الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النبي صلى الله عليه وسلم لم يصله، وهذا ما عليه الصحابة أجمعون، وقد دلت آيات كثيرة على مثل هذا، قال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} (النساء: 59)، وقال {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء: 65).
ومما احتجوا به في هذه الشبهة كلام بعض أهل العلم في هذه المسألة
.
فاحتجوا بما ذكره النووي عن الشافعية فقال: قال أصحابنا: ولو غيب الحشفة في دبر أمرأة، أو دبر رجل، أو فرج بهيمة أو دبرها، وجب الغسل سواء كان المولج فيه حيًا، أو ميتًا، صغيرًا، أو كبيرًا، وسواء كان ذلك عن قصد أم نسيان، وسواء كان مختارًا أو مكرهًا. . . إلخ. (1)
والجواب على ذلك:
أولًا: هذا كلام ذكره الإمام النووي يبين فيه حكمًا فقهيًا لمن وقع في هذا الأمر، وليست له علاقة بإباحة وطء الدبر، وهذا واضح من خلال عرضه لهذه المسألة، ولذلك ذكرها في الأبواب الفقهية فذكر حكمًا شرعيًا افتراضيًا ليس إلا، ويؤكد هذا كلام النووي نفسه عن هذه المسألة من الناحية الشرعية من ناحية الحل والحرم.
فقد قال: قال أصحابنا: لا يحل الوطء في الدبر في شيء من الآدميين ولا غيرهم من الحيوان في حال من الأحوال. (2)
وقال أيضًا: فقد استدل الجمهور بهذه الأحاديث التي تقرب من درجة التواتر على تحريم إتيان المرأة في دبرها. (3)
قلت: سلمنا جدلًا أن الإمام النووي أو أحدًا من أهل العلم أفتى بجواز الوطء في الدبر السؤال: هل تعتمد على فتواه؟ الجواب: لا؛ لأنه ليس معصومًا من الخطأ، وليس
(1) شرح مسلم (2/ 276).
(2)
شرح مسلم (5/ 260).
(3)
المجموع (16/ 420).
هناك معصوم إلا الأنبياء والمرسلين فإذا اجتهد وأخطأ فله أجر على اجتهاده، ولا تعتمد فتواه لأمر وهو أنه خالف الدليل، والأصل عندنا الأدلة من القرآن أو السنة بفهم سلف الأمة، ولذلك قال الإمام مالك: كل يأخذ منه ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم. (1)
ومن هنا نقول فالاحتجاج بمثل هذا باطل، وهذا ينطبق أيضًا على ما ورد، وفي صحة وروده خلاف بين أهل العلم عن الإمامين مالك والشافعي -رحمهما اللَّه- وسيتبين أيضًا أنه قد ورد عنهم خلاف ذلك أي، بحرمة وطء المرأة في الدبر، أو رجعوا عن قولهم بالإباحة إلى المحرمة بعد ورود الدليل إليهم. أما الإمام مالك رحمه اللَّه تعالى فله في المسألة قولان ذكرهما ابن العربي (2)، والقرطبي (3).
هذا، وقد ذكر ابن الحاج القول الثاني للإمام مالك. قال: عن عبد الرحمن بن القاسم أن شرطي المدينة دخل على مالك بن أنس رحمه اللَّه تعالى فسأله عن رجل رفع إليه أنه أتى امرأته في دبرها! فقال مالك: أرى أن توجعه ضربًا؛ فإن عاد إلى ذلك ففرق بينهما. (4)
وقال ابن حجر: وروى الخطيب في "الرواة عن مالك" من طريق اسرائيل بن روح قال: سألت مالكًا عن ذلك فقال: ما أنتم قوم عرب! هل يكون الحرث إلا موضع الزرع؟ قال الحافظ: وعلى هذه القصة اعتمد المتأخرون عن المالكية، فلعل مالكًا رجع عن قوله الأول. (5)، والذي يترجح القول بالرجوع إلى القول التحريم (6).
(1) ورد هذا المعنى عند أئمة أصحاب المذاهب الأربعة أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وانظر: أقوالهم في هذه المسألة كما في "إعلام الموقعين" لابن القيم في الجزء الثاني في مواطن متفرقة، وقد جمع هذا الشيخ الألباني في مقدمة كتابه "صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم" فلتراجع فهي مهمة.
(2)
أحكام القرآن (1/ 174).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (3/ 96).
