الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولبيان أوجه الاختلاف، ولكون القياس من العمل بالرأي يتعيّن علينا أن نقف قليلاً، تمهيداً وتفصيلاً لما ورد في الرأي من أقوال تجعل منه الباطل الذميم المردود، والصحيح المقبول المعتمد المحمود، والمشتبه فيه المحتاج إلى توقّف ومتابعة نظر وتدبّر.
العمل بالقياس:
عَمِلَ الرسول صلى الله عليه وسلم بالقياس. يدلّ على هذا ما روي عنه من حديث أبي ذرّ وغيره. فقد قال لمن سأله مستغرباً: أيقضي أحدنا شهوته ويؤجر! قال: "أرأيت لو وضعها في حرام أكان يأثم؟ " قال: نعم. قال: "فكذلك يؤجر. أفتجيزون بالشر ولا تجيزون بالخير"!. والحديث جزء من حديث: "ذهب أهل الدثور بالأجور". وهو من قياس العكس.
ومنه حديث القُبلة من الصائم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مجيباً عمر عن ذلك لما سأله: "أرأيت لو تمضمض ماء ومجّه وهو صائم". فقال عمر: لا بأس. قال: "فكذلك هذا".
ومثله حديث الخثعمية في الحج عن أبيها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرأيتِ لو كان على أبيك دين فقضيته، أكان ذلك ينفعه؟ ". قالت: نعم. قال: "فدَين الله أحق"(1).
وائتسى أكثر الفقهاء من عهد الصحابة إلى اليوم بما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وعملوا بالقياس فيما يصح فيه القياس من الأحكام، شرطَ استكمال الشروط. وأجمعوا على ذلك. قال المزني: يستعمل الفقهاء القياس في الفقه في جميع الأحكام من أمر
(1) الحجوي. الفكر السامي: (2) 1/ 75 - 78.
دينهم وأجمعوا أن نظير الحق حق، ونظير الباطل باطل. فلا يجوز لأحد إنكار القياس لأنه التشبيه بالأمور والتمثيل عليها. وأتى ابن عبد البر بالعديد من الأقيسة المجمع عليها (1).
والقياس من الدين، وهو حجة عند الثقات من العلماء. ورُتبته بعد الكتاب والسُّنة والإجماع. قال ابن عقيل الحنبلي: قد بلغ القياس التواتر المعنوي عند الصحابة. وهو يفيد القطع. ففي زمنه صلى الله عليه وسلم تقرّر القياس وأصولُه مع قوادحه (2).
وقالت طائفة: إن القياس من الرأي، تريد المنع منه والصرف عنه، لما رواه أبو هريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قوله:"تعمل هذه الأمة برهة بكتاب الله، ثم تعمل برهة بسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تعمل بعد ذلك بالرأي، فإذا عملوا بالرأي ضلّوا".
وقال عمر بن الخطاب: أصبح أهل الرأي أعداء للسنن، أعيتهم الأحاديث أن يعوها، وتفلتت منهم أن يرووها، فاشتقوا الرأي (3).
وفصّل القول في هذا جمهور العلماء فجعلوا الرأي ثلاثة أقسام: رأي باطل بلا ريب، ورأي صحيح، ورأي هو موضع الاشتباه. وقد استعمل السلف الرأي الصحيح، فآمنوا به، وسوغوا القول به، وذمّوا الباطل ومنعوا من العمل به في الفتيا والقضاء، وأطلقوا ألسنتهم بذمه وذم أهله.
والقسم الثالث جوزوا العمل به عند الاضطرار إليه، حيث لا
(1) ابن عبد البر. جامع بيان العلم وفضله: 872/ ف 1648.
(2)
الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي: (2) 4/ 359.
(3)
ابن عبد البر. الجامع: 1040/ ف 1999.
يوجد منه بد. ولم يلزموا أحداً العمل به ولم يحرّموا مخالفته
…
وإنما خيّروا بين قبوله وردّه. ولعل هذا الرأي يستند إلى قول الشافعي فيما رواه الإمام أحمد عنه، وقد سأله عن القياس، فقال: عند الضرورة (1).
