الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الثاني ما يكون باعتبار تعلق المقاصد بعموم الأمة أو جماعاتها أو أفرادها. ونراها على هذا الأساس تختلف بين كلية وجزئية.
والقسم الثالث ما يكون باعتبار تحقّق الاحتياج إليه في قوام أمر الأمة أو الأفراد. وتختلف أنواعه بين قطعيّة وظنيّة ووهميّة.
وقدم الشاطبي لهذه الأقسام الثلاثة ببيان أن المقاصد التي يُنظر فيها قسمان: أحدهما ما يرجع إلى قصد الشارع، والآخر إلى ما يرجع إلى قصد المكلف.
ثم ذكر التكاليف الشرعية التي ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، فبدأ بالكليات الخمس وهي: حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل.
القسم الأول من المقاصد:
وعلى نحو ما جرى عليه صاحب الموافقات تعرض الإمام الأكبر إلى الأنواع الثلاثة من ضروريّة وحاجيّة وتحسينيّة. وهذه تتنوع إلى أربعة أنواع:
° النوع الأول: مقاصد وضع الشريعة ابتداءً (1).
° النوع الثاني: مقاصد وضع الشريعة للأفهام (2).
° النوع الثالث: مقاصد وضع الشريعة للتكليف (3).
° النوع الرابع: مقاصد وضع الشريعة للامتثال (4).
وهذه الأنواع الأربعة مبيّنة أكمل بيان، في كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية (5).
(1) المقاصد: 165.
(2)
المقاصد: 80 - 81.
(3)
المقاصد: 291.
(4)
المقاصد: 350.
(5)
انظر: في كتاب المقاصد أدلة الشريعة اللفظية لا تستغني عن معرفة =
أحاط الشيخ ابن عاشور بهذا القسم إحاطة كاملة، وأورد الكثير من البيانات والتقسيمات التي عرضها نقلاً عن الأئمة كالغزالي وابن الحاجب والقرافي والشاطبي. وسار على طريقتهم في ترتيب الكليّات، وخالف القرافي ونازعه في اعتبار حفظ العرض من الضروريات. وتحدّث إثر ذلك عن طرق حفظ الضروريات، وشرحَ القصد من الحاجيات وكذلك التحسينيات، وعدّل وأضاف أشياء كثيرة لم ينتبه إليها من قبله.
أما تعريفه للمصالح الضرورية فقوله: هي التي تكون الأمة بمجموعها وآحادها في ضرورة إلى تحصيلها بحيث لا يستقيم النظام باختلالها. فإذا انخرمت تؤول حالة الأمة إلى فساد وتلاش. وذلك بما قد يحصل من تفاني بعضها ببعض، أو بتسلط العدو عليها، إذا كانت بمرصد من الأمم المعادية لها.
واستند الإمام إلى الغزالي في القول بأن العلم بالضروري مقصود للشارع بأدلة خارجة عن الحصر، واستدل لذلك أيضاً بقول الشاطبي: إن علم هذه الضروريات صار مقطوعاً به لتضافر أدلته.
فقتل النفس مثلاً ورد الخطاب الإلهي بالنهي عنه، وأقام على ارتكابه جنس العقوبة، وأغلظ فيها بالتوعد عليه، ومقارنة شناعة ارتكابه بالشرك. ويذكر بعد هذا ما نبه إليه بعض علماء الأصول من قولهم: إن الإشارة إلى هذه الضروريات ورد بها الذكر الحكيم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ
= المقاصد الشرعية: 79؛ انتصاب الشارع للتشريع: 87؛ الصفة الضابطة للمقاصد الشرعية: 165؛ ليست الشريعة بنكاية: 292؛ نفوذ التشريع والإلزام به يكون بالشدة تارة والرحمة أخرى: 349.
شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1). وفي هذه الآية العامة في مخاطبة المكلفين ذكرٌ لأصناف الضروريات من دين ومال ونسب ونفس وعقل.
وسلك الإمام الأكبر مسلك الشاطبي في بيان حفظ هذه الكليات الخمس من أصول العقيدة والسلوك. فصوّر حفظ الدين بصورتين:
الأولى: حفظ دين كل أحد من المسلمين من أن يدخل عقيدتَه ما يُفسدها أو يفسد عملَه اللاحق بالدين.
الثانية: حفظ الدين بالنسبة لعموم الأمة. وذلك بدفع كل ما من شأنه أن ينقض أصول العقيدة. وهو ما يرجع إلى حماية البيضة والذب عن الحوزة الإسلامية بإبقاء وسائل تلقّي الدين من الأمة في حاضرها وآتيها.