(4)
المدخل لابن الحاج (2/ 194).
(5)
الفتح (8/ 38، 39).
(6)
المدخل لابن الحاج (2/ 194).
وأيضًا ما ورد عن الشافعي كما قال ابن القيم: فإن قيل فما تقولون فيما نقله محمد ابن عبد اللَّه بن عبد الحكم أنه سمع الشافعي يقول: ليس فيه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في التحريم والتحليل حديث ثابت، والقياس أنه حلال؟ (1).
قال ابن القيم: فلعل الشافعي رحمه الله توقف فيه أولًا، ثم لما تبين له التحريم وثبوت الحديث فيه رجع إليه، وهو أولى بجلالته ومنصبه وإمامته من أن يناظر على مسألة يعتقد بطلانها، ثم يقول: والقياس حله، ويقول: وليس فيه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في التحريم والتحليل حديث ثابت على طريق الجدل! بل إن كان ابن عبد الحكم حفظ ذلك عن الشافعي فهو مما قد رجع عنه لما تبين له صريح التحريم. واللَّه أعلم.
والشافعي رحمه الله قد صرح في كتبه بالتحريم واحتج بحديث خزيمة الذي ذكرناه قبل ذلك كما في كتاب الأم فقال: أخبرنا عَمِّي محمد بن عَلِيِّ بن شَافِعٍ عن عبد اللَّه بن عَلِيِّ بن السَّائِبِ عن عَمْرِو بن أحيحة أو بن فُلَانِ بن أحيحة بن فُلَانٍ الْأَنْصَارِيِّ قال: قال محمد بن عَلِيٍّ، وكان ثِقَةً عن خُزَيْمَةَ بن ثَابِتٍ أَنَّ سَائِلًا سَأَل رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن إتْيَانِ النِّسَاءِ في أَدْبَارِهِنَّ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: حَلَالٌ، ثُمَّ دَعَاهُ أو أَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ فقال: كَيْفَ قُلْت؟ في أَيِّ الْخَرِبَتَيْنِ أو في أَيِّ الخْرَزَتَيْنِ أو في الْخَصْفَتَيْنِ أَمِنْ دُبْرِهَا في قُبُلِهَا فَنَعَمْ أَمْ من دُبْرِهَا في دُبْرِهَا فَلَا؛ إنَّ اللَّه لَا يَسْتَحْيِ من الْحَقِّ، لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ في أَدْبَارِهِنَّ" (2).
ثم قال الشافعي: قلت: عمي ثقة، وعبد اللَّه بن علي ثقة، وقد أخبرني محمد عن الأنصاري المحدث بها أنه أثنى عليه خيرًا وخزيمة ممن لا يشك علم في ثقته فلست أرخص فيه بل أنهى عنه (3)، أي أنهى عن إتيان النساء في أدبارهن.
قلت: وهذا هو الأولى أن يحفظ عن الشافعي لموافقته للأدلة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم اهـ.
(1) البيهقي في معرفة السنن والآثار (4453).
(2)
الحديث صحيح سبق تخريجه.
(3)
الأم للشافعي (5/ 173).
وختامًا نذكر كلام البدر العيني والشوكاني في هذا الخلاف وترجيحه.
قال البدر العيني: قال شيخنا في شرح الترمذي قد انعقد الإجماع آخرًا على تحريم إتيان المرأة في الدبر وإن كان فيه خلاف قديم قد انقطع، وكل من روي عنه إباحته فقد روي عنه إنكاره" (1).
قال الشوكاني: وليس في أقوال هؤلاء حجة البتة، ولا يجوز لأحد أن يعمل على أقوالهم؛ فإنهم لم يأتوا بدليل على الجواز. فمن زعم منهم أنه فهم ذلك من الآية فقد أخطأ في فهمه كائنًا من كان، ومن زعم منهم أن سبب نزول هذه الآية أن رجلًا أتى امرأته في دبرها فليس في هذا ما يدل على أن الآية أحلت ذلك، ومن زعم ذلك فقد أخطأ، بل الذي تدل عليه الآية أن ذلك حرام؛ فكون ذلك هو السبب لا يستلزم أن تكون الآية نازله في تحليله؛ فإن الآيات النازلات على أسباب تأتي تارة بتحليله هذا، وتارة بتحريمه". (2).
* * *
(1) البناية في شرط الهداية (5/ 40).
(2)
فتح القدير (1/ 339، 340).