الطلاق بيد المرأة، بالخُلع إذا اشترطته أو اشترطه الزوج. وبه يكون تخلّص مما عسى أن يكون عليه في بعض الرجال، أو في العرف المنتشر بين الناس، أو في بعض القبائل أو العصور من حماقة أو غلظة جلافة، أو تسرعٍ إلى الطلاق اتباعاً لعارض الشهوات بأن تشترط أن يكون طلاقها بيدها، أو أمر الداخلة
(1) مغني المحتاج: 3/ 279.
(2)
مغني المحتاج: 3/ 279؛ الدر المختار: 3/ 226 - 227؛ الشرح الكبير: 2/ 347؛ المغني: 7/ 296.
(3)
الحموي. شرح الأشباه والنظائر: 2/ 195.
(4)
الدر المختار: 3/ 86؛ الدسوقي على الشرح الكبير: 2/ 347؛ بداية المجتهد: 2/ 72؛ فتح الجليل 2/ 182؛ مغني المحتاج: 2/ 262.
عليها بيدها، أو إن أضرّ بها زوجها فأمرها بيدها (1).
واستشهدوا على صحة هذا التصرّف بحديث عقبة بن عامر: "أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم من الفروج"(2).
وأبطل سعيد ابن المسيب الشروط اللاحقة لعقدة النكاح مطلقا، وقال مالك لو شرطه لها، ثم أَسقطت الشرط، وأباحت له التزوّج أو التسرّي أو الخروج. فإن كان بقرب إرادة فعل الزوج لزمها الإسقاط ولا رجوع لها، وإن تراخى فعل الزوج كان لها الرجوع فيما أباحت له. وهو قول ابن القاسم (3).
وتحرير القول في العقد مع الشرط عند المالكية: أن الشرط إذا انعقد عليه النكاح كان شرطاً باطلاً غير لازم، وإن وقع طوعاً من الزوج بعد عقدة النكاح لزم، بناء على إلزام المرء بما التزم به (4).
والتفريق عبارة عن إلغاء العلاقة الزوجية بين الزوجين بُحكم القاضي بناء على طلب أحدهما لسبب كالشقاق والضرر، وعدم الإنفاق، أو بدون طلب حفظاً لحق الشرع كما إذا ارتد أحد الزوجين. وحكمُ هذا الطلاق البينونة في بعض الأحوال، والفسخ في أخرى، كما يقع طلاقاً رجعياً (5).
والقصد الشرعي من الطلاق والفراق ارتكابُ أخفّ الضرر عند تعسّر استقامة المعاشرة، وخوف ارتباك حال الزوجية، وتسرّب ذلك
(1) المقاصد: 443 - 444.
(2)
خَ: 3/ 175.
(3)
جعيط. الطريقة المرضية: 161.
(4)
المقاصد: 445.
(5)
ابن عابدين: 2/ 396؛ الزرقاني: 5/ 242.
إلى ارتباك حالة العائلة (1).
أما بقية أواصر العائلة مثل آصرة النسب فإنها لا تطلق على الإبطال إلا تسامحاً؛ لأن انحلال أواصر النسب منوطٌ بآصرة البنوة التي هي أصل النسب. والنسب الثابت لا يقبل انحلالاً ولا إسقاطاً إلا من طريقين هما: اللعان، وإثبات انتساب الولد إلى أب غير الذي يَنسِبه إلى نفسه أو ينسِبُه الناس إليه.
وألغى الرسول صلى الله عليه وسلم اعتماد عدم الشبه بين الولد ووالده المنتسب إليه، فإنه غير صحيح ولم يرخص فيه كما في حديث ضمضم الفزاري (2). وأكد النووي على هذا بقوله: إن التعريض بنفي الولد ليس نفياً، وإن التعريض بالقذف ليس قذفاً. وهو مذهب الشافعي. وفيه إثبات القياس، والاعتبار بالأشياء، وضرب الأمثال، وفيه الاحتياط للأنساب وإلحاقها بمجرد الإمكان (3).
ومن المقاصد الشرعية الهامة: إبطال التبنّي وإعطاء الولد المنتسب الحق في الدفاع عن نفسه، وقد قال العلماء أن لا تعجيزَ في حق إثبات النسب (4).
وأشار المؤلف بعد هذا إلى بيان انحلال آصرة الصهر مصرّحاً بأن الانحلال يكون تاماً كما في أخت المرأة وعمتها وخالتها، إذا انفكت عصمة تلك المرأة بموت أو طلاق، ومنه ما لا انحلال فيه مثل أم الزوجة، وزوجة الأب، وزوجة الابن والربائب كما هو مبسوط ومفصّل في محله من دواوين الفقه.
(1) المقاصد: 443 - 444.
(2)
خَ: 6/ 178؛ مَ: 2/ 1137.
(3)
النووي. شرح مسلم: 10/ 133 - 134.
(4)
المقاصد: 448.