الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبعد استعراض مختلف الآراء، وما حصل من بعض الأئمة من التوسع يقول الإمام: وقد تفاوت المجتهدون في إثبات هذا النوع الأخير (التعبّدي)، وأوشكوا بعد خوضهم في التعليل والقياس إلى اعتبار أحكام الشريعة ثلاثة:
° قسم معلّل لا محالة: وهو ما كانت علّته منصوصة أو مُومَأً إليها أو نحو ذلك.
° وقسم تعبّدي محض: وهو ما لا يُهتدى إلى حكمته.
° وقسم متوسط بين القسمين: وهو ما كانت علّته خفية، واستنبط له الفقهاء علّة (1).
العول:
ومما دخله التعليل في زمن عمر مسألة العول في الميراث، رغم أن مقادير الفرائض مثبتة بنصّ القرآن، متلقاة عند الأمة تلقي التعبّدي من الأحكام. تدل على ذلك صورة التركة التالية: هلكت امرأة وتركت زوجها وأمها وأختها. قال العباس أو عليُّ بن أبي طالب: أرأيتَ لو أن رجلاً مات، وعليه لرجالٍ سبعةُ دنانير ولم يخلف إلا ستة دنانير، أليس يجعل المال سبعة أجزاء ويدخل النقص على جميعهم؟!. فصوَّبَهُ عمر ومن حضر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الإمام: فها هنا نراهم قد احتفظوا على معنى التعبّد في أصل إعطاء الجميع على نسبة واحدة، وفي عدم إهمال البعض من الورثة، ولكنهم لم يحتفظوا على معنى التعبّد في المقادير لتعذّر ذلك. فأدخلوا التعليل في هذا المكان خاصة.
(1) المقاصد: 150.
وكان عبد الله بن عباس يرى خلاف ذلك. قال: النقص يدخل على الأخت من مقدار فرضها؛ لأنها أضعف من الزوج، ومن الأم لأنها قد تنتقل من أن تكون ذات فرض إلى أن تكون من العصبة أي مع البنات. فأبى ابن عباس من إدخال التعليل، ومن نقص فرضي الأم والزوج، وجعلَ الأخت تأخذ البقية بطريقة أن المال قد نفد. فلم يُعمِل التعليلَ هنا، ولكنه أعمل شيئاً من الترجيح بالتنظير (1).
ويقرر الشيخ ابن عاشور بعد هذا: أن الواجب على الفقيه عند تحقّق كون الحكم تعبّدياً أن يحافظ على صورته فلا يزيد من تعبّديتها، ولا يُضيع ما بها من أصل التعبّدية.
أما في المعاملات فهو - كما قدمنا - يوصي أئمة الفقه بأن لا يساعدوا على وجود الأحكام التعبّدية في تشريع المعاملات، وأن يوقنوا بأن ما ادُّعِي التعبّد فيه منها، إنما هو أحكام قد خَفِيت عللُها أو دقّت. وبناء على هذا فهو يدعو إلى رفع العنت عن الأمة قائلاً: إن كثيراً من أحكام المعاملات التي تلقّاها بعض الأئمة تلقَّي الأحكام التعبّدية قد عانى المسلمون من جرّائها متاعبَ جمة في معاملاتهم. وللخروج من هذا المأزق نجده يدعو إلى الاجتهاد في الأمر، بإجادة النظر في الآثار التي تتراءى منها أحكامٌ خفيت عللها ومقاصدها، ويمحص أمرَها. فإن لم يجد لها محملاً من المقصد الشرعي نظر في مختلف الروايات .. كما أن عليه أن ينظر إلى الأحوال العامة في الأمة، التي وردت تلك الآثار عند وجودها (2).
وإن مَن يعوزه ذلك يحقّ عليه أن يدعو نظراءه للمفاوضة في ذلك مشافهة ومراسلة .. ولا يجوز لهم عند العوز تجاوز المقدار
(1) المقاصد: 154 - 155.
(2)
المقاصد: 153 - 156.
