الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
10 - شبهة: كيد المرأة
.
نص الشبهة:
يدعي البعض بأن الإسلام يصف كيد الشيطان بأنه ضعيف، ويصف كيد المرأة بأنه عظيم، الذين نظروا للمرأة على أنها أسوأ من الشيطان نفسه وأكثر شرًّا ودعوة إلى الفساد والإفساد، واستدلوا على ذلك بأن اللَّه قال عن كيد الشيطان إنه ضعيف، وعن كيد المرأة إنه عظيم.
والجواب على ذلك من هذا الوجه
الوجه الأول: الفهم الصحيح لآيات الكيد
.
الواقع أن السياقين مختلفان: فالآية الأولى هي قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} (النساء: 76).
أما علة هذا الضعف فترجع إلى أن اللَّه تعالى يكيد لأوليائه، أي: يدبر لهم أمورهم ويهيئ لهم خيرها، ويكيد أعداءه -وأولهم الشيطان- فيبطل كيدهم ومكرهم وعملهم، كما قال تعالى:{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)} (الطارق: 15، 16). وقال: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} (يوسف: 76). فإذا قورن كيد اللَّه بكيد الشيطان المخذول الذي ليس له سلطان على الذين آمنوا - ثبت ضعف كيده وهوانه.
أما الآية الثانية: فسياقها وموضوعها مختلف، إذ إنها تصور موقف هروب يوسف عليه السلام من فتنة امرأة العزيز، وهي تطلبه؛ ليرجع ويفعل ما تأمره به، فإذا بهما أمام زوجها لدى الباب، فلم ترتبك ولم تتلجلج في هذا الموقف العصيب، بل على الفور قلبت الحقيقة وارتدت ثوب المرأة الفاضلة حين تشكو من يحاول إغراءها، فالكيد العظيم هنا هو سرعة الانتقال النفسي -في لحظة واحدة- من موقف من تطارد الرجل لموقف العفيفة المتأبية على الفتنة، وانتقال مشاعر بعض النساء من النقيض إلى النقيض في لمحة واحدة كان مما يستوقف الرجال ويثير عجبهم، يقول تعالى: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ
كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)} (يوسف: 28، 29). فالموقف مختلف، وسياق الكلام فيه مختلف، ونوع الكيد مختلف، فلا يصح مقارنة الكيد هنا بالكيد هناك؛ لأنه إنما يعني هنا براعة انتقال المرأة وسرعتها بين المشاعر المختلفة، مما قد لا يستطيعه الرجل، ومن هنا جاءت عظمة الكيد، أما هناك فهو في مقابل كيد اللَّه -تعالى- لأولياوئه، ولا شيء من فعل المخلوقات إلا وهو ضعيف حقير في جنب اللَّه -تعالى- لأنَّ كيده تعالى متين كما قال:{وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)} (الأعراف: 183).
يقول العقاد: جاء وصف الشتاء بالكيد في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم، مرتين على لسان يوسف عليه السلام، ومرة على لسان العزيز، قال تعالى:{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)} (يوسف: 33)، {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)} (يوسف: 50)، {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)} (يوسف: 28).
والكيد صفة مذكورة في مواضع كثيرة من القرآن، بعضها منسوب إلى الإنسان، وبعضها منسوب إلى الشيطان، ومن الرجال الذين نسبت إليهم صالحون مؤمنون، ومنهم كفرة مفسدون، بل وردت وصفًا للَّه مع المقابلة بين الكيد الإلهي وكيد المخلوقات، وبغير مقابلة في آيات.
ويدخل في الكيد صفات كثيرة تمدح وتذم، وتطلب وتمنع، تشترك كلها في معاني التدبير والمعالجة والحيلة، وقد يجمع الحميد والذميم منها قولهم:"الحرب مكيدة" لأنها تدبير ومعالجة وحيلة تتطلبها مواقف القتال، وقد تذم أحيانًا في هذِه المواقف، كما تذم في سواها.
وقد جاء وصف الكيد في سورة يوسف نفسها منسوبًا إلى أخوة يوسف، إذ جاء فيها على لسان يعقوب عليه السلام:{قَالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)} (يوسف: 5).
وجاء منسوبًا إلى اللَّه جل جلاله بمعنى التدبير: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)} (يوسف: 76).
أما الكيد الذي وصفت به امرأة العزيز وصاحباتها، فهو كيد يعهد في المرأة ولا ينسب إلى غيرها، أو هو كيدهن الذي يتسمن به ويصدر عن خلائقهن وطبائعهن، كما يفهم من الإضافة المتكررة في الآيات الثلاث، ويدل عليه عمل امرأة العزيز فيما غشَّت به زوجها، واحتالت له من مراودة غلامها عن نفسه، ثم من اتهامه بمراودتها وتنصلها من فعلها، وكلها أعمال تتلخص في "الرياء" أو في إظهار غير ما تبطنه، واحتيالها للدس والإخفاء. (1)
والرياء صفة عامة تشاهد في كثير من المستضعفين من الرجال والنساء، وأسبابه الاجتماعية تحدث لكل ضعيف يقهره غيره، فلا يخص المرأة دون الرجل، ولا ينحصر بين فئة من الناس دون فئة، وقد يحدث للحيوان الضعيف ويلجئه إلى المراوغة والملق، وهو لا يتكلف لذلك كما يتكلف الإنسان الذي يفكر فيما يعمل وفيما يقصد إليه.
