الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العلم بأن رواج الطعام وتيسير تناوله مقصد من مقاصد الشريعة (1). وقوله: لا بد للفقيه من استقراء الأحوال وتوسُّم القرائن الحافة بالتصرّفات النبوية. فمن قرائن التشريع انتصاب الشارع للتشريع (2).
وحيطة في النظر والاجتهاد في طلب المقصد الشرعي يقول الشيخ: على الباحث في مقاصد الشريعة ألا يعيّن مقصداً شرعياً إلا بعد استقراء تصرّفات الشريعة في النوع الذي يريد انتزاع المقصد الشرعي منه (3).
تعقيبات الإمام ابن عاشور ومناقشاته:
1 -
يتّسم الشيخ ابن عاشور بجزالة لغته ودقةِ استعمالاته، وكثرة مراجعاته ومناقشاته لما ينقله من آراء لأعلام المفسرين والفقهاء واللغويين. ولدسامة مادة المقاصد نراها تحتاج كما عند المتقدمين إلى شروح تفتح مغلقها وتوضح القول فيها. وهو ما قام به الإمام وحاول أن يوفيه حقه.
2 -
احتفاءُ الإمام احتفاء كبيراً بالمصدرين الأساسيين من مصادر الشريعة. فهو لا ينفك يرجع إليهما ويعتمد عليهما. فكانت مادة القرآن في مصنّفه ثرية وكذلك مادة السُّنة. وإن تكرر ذكره لبعض ما في المادتين، فبحسب المواقع والأغراض التي يطرحها. وإن نظرة في الفهارس لتغني عن بيان ذلك وتعليله.
3 -
نسبة الإمام جملة من الآثار إلى أصحابها أو رُواتها في
(1) طرق إثبات المقاصد الشرعية. المقاصد: 61.
(2)
انتصاب الشارع للتشريع. المقاصد: 87.
(3)
مقاصد الشريعة مرتبتان: قطعية وظنية. المقاصد: 138.
المسائل العلمية الفقهية وغيرها، كما أراد أن يصوّر خلافاً أو يحدّد مذهباً، أو يشير إلى ما وقع في المسألة من اجتهاد للأئمة أصحاب المذاهب، ومن سبقهم أو لحق بهم.
وطريقته ومنهجه في تقسيمه لكتاب المقاصد، وما احتوى عليه من أبواب وفصول، وورد به من مذهب أو قول في قضايا المقاصد يحتاج إلى شرح أو تعليق. وهو عندما يطيل القول في بحثه يعمد إثر ذلك إلى تلخيصه وإيراد فذلكة له، تيسيراً لاستيعابه، وجعله مستقراً في الذاكرة. يمهد لذلك وينبه إليه بمثل قوله: وجملة القول أن لنا اليقين بأن أحكام الشريعة كلها مشتملة على مقاصد الشارع. وهي حِكم ومصالح ومنافع (1).
أو بقوله مثلاً تصويراً لفحوى كلام الشاطبي، وبياناً له. وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في قوله: إناطة الأعمال بالأسباب (2). إن في طريقة الشيخ في مناقشاته وتعقيباته وإبدائه لآرائه ما يُغنينا عن ذكر العديد من المسائل. وهذه الظاهرة منتشرة في كتابه. نكتفي بالإشارة إلى بعضها:
(1)
قول الشاطبي بقطعيّة أصول الفقه مناصرةً منه لإمام الحرمين. عارضه الشيخ ابن عاشور فيه وأبدى مخالفته الصريحة له. وقال في تعليقه على الشاطبي وعلى ما اعتمده من مبرّرات: حاول أبو إسحاق الشاطبي في المقدمة الأولى من كتاب الموافقات (3) الاستدلال على كون أصول الفقه قطعيّة فلم يأت بطائل (4). ويعزّز هذا الموقف أوَّلاً ما نقله الإمام من كلام القرافي في نفائسه، ثم تعليله لما ذهب إليه بقوله: وأنا أرى سبب اختلاف الأصوليين في
(1) المقاصد: 159.
