الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويطلق الوجوب والغرض - السابق ذكرهما - وهما معدومان. فإن أرادوا معنى آخر فليفسروه أولاً، ثم ليذكروا علّته، فعسانا ألا ننكره عليهم .. وأردف الكمال ابن الهمام قائلاً:"واعلم أنهم (أي المعتزلة) يريدون بالواجب الفعل الذي يثبت بتركه نقص في نظر العقل. وثبوت النقص بسبب ترك مقتضى الداعي إلى ذلك الفعل، وهو كمال القدرة والغنى المطلق مع انتهاء الصارف عن ذلك الفعل. فتركه المراعاةَ المذكورة مع ذلك بُخل، يجب تنزيه الله عنه"(1). وأضافوا في الاحتجاج على دعواهم، وعلى وجوب الأصلح عليه سبحانه قولهم:"إن الله تعالى كلَّف عبده بأنواع التكاليف. فهو إمّا أن يكون قد كلفه لا لغرض البتة، وهو باطل .. ، وإمّا كلفه لغرض. وبنفي قولهم يلزم من عدم الغرض المفيت، أو تحققاً أنه لنفع قوم كالمؤمنين، وضرر لقوم كالكافرين، فإن سُلَّم أنه لغرض، فليس يلزم أن يكون على سبيل الوجوب والحتم، بل تفضلاً على الأبرار وعدلاً بالنسبة إلى الفجار"(2).
الأصوليون والتعليل:
وقال الحسني حول هذه الطريق الموصّلة بالأقيسة إلى معرفة الأحكام الشرعية: والتعليل هو الأساس للتفكير التشريعي، إذ هو في الحقيقة استجلاء لمراد الشارع من الحكم، وطريق كاشف عن طابع معقولية الأحكام من قبل أن الله ذكر السبب الموجب للحكم (3).
وإنه لمن الضروري أن ننبّه إلى أن الأصوليين رغم اتفاق جمهورهم على التعليل لم يسيروا في ذلك على وجه واحد، بل انقسموا في ذلك إلى فئات أربعة:
(1) المسامرة: 160.
(2)
المسامرة: 163.
(3)
الحسني. نظرية المقاصد: 308.
الأولى: تقول بما قال به إمامها، وهو الشافعي، بأن الأصل أن يبقى عدم التعليل حتى يقوم الدليل على خلافه.
الثانية: هي التي ترى التعليل جائزاً بكل وصف صالح لإضافة الحكم إليه، حتى يوجد مانع من البعض.
الثالثة: ذهبت إلى أن الأصل التعليل بالوصف. ولا يتم هذا إلا بوجود دليل يميّز الصالح من الأوصاف للتعليل عن غير الصالح منها.
الرابعة: هي القائلة بأن الأصل في النصوص هو التعبد دون التعليل (1).
وفي ردّ ابن عاشور على مقالة الأشعري تولّى الإمام الأكبر من جهته تلخيصَ مقالة الأشعري بالوجه الذي أورده الفخر في تفسيره. وعلّق عليها بقوله: الحاصل أن الدليل الذي استدلوا به يشتمل على مقدمتين سفسطائيتين:
أولاهما قولهم: إنه لو كان الفعل لغرض للزم أن يكون الفاعل مستكملاً به. وهذه سفسطة شُبِّهَ فيها الغرض النافع للفاعل بالغرض بمعنى الداعي إلى الفعل، والراجع إلى ما يناسبه من الكمال، لا توقف كماله عليه.
ثانيتهما قولهم: إذا كان الفعل لغرض كان الغرض سبباً يقتضي عجز الفاعل. وهذا شُبِّه فيه السببُ الذي هو بمعنى الباعث بالسبب الذي يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العلم. وكلاهما يطلق عليه سبب (2).
(1) التلويح على التوضيح: 375؛ الموسوعة الفقهية: 12/ 319.
(2)
التحرير والتنوير: 1/ 378 - 380.