وينسب رياء المرأة إلى الضرورات التي فرضها عليها في حياتها الاجتماعية أو حياتها البيتية، وقد يظهر فيها على نحو يناسبها حتى يتلبَّس بالبواعث الأنثوية المقصورة عليها، فلا تختص به في أصوله، إذ كانت أصوله من الضعف الذي يشاركها فيه جميع الضعفاء، وإنَّما تختص به؛ لأن بواعثها الأنثوية مقصورة على جنسها.
(1) المرأة في القرآن صـ 13 - 16.
إلا أن "الرياء" الأنثوي الذي يصح أن يقال فيه: إنه رياء المرأة خاصة إنما يرجع إلى طبيعة في الأنوثة تلزمها في كل مجتمع، ولا تفرضه عليها الآداب والشرائع، ولا يفارقها باختيارها أو بغير اختيارها، بل لعلها هي تأبى أن يفارقها لو وكل إليها الاختيار فيه.
فمن أصول هذا الرياء في تكوين الأنثى أنها مجبولة على التناقض بين شعورها بغريزة حب البقاء، وشعورها بغريزتها النوعية، فهي تتعرض للخطر على الحياة وتفوح بوفاء أنوثتها في وقت واحد، وهي إذ تضع حملها تتألم أشد الألم، وتعاني جزع الخشية على حياتها حين تخامرها وتسري في كيانها غبطة الأم التي أتمت وجودها، وتوجت حياتها الجنسية بأعز ما تصبو إليه وتتمناه، ويستوي كيانها كله على أن تفرح وهي تتألم، وتتألم وهي تفرح، فلا يستقيم شعورها خالصا من النقيضين في أعمق وظائفها التي خلقت لها، ومثل هذا التناقض يلازم عواطفها جميعًا فيما هو دون ذلك من نزعتها وأهوائها.
ومن أصول هذا الرياء في تكوينها، أنها مجبولة كذلك على التناقض بين شعورها بالشخصية الفردية، وشعورها بالحب والعلاقة الزوجية، فهي كجميع المخلوقات الحية ذات وجود شخصي مستقل تحرص عليه، وتأبى أن تلغيه أو تتخلى عن ملامحه ومعالم كيانه وهي في حوزتها الشخصية مدفوعة إلى صدِّ كل الفتيات ينذرها بالفناء في شخصية أخرى، ولكنها في أشد حالات الوحدة لا تتوق إلى شيء، كما تتوق إلى الظفر بالرجل الذي يغلبها بقوَّته، ويستحق منها أن تأوي إليه، وتلحق وجودها بوجوده، وأسعد ما تكون في حبها أو في علاقتها الزوجية، إذ يملكها الرجل الذي يفوقها بالقدرة المطاعة، والعزيمة النافذة، ونتيجة المقاومة عندها أن تجمع بين الانتصار والخذلان في لحظة واحدة، فهي منتصرة حين تظفر بالرجل الذي يغلبها ويستولي عليها.
وشبيه بهذا التناقض مع اختلاف أسبابه، أن الرغبة الجنسية عندها تنفصل عن الغريزة النوعية في معظم أيامها، فليست الرغبة الجنسية -بحكم الطبيعة- عبثًا في وقت من الأوقات عند الرجل، ولكنها عبث عند المرأة في أوقات حملها، وفي غير أوقات الحمل
من أيام دوراتها الشهرية، وقد عوفيت أنثى الحيوان من هذا العبث؛ لأنها إذا حملت صدت عن الذكر وصد الذكر عنها، ولكن المرأة التي تحس أنها عابثة في أحق الوظائف النوعية بالجد والمبالاة، يختلط عندها العبث بالجد، والسرور العقيم بالوظيفة الطبيعية، وقد تقضي بعد من اليأس زمنًا يحكمها فيه هذا العبث الذي لا نظير له في حياة الرجولة.
وحب الزينة أصل من أصول الرياء يشاركها فيه الرجل في ظاهر الأمر، ولكنه يخصها في جانب غير مشترك بينها وبين زينة الرجولة، فإن الرجل يتزين ليعزز إرادته، وإنما تتزين المرأة لتعزز إرادة غيرها في طلبها، وزينة المرأة كافية إذا راقت بمنظرها الظاهر في عين الرجل، ولكن زينة الرجل تجاوز ظاهره إلى الدلالة على قوته ومكانته وكفايته لمؤنة أهله، وليست الزينة التي تراد للإغراء بالقبول كالزينة التي تراد للإغراء بالطلب، فإن الفرق بينهما هو الفرق بين الإرادة والانقياد، وبين من يريد ومن ينتظر أن يُراد.
وجملة القول أن الرياء على عمومه هو إظهار غير ما في الباطن، وهو حالة تعرض للرجال والنساء في الحياة الجنسية وغير الحياة الجنسية، ولكن الأنوثة تختص بلون منه؛ لأنها إذا لجأت إليه فإنما تلجأ إليه اضطرارًا؛ لأن من خلقها ألا تظهر كل ما في نفسها، وإن كان من الأمور الطبيعية التي لا إثم فيها، ولا مخالفة بها لوظيفتها.