(2)
المقاصد: 321.
(3)
المواففات: 2/ 29.
(4)
المقاصد: 21.
تقييد الأدلة بالقواطع إنما هو، كما أشرنا إلى ذلك، الحيرة بين ما ألفوه من أدلة الأحكام، وبين ما راموا أن يصلوا إليه من جعل أصول الفقه قطعيّة كأصول الدين السمعية .. وفي معظم أصول الفقه اختلاف بين علمائه. فنحن إذا أردنا أصولاً قطعيّة للتفقّه في الدين حقّ علينا أن نعمد إلى مسائل أصول الفقه المتعارفة، وأن نعيد ذوبها في بوتقة التدوين، ونعيّرها بمعيار النظر والنقد، فننفي عنها الأجزاء الغريبة التي غلثت بها، ونضع فيها أشرف معادن مدارك الفقه والنظر. ثم يعد صوغ ذلك العلم ونسميه علم مقاصد الشريعة (1).
وبهذه الطريقة يكون الرأي الذي انتهى إليه الشيخ ابن عاشور في هذا الموضوع رأياً له أُسُسُه وقواعدُه التي دلت عليها مناقشته للشاطبي، كما أنه عزّز ذلك بما قدّمه من اقتراحات لمدرسة الجويني، تُمكّنها من تحقيق غايتها وبلوغ مقصدها.
(2)
الحديث عما طبعت عليه الشريعة الإسلامية من خضوعها للفطرة ومسايرتها للجِبِلَّة. قال الشاطبي في الفصل الثامن، المسألة السابعة من الموانع
…
: إن الأدلة على رفع الحرج في الأمة بلغت مبلغ القطع (2). فاعتمد في تقريره لهذا المعنى القاعدة الأصولية المعروفة، وردّ الشيخ ابن عاشور هذه الحقيقة إلى حِكمة السماحة في الشريعة الإسلامية. وذلك أن الله جعل هذه الشريعة دين الفطرة، وأمور الفطرة راجعة إلى الجبلة. فهي كائنة في النفوس يسهل عليها قبولها. ومن الفطرة النفور من الشدّة والإعنات. قال تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (3)
…
فكانت الشريعة
(1) المقاصد: 22 - 23.
(2)
الموافقات: (3) 2/ 133.
(3)
سورة النساء، الآية:28.
بسماحتها أشدَّ ملاءمة للنفوس؛ لأنّ فيها إراحة النفوس في حالي خويصتها ومجتمعها. وكان لتلك السماحة أثر عظيم في انتشار الشريعة، وطول دوامها (1).
(3)
وناقش الإمام تفسيرَ الفطرة للرازي قائلاً: إذا تبين الأمر وظهرت الوحدانية، ولم يهتد المشرك، فلا تلتفت أنت إليهم، وأقم وجهك للدين، أي أقبل بكلك على الدين. وقال: إن الله فطر الناس عليه، أي الدين (2).
وناقش البيضاوي في تفسيره للفطرة: فقوّم له الدين لقوله غير ملتفت أو ملتفت عنه. وهو تمثيل للإقبال واستقامة عليه والاهتمام به. والفطرة التي فُطر الناس عليها قبولهم للحق وتمكّنهم من إدراكه أو ملة الإسلام (3).
وعقّب الشيخ ابن عاشور على المقالتين بأن الدين في الآية {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} (4) ليس تخصيصه بالعقائد إلا انقياداً لظاهر السياق؛ لأن الآيات قبلها وردت في ذم الشرك وإبطال عقائد المشركين والدهريين ابتداء من قوله تعالى: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (5) إلى أن قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} ، وظنّهم أن الفاء فاء التفريع. وكلا الأمرين غير ظاهر. فليس سياق الكلام بموجب تجزئة اسم الكل. فإن الدين اسم يشمل جميع ما يتديّن به
(1) المقاصد: 192 - 193.