أما حفظ النفس فمعناه صيانتها من التلف أفراداً وجماعات. والقصاص هو أضعف أنواع حفظ النفوس؛ لأن الأهم من ذلك حفظ النفس من التلف قبل وقوعه كمقاومة الأمراض السارية، ومنع الناس من أن تدركهم العدوى بدخول بلد قد انتشرت فيه أوبئة.
وأما حفظ العقل فتحصينه مما يمكن أن يدخل على عقل الفرد من خلل يفضي إلى فساد جزئي، أو على عقول الجماعات وعموم الأمة من فساد أعظم، سببه تناول المفسدات من مسكر أو حشيش أو أفيون ونحو ذلك.
(1) سورة الممتحنة، الآية:12.
وأما حفظ المال فطريقه التأدب بآداب الإسلام فيه. وذلك بالإمساك عن الإتلاف المنهي عنه شرعاً، وحفظ أجزاء المال المعتبرة من التلف بدون عوض.
ولا يكون من هذا إلغاء بعض الأعواض من الاعتبار، ولا حفظ الأموال من الخروج من يد مالكها إلى يد أخرى من أيدي الأمة بدون رضا. فإن تلك من الحاجي لا من الضروري. وحفظ الأموال الفردية يؤول إلى حفظ مال الأمة وبه يحصل.
وأما حفظ الأنساب فهو المعبَّر عنه بحفظ النسل. وتناوله الإمام بشيء من البسط في القول، جاعلاً حفظ الأنساب - أي النسل - من الضروري. وذلك ما يتحقق بحفظ ذكور الأمة من مثل الاختصاء أو من ترك مباشرة النساء باطراد العزوبة، وبحفظ إناث الأمة من قطع بعض أعضاء الأرحام التي بها الولادة، ومن أن تنشئ إفساد الحمل وقت العلوق، أو بقطع الثدي فإنه يكثر الموتان.
ويكون حفظ النسب بتحقيق انتساب النسل إلى أصله وهو من الحاجي. لكنه لما كان لفواته عواقب وخيمة يضطرب بها أمر نظام الأمة، وتنخرم بها دعامة العائلة غلظت الشريعة في حدّ الزنى. وممّا ورد من التغليظ فيه ما قاله بعض العلماء في نكاح السر، وكذلك فيما ورد عنهم في النكاح بدون ولي وبدون إشهاد.
وزاد القرافي على هذه الكليّات الواجبِ حفظُها حفظَ العِرض. وردَّ الإمام الأكبر ذلك، سالكاً منهج الغزاليَ وابن الحاجب في القول بعدم ضروريته، معلّلاً اتجاهه ورأيه بنفي التلازم بين عدِّ الأمر من الضروري، وبين ما يترتّب على تفويته من حدًّ. ويكون الضروري قليل التعرض إليه في الشريعة لاتخاذ البشر فيه ما يستوجبه من حيطة؛ لأنّه من الجبلّي المركوز في الطبع.
وتعرض الشيخ ابن عاشور بعد ذلك إلى قسمي الحاجي والتحسيني. وهما معدودان في المصالح المعتبَرِ أثرُها في قوام أمر الأمة.
فالحاجي، كما قدمنا، هو ما تحتاجه الأمة لاقتناء مصالحها وانتظام أمرها على وجه حسن، بحيث لولا مراعاته لفسد النظام، ولكنه يكون على حالة غير منتظمة فلا يبلغ مبلغ الضروري (1). وعرفه الشاطبي بقوله: هو ما يفتقر إليه من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدّي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب. فلو لم يُراعَ دخل على المكلَّفين الحرجُ والمشقّةُ، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد المتوقع في المصالح العامة.
وتولّى المؤلف إثر هذين التعريفين المسوقين للمقارنة بينهما ذكرَ أمثلة للحاجي جعل منها الأصوليون البيوع والإجارات والقراض والمساقاة. ووضع الشيخ ابن عاشور لضبط الحاجي قاعدة يسهل عن طريقها إدراك جملة من صوره. وذلك قوله: إن معظم قسم المباح من المعاملات راجع إلى الحاجي. وألحق به النكاح الشرعي، وحفظ الأنساب كإلحاق الأولاد بآبائهم والعكس. ومنه أيضاً في البيوعات بيوع الآجال المحظورة لأجل سد الذريعة، وتحريم الربا، وأخذ الأجر على الضمان، وبذل الشفاعة. فإن هذه أكثرَها من الأحكام التكميلية لحفظ المال وليست داخلة في أصل حفظ المال.
ويتلو الضروريات والحاجيات قسم التحسينيات.
عرف الغزالي التحسيني من المصالح بقوله: هو الذي يقع موقع
(1) المقاصد: 241.