المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تعقيبات الإمام ابن عاشور ومناقشاته: - مقاصد الشريعة الإسلامية - جـ ٢

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌بَيْنَ عِلْمَيِّ أصُوْل الْفِقْهومَقَاصِد الشَّرِيْعَةِ الإسْلاميَّةِ

- ‌المقدمة

- ‌التمهيد لمقاصد الشريعة

- ‌الباب الأولقضايا ذات صلة بالفقه وبعلمي أصول الفقه ومقاصد الشريعة الإسلامية

- ‌الفصل الأول: بين الفقه وأصول الفقه ومقاصد الشريعة

- ‌ الفقه

- ‌علم أصول الفقه:

- ‌علم مقاصد الشريعة:

- ‌الفصل الثاني: قضايا أصولية وكلامية

- ‌قطعيّة أدلةِ علم أصول الفقه وظنّيّتها:

- ‌من أسباب ظنّية علم الأصول:

- ‌أ - الأحوال العارضة للنصوص:

- ‌اختلاف أنواع الدلالة:

- ‌أنواع المفاهيم:

- ‌تباين المحكم والمتشابه:

- ‌خبر الآحاد:

- ‌الإجماع وأنواعه:

- ‌ب -‌‌ التعليل، والعلة، والتعبّدي:

- ‌ التعليل

- ‌العلَّة:

- ‌شروط العلة:

- ‌التعليل عند المتكلمين:

- ‌رد الشيخ ابن عاشور على الأشاعرة:

- ‌الوجوب والغرض:

- ‌رد الجويني على الأشاعرة:

- ‌الأصوليون والتعليل:

- ‌العول:

- ‌أهميّة التعليل:

- ‌إصرار ابن حزم على رأيه واستدلاله على صحّة موقفه:

- ‌التعبّدي:

- ‌حكم القياس:

- ‌العمل بالقياس:

- ‌القياس بين المثبتين والنُّفاة:

- ‌مجالات الإثبات والإنكار للقياس:

- ‌القياس عند الظاهرية:

- ‌حجية القياس: أدلة المثبتين:

- ‌أدلة نفاة القياس:

- ‌الباب الثانيمع روّاد علم أصول الفقه وعلم مقاصد الشريعة

- ‌الفصل الأول: من طلائع الأصوليين وعلماء المقاصد

- ‌1 - الجويني: البرهان:

- ‌2 - الغزالي: شفاء الغليل، المنخول، المستصفى:

- ‌3 - العز بن عبد السلام: القواعد:

- ‌4 - القرافي: الفروق:

- ‌الفصل الثاني: موضوعات من علم المقاصد في كتب جماعة من الفقهاء

- ‌(1) المقاصد وكتاب الفروق للإمام القرافي:

- ‌الموضع الأول: انتصاب الشارع للتشريع:

- ‌الموضع الثاني: الحقوق وإسقاطها:

- ‌الموضع الثالث: نوط الأحكام الشرعية بمعانٍ وأوصاف لا بأسماء وأشكال:

- ‌الموضع الرابع: سدّ الذرائع:

- ‌الموضع الخامس: نفوذ الشريعة:

- ‌(2) المقاصد وكتاب نفائس الأصول:

- ‌(3) المقاصد وكتاب تنقيح الفصول:

- ‌الشاطبي وكتاب الموافقات:

- ‌ رأي ابن عاشور في عمل الشاطبي

- ‌تأييد ابن عاشور للشاطبي في بيان قصد الشارع من التكليف:

- ‌انصباب تكاليف الشريعة على العبادات والمعاملات والعادات:

- ‌مناقشة الشاطبي قوله بقطعيّة الأدلة:

- ‌تعريف الشيخ ابن عاشور بأنواع المصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا:

- ‌تقسيم التكاليف إلى عزائم ورخص:

- ‌التحيّل:

- ‌الفصل الثالث: المقاصد العامة والمصالح

- ‌الفطرة:

- ‌السماحة:

- ‌ المساواة

- ‌موانع المساواة:

- ‌الحرية:

- ‌تشوف الشارع للحرية:

- ‌تعريف المصلحة والمفسدة:

- ‌المصلحة والمفسدة محضتان خالصتان ومشوبتان مختلطتان:

- ‌الفصل الرابع: ضوابط المقاصد وأقسامها

- ‌القسم الأول من المقاصد:

- ‌المقاصد بين كلية وجزئية:

- ‌المقاصد بين قطعيّة وظنيّة:

- ‌المقاصد الأصلية والمقاصد التابعة:

- ‌المقاصد والوسائل:

- ‌الفصل الخامس: بحث المقاصد في أطراف الكتاب

- ‌الباب الثالثفي إثبات مقاصد التشريع الإسلامي وحاجة الفقهاء إلى معرفتها والوقوف عليها

- ‌توطئة

- ‌الفصل الأول: منهج السلف في طلب مقاصد الشرع من الأحكام

- ‌الفصل الثاني: الأنحاء الخمسة لتصرّفات الفقهاء في طلب المقاصد

- ‌الفصل الثالث: من طرق إثبات المقاصد الشرعية

- ‌الفصل الرابع: في القواعد الشرعية

- ‌الكليات:

- ‌الطريق الممهِّدة للتعرّف الدقيق على المقاصد وتعيينها:

- ‌القواعد والضوابط لمعرفة الأحكام وتعيين المقاصد:

- ‌الباب الرابعأمثلة للمقاصد مستخرجة من كتب المؤلف:

- ‌الفصل الأول: أمثلة للمقاصد الشرعية المستخرجة من التحرير والتنوير

- ‌المثال الأول: النبي الأمي صلى الله عليه وسلم

- ‌الْمَعْرُوفِ}

- ‌الطيبات:

- ‌الرحمة:

- ‌المثال الثاني: ضرب المرأة:

- ‌المثال الثالث: الطلاق ثلاثاً بلفظ واحد:

- ‌المثال الرابع: مثال من كتاب النظر الفسيح: حديث الوصيّة

- ‌المثال الخامس: مثال من كتاب كشف المُغطَّى: حديث بيع الخيار

- ‌الباب الخامسمنهجية الشيخ ابن عاشور في كتاب المقاصد

- ‌الفصل الأول: أسس النظر في المقاصد والأحكام

- ‌الإسلام حقائق لا أوهام:

- ‌من صفات الشريعة رفع خلط الاعتبارات بالأوهام:

- ‌الخطاب الشرعي أو النصوص التشريعية:

- ‌الفصل الثاني: منهج الشيخ ابن عاشور في تقريراته وفي تناوله لبعض متممات الخطاب

- ‌التفصيل والتقسيم:

- ‌الضوابط والشروط:

- ‌التقرير والتقعيد:

- ‌الأسباب:

- ‌إعمال النظر الشرعي طلباً لتحديد الأحكام:

- ‌الاستدلال:

- ‌المقام والسياق:

- ‌الاستقراء:

- ‌تنوُّع الأحكام بين التعبّدي والمُعلَّل:

- ‌تعقيبات الإمام ابن عاشور ومناقشاته:

- ‌الفصل الثالث: مع فقهاء الشريعة الإسلامية

- ‌1 - التضييق في الرخص:

- ‌2 - تعارض الروايات:

- ‌3 - الإجماعُ:

- ‌4 - اختلاف الفقهاء:

- ‌5 - من صور اختلاف الفقهاء:

- ‌توجيه وتنبيه:

- ‌التنبيهات:

- ‌6 - المقادير:

- ‌7 - المصطلحات الشرعية:

- ‌من المصطلحات:

- ‌المنهج:

- ‌المسائل والأحكام في "مقاصد الشريعة الإسلامية

- ‌القواعد والمقاصد باعتبار ما ينبني عليها، أو ما تدعو إليه من ترتيبات وتصرفات:

- ‌القسم الأول: يتضمن جملة من القواعد والمقاصد:

- ‌القسم الثاني: استنباط الأحكام من القواعد العامة:

- ‌القضاء بالعوائد:

- ‌الأوصاف الطردية:

- ‌ترجيح المصلحة الكبرى:

- ‌العمل بالمصلحة المرسلة:

- ‌القسم الثالث: موضوعات ذات صلة بالأصول والمقاصد للإمام عليها ملاحظات أو له بشأنها اقتراحات:

- ‌الباب السادسمصادر التشريع

- ‌الكتاب:

- ‌السُّنة:

- ‌الإجماع:

- ‌القياس:

- ‌أنواع القياس:

- ‌أقيسة الاستدلال:

- ‌جريان القياس:

- ‌المصلحة المرسلة:

- ‌الاستحسان:

- ‌سدّ الذرائع:

- ‌الحيلة:

- ‌أركان الحيلة:

- ‌أنواع التحيّل:

- ‌الباب السابعتوجه الأحكام التشريعية إلى المعاملات وتعيين الحقوق لأنواع مستحقيها

- ‌توطئة

- ‌الفصل الأول: الحقوق وأنواعها

- ‌تعيين مستحقي الحقوق يرفع أسباب النزاع:

- ‌أصحاب الاستحقاق:

- ‌حقوق العمال:

- ‌القواعد العامة لقيام المجتمعات الإنسانية:

- ‌الفصل الثاني: مقاصد العائلة في الشريعة

- ‌آصرة النكاح:

- ‌ آصرة النسب

- ‌آصرة الصهر:

- ‌طرق انحلال الأواصر الثلاث:

- ‌الفصل الثالث: الأموال

- ‌ تعريف المال:

- ‌ أنواع المال:

- ‌ أقسام المال في الملكية:

- ‌ الفوارق بين الأموال العينية والنقدية:

- ‌ المقايضة

- ‌النقود

- ‌من النقود السلعية إلى النقود المعدنية:

- ‌رأي الغزالي والمقريزي في النقدين:

- ‌النقود عند ابن القيم وابن عابدين:

- ‌أنواع النقود:

- ‌النقود المساعدة:

- ‌الفصل الرابع: مقاصد التصرّفات المالية ونظر الشريعة في أهمية الأموال

- ‌من مقاصد المعاملات المالية

- ‌أ - مصارف المال: البرّ، والصدقات، والزكاة:

- ‌الزكاة:

- ‌ب - التملُّك والتكسُّب:

- ‌1 - الأسباب المشروعة وغير المشروعة للتملك:

- ‌2 - أصول التكسّب:

- ‌ الأرض

- ‌ العمل:

- ‌ أنواع العمل:

- ‌ اختيار المسؤولين والعمال:

- ‌ج - رأس المال:

- ‌د - مجالات التكسب:

- ‌ التجارة

- ‌ الفلاحة:

- ‌ الصناعة:

- ‌ الاحتكار:

- ‌ الرواج:

- ‌استنفادُ بعض الثروة:

- ‌من أحكام المعاوضات:

- ‌توسيع الدراسات الفقهية:

- ‌الفصل الخامس: العقود

- ‌المجموعة الأولى: عقود التمليك:

- ‌التبرعات:

- ‌الرهن:

- ‌الوقف:

- ‌الهبة:

- ‌المجموعة الثانية: عقود المعاوضات:

- ‌البيع:

- ‌الإجارة:

- ‌السَّلَم:

- ‌المجموعة الثالثة: عقود المشاركة أو الشركات القائمة على عمل الأبدان:

- ‌ المضاربة

- ‌المساقاة:

- ‌المزارعة:

- ‌المغارسة:

- ‌تحريم المعاملات الربوية كلها:

- ‌العقود المنهي عنها:

- ‌بيع حاضرٍ لبادٍ ممن لا يعرف الأسعار، ومن كل وارد على مكان وإن كان من مدينة:

- ‌تلقي الركبان

- ‌البيع وقت النداء لصلاة الجمعة:

- ‌البيع والشرط وهو ما يسميه الفقهاء بيع الثُّنْيَا وبيع الوفاء:

- ‌الفصل السادس: مسائل مختلفة

- ‌تصرّفات المكلفين وأفعالهم، وما يترتب عليها من تشاريع وأحكام تناط بها أغراض الشارع ومقاصده

- ‌أثر المقاصد والمصالح في التشاريع والأحكام التي تحكم تصرّفات المكلفين:

- ‌جواز كراء الأرض بالخارج منها:

- ‌الفصل السابع: بيان طرق الاستدلال على مقاصد الشريعة

- ‌طرق التعرف إلى المقاصد:

- ‌دلالات المقاصد:

- ‌الرخصة:

- ‌الإصلاح والمصلحة:

- ‌الباب الثامنمقاصد أحكام القضاء والشهادة

- ‌توطئة

- ‌تولية القاضي:

- ‌عزل القاضي:

- ‌الباب التاسعالغرض من مقاصد الشريعة

- ‌مع علم مقاصد الشريعة:

- ‌النزوع إلى التجديد عند ابن عاشور وغيره من العلماء:

- ‌أول المجددين للدين في نظر صاحب المقاصد هو الإمام مالك بن أنس:

- ‌إمام الحرمين:

- ‌التطوّر والتجديد:

- ‌التجديد بين اتجاهين تحيط بهما محاذير:

- ‌المحاذير من التجديد:

- ‌التراث عروبة وإسلام:

- ‌تصورات للتجديد:

- ‌الباب العاشرالاجتهاد

- ‌الفصل الأول: مقدمات في الاجتهاد

- ‌واجب الاجتهاد:

- ‌إعادة النظر في قضايا اجتهادية:

- ‌الإجراءات الشرعية:

- ‌الفصل الثاني: عالميّة الشريعة والعمل بها

- ‌عالمية الشريعة وأسباب العمل بها:

- ‌العمل بالشريعة:

- ‌الفصل الثالث: بعض ما يحتاج إلى إعادة النظر فيه من الأحكام

- ‌مسائل بيع الطعام:

- ‌المُقاصّة:

- ‌بيوع الآجال:

- ‌كراء الأرض بما يخرج منها:

- ‌الشفعة في خصوص ما يقبل القسمة:

- ‌الفصل الرابع: الدعوة إلى إقامة مجمع للفقه الإسلامي

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌تعقيبات الإمام ابن عاشور ومناقشاته:

العلم بأن رواج الطعام وتيسير تناوله مقصد من مقاصد الشريعة (1). وقوله: لا بد للفقيه من استقراء الأحوال وتوسُّم القرائن الحافة بالتصرّفات النبوية. فمن قرائن التشريع انتصاب الشارع للتشريع (2).

وحيطة في النظر والاجتهاد في طلب المقصد الشرعي يقول الشيخ: على الباحث في مقاصد الشريعة ألا يعيّن مقصداً شرعياً إلا بعد استقراء تصرّفات الشريعة في النوع الذي يريد انتزاع المقصد الشرعي منه (3).

‌تعقيبات الإمام ابن عاشور ومناقشاته:

1 -

يتّسم الشيخ ابن عاشور بجزالة لغته ودقةِ استعمالاته، وكثرة مراجعاته ومناقشاته لما ينقله من آراء لأعلام المفسرين والفقهاء واللغويين. ولدسامة مادة المقاصد نراها تحتاج كما عند المتقدمين إلى شروح تفتح مغلقها وتوضح القول فيها. وهو ما قام به الإمام وحاول أن يوفيه حقه.

2 -

احتفاءُ الإمام احتفاء كبيراً بالمصدرين الأساسيين من مصادر الشريعة. فهو لا ينفك يرجع إليهما ويعتمد عليهما. فكانت مادة القرآن في مصنّفه ثرية وكذلك مادة السُّنة. وإن تكرر ذكره لبعض ما في المادتين، فبحسب المواقع والأغراض التي يطرحها. وإن نظرة في الفهارس لتغني عن بيان ذلك وتعليله.

3 -

نسبة الإمام جملة من الآثار إلى أصحابها أو رُواتها في

(1) طرق إثبات المقاصد الشرعية. المقاصد: 61.

(2)

انتصاب الشارع للتشريع. المقاصد: 87.

(3)

مقاصد الشريعة مرتبتان: قطعية وظنية. المقاصد: 138.

ص: 249

المسائل العلمية الفقهية وغيرها، كما أراد أن يصوّر خلافاً أو يحدّد مذهباً، أو يشير إلى ما وقع في المسألة من اجتهاد للأئمة أصحاب المذاهب، ومن سبقهم أو لحق بهم.

وطريقته ومنهجه في تقسيمه لكتاب المقاصد، وما احتوى عليه من أبواب وفصول، وورد به من مذهب أو قول في قضايا المقاصد يحتاج إلى شرح أو تعليق. وهو عندما يطيل القول في بحثه يعمد إثر ذلك إلى تلخيصه وإيراد فذلكة له، تيسيراً لاستيعابه، وجعله مستقراً في الذاكرة. يمهد لذلك وينبه إليه بمثل قوله: وجملة القول أن لنا اليقين بأن أحكام الشريعة كلها مشتملة على مقاصد الشارع. وهي حِكم ومصالح ومنافع (1).