وأردف ابن عاشور بعد تقرير مذهبه في القول بالتعليل بأن تعليل الأحكام ضرورة خاصة في المعاملات. وبعد أن كان اختيار الفقهاء هو الاقتصار في الاستدلال على ألفاظ الكتاب والسُّنة وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم وسكوته والإجماع، انتبهوا إلى أن مِن تلك الأحكام ما هو كلّي كقوله تعالى:{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1)، وقوله صلى الله عليه وسلم:"لا ضرر ولا ضرار"، ومنها ما هو جزئي كقوله صلى الله عليه وسلم:"أمسك يا زبير".
وللتوصّل إلى مختلف الأحكام بأنواعها يذكر الشيخ طرائق الفقهاء في انتزاع الفروع؛ فهو إما يكون بطريق تحقيق المناط فتكون الأحكام المستنبطة كلّية، وإمّا بطريق القياس فتكون الأحكام جزئية على تفاوت بين الملحقات بسبب ظهور الأوصاف التي بها الشبه، وبسبب خفائها لتفاوت مسالك العلّة من جانب آخر. وبهذا تظهر المعلّلة والتعبّدية. فالأولى هي ما كثر الحديث فيها والتفصيل لها في كتب الأصول والفقه، والثانية هي ما ثبت عن الشارع موقَناً به، ولا يقف المجتهد على مراد الشارع منه لخفائه (2).
يرى الشيخ ابن عاشور في قضية التعليل أنها تُحدّد بذكر مدى حصولها في مختلف الأحكام العبادية وأحكام المعاملات. والأصل المتعارف عليه بين فقهاء المذاهب هو اعتبار العبادات قائمة على التعبّد، وهو غيرُ معقولية المعنى. ثبت هذا بالاستقراء. فمن يتتبع الأحكام الشرعية الدينية في العبادات مثل الوضوء والصلاة والصوم والزكاة والحج، في أوصافها وكيفياتها وشروطها وأوقاتها يعلم أنها لا تُدرك مناسباتها ولا تُعرف الدواعي إليها إلا على وجه الإجمال.
(1) سورة المائدة، الآية:1.
(2)
المقاصد: 148 - 149.
وبخلاف ذلك نجد أحكام المعاملات معلّلة، يدل على هذا الاستقراء، وإثبات العلل والمصالح اعتباراً وإلغاءً.
وقد لا يكون بعضها معلّلاً. يشهد لهذا ما رواه البخاري عن أبي الزناد أنه قال: "إن السنن ووجوهَ الحقّ لتأتي كثيراً على خلاف الرأي فما يجد المسلمون بُدّاً من اتباعها. من ذلك أن الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة". وفي الموطأ أن عمر بن الخطاب قال: "عجباً للعمة تُورَثُ ولا ترث"(1).
وقد يظهر التعليل في بعض مسائل العبادات. كما يظهر التعبّد في بعض المعاملات. وهذا مبني على توسع النظر فيهما. قال الجويني:
"ومما لا يلوح فيه للمستنبِط معنى أصلاً ولا مقتضى من ضرورة أو حاجة أو استحثاث على مكرمة يكون تصويره فيها، فإنه إن امتنع عن استنباط معنى جزئي فلا يمتنع تخيّله كلياً. ومثل هذا القسم العبادات البدنية المحضة"(2).
وذهب المقَّرِي في قواعده إلى عكس ما ذكره إمام الحرمين المبالغِ فيما ذهب إليه. فاستنباط علل الأحكام وضبط أماراتها لا ينبغي فيما كان سبيله التنقير عن الحكم لا سيما فيما ظاهره التعبّد، إذ لا يؤمن ما فيه من ارتكاب الخطر والوقوع في الخطأ. وحسب الفقيه من ذلك ما كان منصوصاً، وظاهراً أو قريباً من الظهور (3).
أما صاحب المقاصد فكان يجنح إلى التعليل كما تسنّى له ذلك.
(1) المقاصد: 150 تع 2.
(2)
البرهان: 2/ 926، ف 905.
(3)
المقري. القواعد: 2/ 406 - 407.