المأثور عن الشارع في ذلك الحكم، ولا يفرّعوا على صورته، ولا يقيسوا، فلا ينتزعوا منه وصفاً ولا ضابطاً
…
وإذا جاز أن نثبت أحكاماً تعبدية لا علّة لها ولا يطلع على علّتها، فإنما ذلك في غير أبواب المعاملات المالية والجنائية. فأما هذان فلا أرى أن يكون فيها تعبّدي، وعلى الفقيه استنباط العلل فيها (1).
واعتقادي كما نبّه إلى ذلك الشاطبي: أن الحرص على التعليل في المعاملات يدل عليه الاستقراء من الشريعة لأنها وُضعت لمصلحة العباد. فالتعاليل التفاصيل في الأحكام في الكتاب والسنة أكثر من أن يُحصى. وإذا دلّ الاستقراء على هذا، وكان في مثل هذه القضية مفيداً للعلم؛ فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة (2).
وجرى الإمام الأكبر على هذا النحو مع إضافة ملاحظة صغيرة. هي قوله: شريعة الإسلام جاءت لما فيه صلاح البشر في العاجل والآجل، أي في حاضر الأمور وعواقبها. وليس المراد بالآجل عنده أمور الآخرة؛ لأن الشرائع لا تحدِّدُ للناس سَيرهم في الآخرة، ولكن الآخرة جعلها الله جزاء على الأحوال التي كانوا عليها في الدنيا (3). وفي هذا التفسير تنبيه على ما يترتب على التصرّفات من نتائج آنية فورية أو ما يعقبها، تكون صالحة أو فاسدة بحسب ما يترتب على مقدماتها.
وإذا تقرر هذا، وأن الغالب في العادات الالتفات إلى المعاني. فإذا وجد فيها التعبد فلا بد من التسليم والوقوف مع النصوص. فإن
(1) المقاصد: 159.
(2)
الموافقات: (3) 2/ 6 - 7.
(3)
المقاصد: 36.
قَدراً من المعاملات كطلب الصداق في النكاح، والذبح في المحلّ المخصوص في الحيوان المأكول، والفروض المقدرة في المواريث، وعدد الأشهر في العِدد الطلاقية والوفاوية يبقى محل اختلاف، وما أشبه ذلك من الأمور التي لا مجال للعقول في فهم مصالحها الجزئية، حتى لا يقاس عليها غيرها (1).
فأبو إسحاق الشاطبي يرى لزوم اعتبار التعبّدية فيها وفي نظائرها، ويقول: إن العلّة المطلوبة هي مجرّد الانقياد من غير زيادة ولا نقصان (2). وصاحب المقاصد يخالف بالطبع هذا الاتجاه بسبب ما قررناه من حرصه الكبير على تعليل الأحكام كما أمكن ذلك.
واستدلَّ الشاطبي على رأيه هذا في مثل تلك الأحكام بقوله:
1 -
إن السيد إذا أمر عبده لأجل مصلحة هي علّة الأمر بالفعل، يلزمه عقلاً الامتثال من حيث مجرد الأمر؛ لأن مخالفته قبيحة، ومن جهة اعتبار المصلحة أيضاً، فإن تحصيلها واجبٌ عقلاً بالفرض.
2 -
عدم القطع بمعقولية المعنى مستقلاً يقتضي اعتبارَ التعبّد في الحكم (3).
3 -
حصول التعبّد بمعنى الامتثال والخضوع في تعليلات هذه الأحكام. من ذلك ما إذا سُئل الحاكم: لِم لا تحكم بين الناس وأنت غضبان؟ فقال: إني نهيت عن ذلك، أو بأن الغضب يشوش
(1) الموافقات: (3) 2/ 307 - 308؛ المحلى شرح جمع الجوامع: 2/ 206؛ الموسوعة الفقهية: 12/ 209.
(2)
الموافقات: (3) 2/ 308.
(3)
الموافقات: (3) 2/ 311 - 313.