أو بقوله مثلاً تصويراً لفحوى كلام الشاطبي، وبياناً له. وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في قوله: إناطة الأعمال بالأسباب (2). إن في طريقة الشيخ في مناقشاته وتعقيباته وإبدائه لآرائه ما يُغنينا عن ذكر العديد من المسائل. وهذه الظاهرة منتشرة في كتابه. نكتفي بالإشارة إلى بعضها:

(1)

قول الشاطبي بقطعيّة أصول الفقه مناصرةً منه لإمام الحرمين. عارضه الشيخ ابن عاشور فيه وأبدى مخالفته الصريحة له. وقال في تعليقه على الشاطبي وعلى ما اعتمده من مبرّرات: حاول أبو إسحاق الشاطبي في المقدمة الأولى من كتاب الموافقات (3) الاستدلال على كون أصول الفقه قطعيّة فلم يأت بطائل (4). ويعزّز هذا الموقف أوَّلاً ما نقله الإمام من كلام القرافي في نفائسه، ثم تعليله لما ذهب إليه بقوله: وأنا أرى سبب اختلاف الأصوليين في

(1) المقاصد: 159.

(2)

المقاصد: 321.

(3)

المواففات: 2/ 29.

(4)

المقاصد: 21.

ص: 250

تقييد الأدلة بالقواطع إنما هو، كما أشرنا إلى ذلك، الحيرة بين ما ألفوه من أدلة الأحكام، وبين ما راموا أن يصلوا إليه من جعل أصول الفقه قطعيّة كأصول الدين السمعية .. وفي معظم أصول الفقه اختلاف بين علمائه. فنحن إذا أردنا أصولاً قطعيّة للتفقّه في الدين حقّ علينا أن نعمد إلى مسائل أصول الفقه المتعارفة، وأن نعيد ذوبها في بوتقة التدوين، ونعيّرها بمعيار النظر والنقد، فننفي عنها الأجزاء الغريبة التي غلثت بها، ونضع فيها أشرف معادن مدارك الفقه والنظر. ثم يعد صوغ ذلك العلم ونسميه علم مقاصد الشريعة (1).

وبهذه الطريقة يكون الرأي الذي انتهى إليه الشيخ ابن عاشور في هذا الموضوع رأياً له أُسُسُه وقواعدُه التي دلت عليها مناقشته للشاطبي، كما أنه عزّز ذلك بما قدّمه من اقتراحات لمدرسة الجويني، تُمكّنها من تحقيق غايتها وبلوغ مقصدها.

(2)

الحديث عما طبعت عليه الشريعة الإسلامية من خضوعها للفطرة ومسايرتها للجِبِلَّة. قال الشاطبي في الفصل الثامن، المسألة السابعة من الموانع

: إن الأدلة على رفع الحرج في الأمة بلغت مبلغ القطع (2). فاعتمد في تقريره لهذا المعنى القاعدة الأصولية المعروفة، وردّ الشيخ ابن عاشور هذه الحقيقة إلى حِكمة السماحة في الشريعة الإسلامية. وذلك أن الله جعل هذه الشريعة دين الفطرة، وأمور الفطرة راجعة إلى الجبلة. فهي كائنة في النفوس يسهل عليها قبولها. ومن الفطرة النفور من الشدّة والإعنات. قال تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (3)

فكانت الشريعة

(1) المقاصد: 22 - 23.

(2)

الموافقات: (3) 2/ 133.

(3)

سورة النساء، الآية:28.

ص: 251

بسماحتها أشدَّ ملاءمة للنفوس؛ لأنّ فيها إراحة النفوس في حالي خويصتها ومجتمعها. وكان لتلك السماحة أثر عظيم في انتشار الشريعة، وطول دوامها (1).

(3)

وناقش الإمام تفسيرَ الفطرة للرازي قائلاً: إذا تبين الأمر وظهرت الوحدانية، ولم يهتد المشرك، فلا تلتفت أنت إليهم، وأقم وجهك للدين، أي أقبل بكلك على الدين. وقال: إن الله فطر الناس عليه، أي الدين (2).

وناقش البيضاوي في تفسيره للفطرة: فقوّم له الدين لقوله غير ملتفت أو ملتفت عنه. وهو تمثيل للإقبال واستقامة عليه والاهتمام به. والفطرة التي فُطر الناس عليها قبولهم للحق وتمكّنهم من إدراكه أو ملة الإسلام (3).