(2)
التفسير الكبير: 12/ 120 - 121.
(3)
أنوار التنزيل: 538؛ حاشية الشهاب: 7/ 121.
(4)
سورة الروم، الآية:30.
(5)
سورة الروم، الآية:11.
المرء كما دل عليه الحديث: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم"(1). وبعد محاولته تفسير الآية بالحديث ذكر القاعدة الأصولية وهي أنه إذا ورد في القرآن كلامٌ خاصٌّ ثم تلاه لفظٌ يشمل ذلك الخاص وغيره لمناسبهِ أن ذلك اللفظ لا يختص لبعض مدلوله لأجل السياق (2).
(4)
وذهب بعض الفقهاء إلى أن السيف هو المقصود في آية القتل الموجبة للقود استناداً منهم إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "كل شيء خطأ إلا السيف"(3).
وفي الردّ عليهم يقول: وعندي أنه أخذ بالظنة التي كانت الغالبة على آلات القتل في الزمن الذي ورد فيه حكم القود وهو السيف. وما حصل هنا من الخطأ كان بسبب جعل الأصل في هذا الحكم اللفظَ أو الوصفَ دون المقصدِ. والتعمد في القتل في متعارف الناس ما يحصل به إزهاق الروح (4).
(5)
وذكر في قضايا عمل الأبدان أن تأجيل خدمة المغارسة جائز تحديده بقدر تبلغه الأشجار أو مدة الإثمار. وأن الذي عليه علماء المالكية القول بفساد المساقاة في الشجر الذى لا ينقطع إثماره في وقت من السنة كشجر الموز وكالقصب. وعقّب على هذه الصورة الأخيرة بقوله: وعندي أن تأجيل مدة المساقاة في الشجر المخلف للإثمار كالموز آجلاً يحصل فيه الانتفاع للعامل خير من إبطال
(1) مَ: 1/ 36 - 38.
(2)
التحرير والتنوير: 1/ 96، 98؛ المقاصد:178.
(3)
حديث النعمان بن بشير. حَم: 4/ 272؛ وبإسناد آخر 4/ 272؛ البيهقي: 8/ 42.
(4)
التحرير والتنوير: 5/ 163؛ سورة النساء، الآية: 93؛ المقاصد: 152.
المساقاة في مثله، لما علمت من المقصد الأول أن تكثير هذه المعاملات مقصود للشريعة (1).
وفي كل هذه الملاحظات والفتاوى اعتمد الشيخ رحمه الله على المقصد الشرعي وتحكيمه.
ومما كان يتطلع إليه الإمام التوصل بكتابه هذا، وبما وضعه له من منهج واضح، الاعتماد على بيان مقاصد شريعة الإسلام، حتى يبلغ الغاية السامية التي أشار إليها في مقدمة تأليفه بقوله: قصدت منه إلى إملاء مباحث جليلة من مقاصد الشريعة الإسلامية، والتمثيل لها والاحتجاج لإثباتها، لتكون نبراساً للمتفقهين في الدين، ومرجعاً بينهم عند اختلاف الأنظار وتبدل الأعصار، وتوسلاً إلى إقلال الاختلاف بين فقهاء الأمصار، ودربة لاتباعهم على الإنصاف، في ترجيح بعض الأقوال على بعض عند تطاير شرر الخلاف، حتى يستتبَّ بذلك ما أردناه غير مرّة من نبذ التعصّب، والفيئة إلى الحق، إذا كان القصد إغاثة المسلمين ببلالة تشريع مصالحهم الطارئة متى نزلت الحوادث واشتبكت النوازل، وبفصل من القول إذا شجرت حجج المذاهب (2).
* * * * *
(1) المقاصد: 499.
(2)
المقاصد: 5.