ولخّص ابن عبد البر، ما يكون به الجمع بين المقالين، بقوله: الرأي المذموم المذكور في الآثار، عن النبي وعن الصحابة والتابعين، هو القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون، والاشتغالُ بحفظ المعضلات والأغلوطات، وردُّ الفروع والنوازل بعضها على بعض قياساً، دون ردّها إلى أصولها، والنظر في عللها واعتبارها. فاستعمل فيها الرأي قبل أن تُنزَّل، وفُرَّغت وشُقّقت قبل أن تقع، وتُكلم فيها قبلَ أن تكون بالرأي المضارع للظن. وقالوا: ففي الاشتغال بهذا والاستغراق فيه تعطيل للسنن، وبعث على جهلها، وترك الوقوف على ما يلزم الوقوف عليه منها ومن كتاب الله عز وجل ومعانيه (2).
ويقال: إن الشافعي وأحمد اشترطا في القياس شروطاً، وحذّرا من التعبّدية. فالشافعي يقول: لا يقيس إلا مَن جمع الأدلة التي له أن يقيس بها. وهي العلم بكتاب الله: فرضِه وأدبِه، ناسخِه ومنسوخِه، عامِه وخاصِه وإرشادِه. ويستدل على ما احتمل التأويل منه بسُنن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا لم يجد سُنة فبإجماع المسلمين، فإن لم يكن إجماع فبالقياس.
وموقف الإمام أحمد في الأخذ بالقياس يؤخذ من قوله في
(1) المسودة: 367.
(2)
ابن عبد البر. الجامع: 1054/ ف 2035.
توجيهه للفقهاء في عصره: يجتنبُ المتكلم في الفقه هذين الأصلين: المجمل والقياس، كان في الأثر ما يغني عن القياس. ومما يدل على خوفه من وقوع أكثر الناس في المحاذير تمسُّكُه الشديد المعروفُ بالآثار. وهو ما ينطق به مسنده. وذكر ابن قدامة أقوال الإمام مؤكداً أن ذلك لا يدل على رفضه القياس إطلاقاً (1).
ولم تثر هذه المقالة ونحوُها إلا اهتماماً زائداً بالفتوى والقضاء. ويفسر هذا قولُ صاحب جامع العلم وفضله: إن الاجتهاد لا يكون إلا على أصول يضاف إليها التحليل والتحريم، وإنه لا يجتهد إلا عالم بها. فمن أشكل عليه شيءٌ لزمه الوقوف، ولم يجز له أن يحيل على الله قولاً في دينه لا نظير له من أصل، ولا هو في معنى أصل. وهو الذي لا خلاف فيه بين أئمة الأمصار قديماً وحديثاً فتدبّره (2).
وما من شك في كون المعتدِّ به من الأقيسة ما قاسه النبي صلى الله عليه وسلم وتبعه عليه الصحابة، وما كانت عليه الجمهرة من المسلمين الذين أخذوا بالشروط المتقدمة المفصّلة للقياس. ولعل هذا النوع هو الذي وصفه الزهريّ بقوله: نعم وزير العلم الرأيُ الحسن. والفيصل في هذا قول مالك رحمه الله: "إنْ نَظُنُّ إلا ظنّاً وما نحن بمستيقنين". وقوله: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب. فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسُّنة فخذوا به، وكل ما لم يوافق الكتاب والسُّنة فاتركوه"(3).
ولم يساند مقالَة الظاهرية عامةُ الفقهاء لا من حيث الشكل والطريق، ولا من حيث ما يترتّب عليها من آثار لا تصحّ عندنا.
(1) ابن قدامة. روضة الناظر مع شرحه نزهة المخاطر: 2/ 234.
(2)
ابن عبد البر: الجامع: (1) 2/ 57.
(3)
ابن عبد البر. الجامع: 2/ 32، 33.