وعقّب الشيخ ابن عاشور على المقالتين بأن الدين في الآية {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} (4) ليس تخصيصه بالعقائد إلا انقياداً لظاهر السياق؛ لأن الآيات قبلها وردت في ذم الشرك وإبطال عقائد المشركين والدهريين ابتداء من قوله تعالى: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (5) إلى أن قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} ، وظنّهم أن الفاء فاء التفريع. وكلا الأمرين غير ظاهر. فليس سياق الكلام بموجب تجزئة اسم الكل. فإن الدين اسم يشمل جميع ما يتديّن به

(1) المقاصد: 192 - 193.

(2)

التفسير الكبير: 12/ 120 - 121.

(3)

أنوار التنزيل: 538؛ حاشية الشهاب: 7/ 121.

(4)

سورة الروم، الآية:30.

(5)

سورة الروم، الآية:11.

ص: 252

المرء كما دل عليه الحديث: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم"(1). وبعد محاولته تفسير الآية بالحديث ذكر القاعدة الأصولية وهي أنه إذا ورد في القرآن كلامٌ خاصٌّ ثم تلاه لفظٌ يشمل ذلك الخاص وغيره لمناسبهِ أن ذلك اللفظ لا يختص لبعض مدلوله لأجل السياق (2).

(4)

وذهب بعض الفقهاء إلى أن السيف هو المقصود في آية القتل الموجبة للقود استناداً منهم إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "كل شيء خطأ إلا السيف"(3).

وفي الردّ عليهم يقول: وعندي أنه أخذ بالظنة التي كانت الغالبة على آلات القتل في الزمن الذي ورد فيه حكم القود وهو السيف. وما حصل هنا من الخطأ كان بسبب جعل الأصل في هذا الحكم اللفظَ أو الوصفَ دون المقصدِ. والتعمد في القتل في متعارف الناس ما يحصل به إزهاق الروح (4).

(5)

وذكر في قضايا عمل الأبدان أن تأجيل خدمة المغارسة جائز تحديده بقدر تبلغه الأشجار أو مدة الإثمار. وأن الذي عليه علماء المالكية القول بفساد المساقاة في الشجر الذى لا ينقطع إثماره في وقت من السنة كشجر الموز وكالقصب. وعقّب على هذه الصورة الأخيرة بقوله: وعندي أن تأجيل مدة المساقاة في الشجر المخلف للإثمار كالموز آجلاً يحصل فيه الانتفاع للعامل خير من إبطال

(1) مَ: 1/ 36 - 38.

(2)

التحرير والتنوير: 1/ 96، 98؛ المقاصد:178.

(3)

حديث النعمان بن بشير. حَم: 4/ 272؛ وبإسناد آخر 4/ 272؛ البيهقي: 8/ 42.

(4)

التحرير والتنوير: 5/ 163؛ سورة النساء، الآية: 93؛ المقاصد: 152.

ص: 253

المساقاة في مثله، لما علمت من المقصد الأول أن تكثير هذه المعاملات مقصود للشريعة (1).

وفي كل هذه الملاحظات والفتاوى اعتمد الشيخ رحمه الله على المقصد الشرعي وتحكيمه.

ومما كان يتطلع إليه الإمام التوصل بكتابه هذا، وبما وضعه له من منهج واضح، الاعتماد على بيان مقاصد شريعة الإسلام، حتى يبلغ الغاية السامية التي أشار إليها في مقدمة تأليفه بقوله: قصدت منه إلى إملاء مباحث جليلة من مقاصد الشريعة الإسلامية، والتمثيل لها والاحتجاج لإثباتها، لتكون نبراساً للمتفقهين في الدين، ومرجعاً بينهم عند اختلاف الأنظار وتبدل الأعصار، وتوسلاً إلى إقلال الاختلاف بين فقهاء الأمصار، ودربة لاتباعهم على الإنصاف، في ترجيح بعض الأقوال على بعض عند تطاير شرر الخلاف، حتى يستتبَّ بذلك ما أردناه غير مرّة من نبذ التعصّب، والفيئة إلى الحق، إذا كان القصد إغاثة المسلمين ببلالة تشريع مصالحهم الطارئة متى نزلت الحوادث واشتبكت النوازل، وبفصل من القول إذا شجرت حجج المذاهب (2).

* * * * *

(1) المقاصد: 499.

(2)

المقاصد: 5.

ص: 254